وأما قول الكاتب: من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم، هذه العبارة منقولة عن بعض السلف الصالح.
يوضح ذلك قول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كما نقل عنه ذلك ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارج يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمقصود أن السلف الصالح يذكرون الله ويناجونه بالمشروع من العبادات، كقيام الليل، وذكراً بما ورد، فتحصل لهم الطمأنينة التي ذكرها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) [الرعد:28] وتحصل هذه السعادة لمن يتبع الذكر((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)) [طـه:123-124].
تكفل الله تَعَالَى للمتقين أن لا يضلوا عن الطريق المستقيم ولا يشقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: "ما يصنع أعدائي بي". ينتقمون مني بأي طريقة: ثُمَّ بين ذلك فقَالَ: "سجني خلوة" أي: إذا سجنه أعداؤه، فهذه خلوة يتمناها العلماء، ولا سيما العارفين العباد، الذين يعرفون حقيقة العلم وحقيقة العبادة وحقيقة التقوى، فهم يتمنون أن تحصل لهم الخلوة من مشاكل الدنيا، ومشاغلهم من هموم الأبناء والزوجة والناس، فيخلون في مكان يذكرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
"ونفيي سياحة" أي أنه لو نفي ربما يكون انتقلت أعماله وأعباؤه فلا يستطيع أن يرى ما هو خارج بيته، لأن النَّاس يفدون عليه ويأتون إِلَى بيته، وفي مسجده، فلا يرى شيئاً. فإذا نفي إِلَى جزيرة نائية، قد يرى من عجائب خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يكون فيه راحة ومتعة وسعادة.
قَالَ: "وقتلي شهادة" أي: وإذا قتل فالْحَمْدُ لِلَّهِ هذه الشهادة، وماذا يريد المؤمن أعظم من أن ينال الشهادة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من أهلها.

فهذه هي السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف" يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.

وأكثر النَّاس يبحثون عن السعادة، لكن طريقهم ليس هو طريق السعادة؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل الحياة الدنيا طريق الشقاوة، "شقاوة المعيشة والضنك" عَلَى أرجح التفسيرين: ومعايش: جمع معيشة وهي الحياة، وبعدها ((وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)) [طـه:124].
الحياة الدنيا معيشة ضنكا، وهذا أرجح من أن نقول: إنها في القبر، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يحشر أعمى، فأين السعادة وأين الطمأنينة!! يبحثون عنها فلا يجدونها ولو أن أحداً من هَؤُلاءِ النَّاس في أثناء بحثه عن السعادة قيل له: صلِّ في جوف الليل، واحضر مجالس الذكر والعلم، وحافظ عَلَى صلاتك في الجماعة، وغير ذلك من الطاعات، فإن الشيطان يخيل له أن هذا هو غاية الشقاوة.
فهو فار من الشقاوة، ويريد الرفاهية والطمأنينة والسعادة، ووالله لو دخل في الطاعة لوجد ما يسعى إليه، ولو قيل لمن أقبل عَلَى الله يذكره ويطيعه: ما هي السعادة التي تشعر بها؟ لقَالَ: نَحْنُ في سعادة ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وهذه السعادة ليست مرئية واضحة، لكن إذا كَانَ عندك عمارة ثلاثين دوراً فإن كل النَّاس - التجار والأغنياء والملوك - يقولون: ليت عندنا مثله؛ لأنهم يرونها، لكن طمأنينة القلب لا يراها أحد، فيتصورون أنك تعيش في ضيق، وفي ألم، ولا يعلمون أنك تجد الراحة العظيمة في ترفعك عن هذه الشهوات التي لو عرضت عليك عرضاً لأبيتها، ولو عرضت عليك وأعطيت معها ملايين الدنيا لأبيت.
ولو وجدتم مَنْ مَنَّ الله عليه بالهداية لتعجبتم منه، يخبركم: كيف كَانَ في حالة المعصية! وكيف كَانَ يبحث عن اللذة والشهوة في كل مكان! فلا يجد إلا الشقاء والخسارة والنكد والضيق في الحياة، والهم الذي لا يفارقه، فلما آمن واطمأن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أصبح يرى السعادة الحقيقية، ولو فقد هذا المؤمن التقي ابنه أو زوجه فإنه يطمئن إِلَى قول الله تعالى: ((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة:156-157] ويفرح لأنه موعود بصلوات من الله، ورحمة، وهداية، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، فيجد الطمأنينة والراحة في موقف ألم وبكاء وحزن
، لكن الذي لا يؤمن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يشعر بهذه السعادة، فإذا غيرته المعشوقة وعشقت أو هويت غيره انتحر.
وهذه الصفقة التجارية التي كَانَ يؤمل فيها حصلت فيها الخسارة فانتحر والعياذ بالله، فكل شخص غير مؤمن قابل أن يبيع نفسه بأرخص الأثمان؛ لأنه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) [الحشر:19]، لما نسي الله أنساه نفسه، فيعيش في قلق واضطراب وتخبط، يعمل لكل شيء إلا لنفسه، فلما نسي ربه، أنساه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نفسه، فهو يجمع المال للورثة {يقول ابن آدم: مالي مالي} -هكذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هكذا حال النَّاس والحقيقة: ليس لك يا ابن آدم إلا ما قدمت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، والباقي للورثة، لا يهنأ بلذة في ماله وملكه.