المادة كاملة    
خليلا رب العزة والجلال هما: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وخلتهما ثابتة بالكتاب والسنة، وقد شرع الله الصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بكيفيات متنوعة زيادة في شرفه وتعظيماً لقدره، وفضَّّل بيت إبراهيم على بيوت العالم، وخصه بخصائص شريفة.
  1. محمد صلى الله عليه وسلم خليل الله وكليمه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم -صلوات الله عليه- قد شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى -صلوات الله عليه- قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء.
    وهنا سؤال مشهور وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟
    وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة يضيق هذا المكان عن بسطها، وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء -وفيهم إبراهيم- لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره.
    وأحسن من هذا: أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، وهو متناول لإبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ))[آل عمران:33]؛ فإبراهيم و عمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: ((إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ))[القمر:34]؛ فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ))[البقرة:49]. وقوله: ((أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))[غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون.
    ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم)، وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً، وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم.
    وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقته إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {اللهم صلِّ على آل أبي أوفى } ]
    اهـ.
    الشرح:
    1. مشاركة محمد صلى الله عليه وسلم لموسى في التكليم

      قال رحمه الله: "وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم -صلوات الله عليه-، قد شاركه فيه نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى -صلوات الله عليه-، قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم" يقصد المصنف أن الله -تبارك وتعالى- ذكر في القرآن أنه اتخذ إبراهيم خليلاً؛ قال الله تعالى: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] فهذه المنزلة (منزلة الخلة) ثابتة لإبراهيم عليه السلام، وأيضاً تكليم الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام ثابت في القرآن؛ قال تعالى : ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164]؛ لكن إبراهيم عليه السلام لا يختص بالخلة؛ فقد ذكرنا الأحاديث الدالة على أنه لم يختص بها؛ بل قد شاركه فيها محمد صلى الله عليه وسلم: {وإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً}.
      هل كلم الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، أم أن التكليم مختص بموسى عليه السلام؟
      يقول المصنف هنا: "وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم -صلوات الله عليه- قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى -صلوات الله عليه- قد شاركه فيه نبينا صلى الله عليه وسلم".
    2. الأدلة على مشاركة محمد لموسى في التكليم

      قد يعترض معترض على كلام المصنف السابق بقول الله تبارك وتعالى: ((قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي))[الأعراف:144] وذلك يدل على أن الله تعالى اصطفى موسى على الناس برسالاته وبكلامه، فيكون الكلام مختصاً به!
      وقد أجاب عن هذا الإشكال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية، فقال رحمه الله (2/256): "يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه".
      فموسى عليه السلام -كما هو واضح - قد أرسل الله تبارك وتعالى رسلاً من قبله ومن بعده، فلا اختصاص في الرسالة، وأما كلام الله لموسى عليه السلام فقد يظهر فيه الاختصاص، لكنه قد ثبت أن الله تعالى كلم محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ومن الأدلة على ذلك: ظواهر الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه ربه ليلة الإسراء، وهي أحاديث كثيرة متواترة، ولا سيما في مراجعته لربه عز وجل في موضوع الصلاة، فإنه كان يتردد بين ربه عز وجل وبين موسى حتى خففها من خمسين إلى خمس صلوات، وهو في كل مرة يرجع ما بين موسى عليه الصلاة والسلام إلى ربه عز وجل، حتى قضى الله تبارك وتعالى الأمر الذي لا نقض له ولا معقب لحكمه فيه، والظاهر من الأدلة أن الكلام كان بغير واسطة، وقد سبق عرضها بالتفصيل.
      ومما يستدل به أيضاً على ذلك أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يختلفوا في هذه المسألة، ولم تشكل عليهم كما أشكل عليهم موضوع الرؤية؛ فاختلفوا هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أولم يره؛ لكنهم لم يختلفوا في مسألة الكلام، وأن ربه تبارك وتعالى قد كلمه وخاطبه؛ فدل ذلك على أن هذا الأمر معلوم لديهم ولم يجر فيه إشكال بينهم.
      ولا ريب أن مقام الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من مقام التكليم والتجلي لموسى عليه الصلاة والسلام! ولهذا فإن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى حين ذكر الكلام السابق قال: "ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين؛ والذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع الأنبياء كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام" فبعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل يأتي أبوه إبراهيم عليه السلام الذي يُشبهه صلى الله عليه وسلم حتى في الخلقة؛ ولهذا قال في الحديث: {وأما إبراهيم فصاحبكم} أي: فانظروا إلى صاحبكم لتروا شبهه، فخلقته كخلقته صلى الله عليه وسلم، والثالث بعد إبراهيم عليه السلام في الفضل موسى صلوات الله وسلامه عليه، لما له من المنزلة والفضل العظيم، وسبق في حديث الإسراء أن موسى عليه الصلاة والسلام بكى لما رأى درجة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، فهؤلاء الثلاثة هم أفضل الخلق بهذا الترتيب.
  2. أجوبة العلماء على ما في الصلاة الإبراهيمية من إشكال

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله [وهنا سؤال مشهور، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟] وتوضيح ذلك: أن في لغة العرب مشبهاً ومشبهاً به، مثاله: زيد كالأسد في الشجاعة، فالمشبه زيد، والمشبه به هو الأسد، فتكون الشجاعة في الأسد أظهر في الأسد منها في زيد، كذلك إذا قلنا: فلان كالبحر في الجود، فالبحر ظاهر السعة.
    وهذا يدل على أن الصفة في المشبه به أظهر منها في المشبه.
    فيورد المصنف هذا الإشكال، وهو أن قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يقتضي أن إبراهيم عليه السلام -وهو المشبه به- أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم -وهو المشبه- وقد مرَّ أن أفضل خلق الله على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يجاب عن هذا الإشكال؟ والإجابة على ذلك من أوجه عديدة ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ونحن نذكر بعضها باختصار:
    القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، إذ كان يظن أن إبراهيم أفضل منه.
    والقول الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل التواضع، فإنه قد سئل من عدة من الصحابة: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فأجاب بهذا الجواب.
    يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقد وقفت في تعيين من باشر السؤال -يعني السؤال عن كيفية الصلاة- على جماعة، وهم: كعب بن عجرة، وبشير بن سعد -وهو والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما- وزيد بن خارجة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن بشير ".
    القول الثالث: أن التشبيه لأصل الصلاة، أي أن التشبيه للأصل بالأصل، لا للمقدار بالمقدار، وعلى ذلك قد يكون المقدار في المشبه به أقل، لكن المهم وقوع الأصل كما في قوله تعالى: ((وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ))[القصص:77] ومعلوم أن العبد مهما أحسن، حتى وإن عبد الله سبحانه وتعالى بدرجة الإحسان، فإن ذلك لا يكافئ نعم الله وإحسانه إليه؛ فالتشبيه في الآية لا يتعلق بمقدار الإحسان؛ بل بأصله؛ فكأن معنى الآية: كما وقع الإحسان من الله إليك أيها العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، فأحسن بالصدقة وبالعبادة وغيرها من الطاعات.
    القول الرابع: أن الكاف للتعليل؛ فالكاف في لغة العرب تأتي لمعان عدة، وقد سبق بعضها عند شرح قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وقول الشاعر:
    ليس كمثل الفتى زهير
    والأصل في الكاف أنها للتشبيه، وقد تأتي لغير ذلك، ومن ذلك أنها تأتي للتعليل؛ كما في قوله تعالى: ((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ))[البقرة:198] أي لما هداكم، فالكاف هنا للتعليل، فيكون المعنى: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد لما صليت -أي لأنك صليت- على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
    فلا تكون الكاف للتشبيه كما هو مورد الإشكال أصلاً، فيكون على هذا الوجه: (اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم) ليس معناه: مثلما صليت على إبراهيم، لأن الكاف إذا كانت للتشبيه فهي بمعنى مثل.
    والقول الخامس: أن التشبيه هو بالنسبة إلى ما بعد العبارة الأولى، (آل محمد) كأننا قلنا: اللهم صل على محمد. ثم قلنا: وعلى آل محمد -أي وصل على آل محمد- كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فيكون المشبه هنا الصلاة على آل محمد صلى الله عليه وسلم، والمشبه به: الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقد أشكل هذا على بعض العلماء، وقيل: إن هذا الوجه فيه خلل وركاكة في التركيب اللغوي، مع أن هذا القول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه.
    وكلام الشافعي رحمه الله حجة في لغة العرب، والعربي المحتج بكلامه لا يفكر كيف يقول، ولا يحتاج إلى أن يعرب، إنما يقول ما يقول، فيؤخذ من كلامه أن ذلك يصح في كلام العرب، فإذا قال الشافعي رحمه الله تعالى ذلك، دل ذلك على الجواز، ولو نظرنا نظرة لغوية بحتة، لوجدنا أنه يصح على أساس إعادة العامل بعد واو العطف، فيكون التقدير: (اللهم صل على محمد، وصل على آل محمد كما صليت على إبراهيم).
    وهذه الأقوال كلها في فتح الباري الجزء الحادي عشر من (ص:150) إلى ما يقارب (ص:170).
    1. ذكر ما أجاب به شارح الطحاوية

      قال ابن أبي العز رحمه الله: [وأحسنها -يعني في نظره رحمه الله- أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد صلى الله عليه وسلم مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم عليه السلام وآله -وفيهم الأنبياء- حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء -وفيهم إبراهيم- لمحمد صلى الله عليه وسلم] فالمطلوب أن يلحق الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وآله، بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله، فيكونون سواء؛ فالمشبه: محمد صلى الله عليه وسلم وآله، وهو -دون جميع آله- الرسول الوحيد؛ فآله ليسوا بأنبياء، والمشبه به: إبراهيم عليه السلام وآله، ومن آله أنبياء كثير: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان وغيرهم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا مجموع ما لإبراهيم وللأنبياء مساوياً ما لمحمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته، ولا يحصل لآل محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما للأنبياء بطبيعة الحال، لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله يقول: "ويعكر على هذا الجواب أنه ورد في حديث أبي سعيد -والرواية صحيحة- مقابلة الاسم بالاسم فقط" وما ذكرنا سابقاً إنما هو على أساس التوازن بين محمد وآل محمد في كفة المشبه، وبين إبراهيم وآل إبراهيم -وفيهم الأنبياء- في كفة المشبه به، وهذه الرواية الصحيحة ليس فيها ذكر الآل، لا في المشبه ولا في المشبه به، ومع ذلك بقي التشبيه؛ اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم؛ وعليه فلم يذهب الإشكال بعد.
      يقول المصنف رحمه الله: "وأحسن من هذا: أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم"، وعليه: فكما أنه صلى الله عليه وسلم في مقام المشبه، فهو أيضاً موجود في مقام المشبه به، فيكون قد تكرر فضله.
      قال رحمه الله فيكون قولنا: "كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، وهو متناول لإبراهيم أيضاً؛ كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ))[آل عمران:33] فإبراهيم و عمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: ((إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ))[القمر:34] ]؛ فإن لوطاً داخل في آل لوط" فحين أهلك الله تبارك وتعالى قوم لوط أنجى آل لوط، ولا شك أن لوطاً داخل في زمرة الناجين، "وكما في قوله تعالى: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ))[البقرة:49]" فالمقصود أنه نجاهم من فرعون وآله!! "وقوله تعالى: (( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))[غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون".
      إذاً: آل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم ويدخل فيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
      يقول: "ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم)، وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً، وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم".
      ولا ريب أن مؤدى الكلام صحيح، وقد وقع خلاف كبير في روايات كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذه الروايات الحافظ ابن حجر في الفتح وابن القيم في جلاء الأفهام والحافظ ابن كثير في تفسيره لآية الأحزاب: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..))[الأحزاب:56] والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله أفرد ذلك في كتاب.
      وكل تلك الروايات صحيحة؛ فالرواية التي يقصدها المصنف ابن أبي العز رحمه الله قد وردت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي المسند عن كعب بن عجرة رضي الله عنه؛ لا حرج من الإتيان بأي كيفية من كيفيات الصلاة التي وردت وصحت.
      أما مسألة التشبيه في الصلاة لمحمد بإبراهيم، فالذي يظهر لي -والله أعلم- أن التشبيه ليس على أصله، ويعجبني قول من قال: إن الصلاة على إبراهيم وعلى آله (المشبه به) وقعت وتقررت واشتهرت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يبعث، وهذا من باب إلحاق غير المشتهر بما اشتهر، ولا يستلزم ذلك أن يكون هذا الملحق أقل، بل ربما كان أفضل وأكثر وأعظم، لكن الملحق به ميزته أنه قد وقع واشتهر، فمعلوم عند اليهود والنصارى وجميع أهل الملل تفضيل الله تبارك وتعالى لإبراهيم، واصطفاؤه واختياره و ثناؤه عليه والله أعلم.
  3. مسائل تتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    1. ما يؤتى به من صيغ التشهد والصلاة الإبراهيمية

      وقع الخلاف بين أهل العلم فيما يأتي به المصلي من الكيفيات التي صحت في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبعض العلماء يرى أن المصلي يأتي بجميع الألفاظ مرة واحدة، فيكون قد عمل بجميع الروايات الصحيحة، وقال البعض الآخر: لا يأتي بجميعها -وهو الذي رجحه واختاره ابن القيم رحمه الله تعالى- بل يستعمل كل رواية صحيحة على حدة؛ فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة على رواية كعب، ومرة على رواية أبي سعيد، ويتشهد مرة بتشهد ابن عباس، ومرة بتشهد ابن مسعود، وبهذا يكون قد أتى بجميع الروايات الصحيحة دون تلفيق أو تركيب، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: هذا الاختلاف -في كيفية التشهد والصلاة على النبي- مثل الاختلاف في القراءات. فكما أن للإنسان أن يقرأ بأي قراءة من القراءات المتواترة في القرآن، فكذلك يصح له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ ثبت وورد، ويؤيد ذلك الحديث الذي ورد وهو: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن} فإذاً هي مثل القراءة، ولعل في ذلك تيسيراً على هذه الأمة.
    2. حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

      مسألة: ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
      ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عشرة أقوال في المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنها سنة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة في الصلاة وسنة في غيرها، وهي أقوال كثيرة، ولكن الراجح بالنسبة لحكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة -والله تعالى أعلم- أنها ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ فهي كقراءة الفاتحة أو القيام أو الركوع وما أشبه ذلك.
      أما في غير الصلاة، فهي واجبة عند ذكره صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن تترك إلا إذا سها عنها الإنسان أو نسيها. أما مع التذكر فلا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ولو تكرر ذكره في المجلس، وهذا جزء يسير من حقه صلى الله عليه وسلم على أمته.
      ومما يدل على وجوب الصلاة خارج الصلاة، ما رواه الترمذي والنسائي وغيره -وهو حسن- عن علي رضي الله عنه وعن ابنه الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل علي}، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصلّ عليَّ...} وفي رواية: {بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليّ} وفي رواية أخرى: {من ذكرت عنده فلم يصل عليَّ فأبعده الله} فإذا كان هناك إبعاد وإرغام للأنف -والرغام هو التراب، فكأنه قال: ألصق الله أنفه بالتراب- دل ذلك على وجوبها.
    3. معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

      مسألة: ما معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
      اختلفت عبارات السلف في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنها بمعنى الدعاء، وقيل: الرحمة، وقيل الثناء، وقيل: الذكر والثناء، هذه هي أقوال السلف رضوان الله تعالى عليهم؛ كـأبي العالية، وابن عباس، وغيرهما؛ فالصلاة من الله عز وجل ثناؤه عليه وذكره له في الملأ الأعلى، وجاء هذا عن أبي العالية رضي الله تعالى عنه.
      فإذا قلنا: إن الله يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: أنه يثني عليه ويذكره في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون بمعنى الدعاء له بذلك، ومن المؤمنين تكون كذلك مثل الصلاة من الملائكة.
    4. هل يصلى على غير الأنبياء؟

      مسألة: هل يصلى على غير الأنبياء؟
      قد عنون الإمام البخاري رحمه الله أحد أبوابه بهذا السؤال، فهل يقال: اللهم صلِّ على فلان، وهو غير نبي؟
      مرَّ بنا أن الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم واجبة، وأما على بقية الأنبياء فسنة مؤكدة، وإن قلنا: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة مؤكدة، فتكون الصلاة على غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم سنة، إلا أنها في حقه آكد.
      أما على غير الأنبياء فحديث أبي أوفى المتفق عليه يدل على الجواز، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم صلِّ على آل أبي أوفى } بل إن قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)، على القول بأن (آل محمد) هنا كل من تبعه على دينه، فإنه يدخل فيه الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أننا نصلي ونسلم على غيره صلى الله عليه وسلم تبعاً له، فإذا بدأنا به صلى الله عليه وسلم وألحقنا به بعض عباد الله الصالحين فلا بأس، أما إذا أفردنا الصلاة على فلان من الناس دون أن يكون تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم دائماً ولا هدي صحابته رضوان الله عليهم.
      ومن ذلك هذا الحديث المتفق عليه: {اللهم صلِّ على آل أبي أوفى } فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له مرة واحدة، فأنت إذا دعوت لشخص ما مرة واحدة فلا حرج عليك، وكما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على آل سعد بن عبادة، والحديث رواه أبو داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم صلِّ على آل سعد بن عبادة }، وكذلك جاء من حديث جابر كما رواه الإمام أحمد وابن حبان أن زوجته قالت: يا رسول الله! صل على جابر فقال: {اللهم صلِّ على جابر }، فهذه الثلاثة المواضع -حسبما ذكر الحافظ رحمه الله- صلّى النبي صلى الله عليه وسلم فيها على أشخاص بأعيانهم، والصلاة هنا يختلف حكمها عن قولنا: (رحمه الله، غفر الله له، رضي الله عنه)، فإن الدعاء بهذه الأمور لا بأس به ولا حرج مطلقاً.
      قد يسأل سائل ويقول: قولنا: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى ) هل معناه الثناء؟ لأنه إذا كانت الصلاة على النبي من الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى، فما الفرق بينه وبين غيره من المؤمنين؟ نقول: قد ورد حديث يدل على ثناء الله على عباده المؤمنين وهو: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} ؛ غير أن هناك فرقاً بين ثناء الله سبحانه وتعالى على أحد من خلقه، وبين ثنائه على رسوله صلى الله عليه وسلم.
    5. المفاضلة بين الأنبياء

      تقدم تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم ثم موسى عليهما السلام، ويشكل عليه حديث صحيح متفق عليه من رواية أبي هريرة : { استب رجلان فلطم المسلم اليهودي -لأن اليهودي قال: والذي فضل موسى على سائر البشر- فجاء اليهودي يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء} . وقال في الحديث الآخر: {لا تفضلوني على يونس} فهل يتعارض ما ذكرنا سابقاً مع هذه الأحاديث الناهية عن المفاضلة بين الأنبياء؟
      قد سبق أن أجبنا على مثل هذا السؤال، فكان مما قلناه ووجهنا به هذه الأحاديث: أن هذا من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم، أو أنه ينهى عن المفاضلة بين الأنبياء إذا أدى ذلك إلى التنقص أو النيل من المفضول، كذلك يقال: إن هذا التفضيل جاء من الله سبحانه وتعالى.
  4. شرف البيت الإبراهيمي

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خصهم الله بخصائص:
    منها: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته.
    ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم، فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، ومنها أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره.
    ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))[البقرة:124].
    ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس، ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين.
    ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل هذا البيت، إلى غير ذلك من الخصائص] اهـ.
    1. من خصائص بيت إبراهيم عليه السلام

      قال رحمه الله: "ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق" وهذا مما أجمعت عليه أهل الملل والأديان من أهل الكتاب وهذه الأمة والحمد لله، وهو أن هذا البيت هو أشرف البيوت جميعاً، ولهذا فإننا نجد أن كل الأمم سمعت بإبراهيم أو تعرفه، أو له ذكر في تاريخها تفضله وتجعل بيته أفضل بيت.
      براهمة الهند يزعمون ويدعون أنهم ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، أو أنهم أتباع إبراهيم عليه السلام، ولذلك سموا البراهمة، مع أنهم أبعد الناس عن ذلك، بل إن إبراهيم عليه السلام -كما هو ثابت في قصته- لم يرسل إلى أهل الهند، بل ربما لم يطأ تلك الأرض بالمرة، لكن هذا -والله أعلم- إنما قالوه بعد ظهور الإسلام واشتهاره وانتشاره، ورأوا تعلق هذه الأمة بإبراهيم الخليل، فأظهروا ذلك.. والله أعلم.
      فيذكر المصنف خصائص البيت الإبراهيمي، فالأولى: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته: ((وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[العنكبوت:27] فكل نبي بعث بعد إبراهيم فهو من ذرية إبراهيم عليه السلام، وكل كتاب أنزله الله تبارك وتعالى بعده، فإنما أنزل على أحد أبناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام.