المادة كاملة    
اختص الله تعالى بخلته نبيه إبراهيم ونبيه محمداً صلى الله عليهما وسلم، وهي أعلى مراتب المحبة، ودلائل ورودها في حق الله تعالى ثابتة في القرآن والسنة، وهي أخص من المحبة، أما العشق فلا يطلق في حق الله تعالى ولا رسوله، بل الواجب التقيد بما ورد في النص، خلافاً لمن ادعى ذلك.
  1. الخلة والمحبة من صفات الله

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [ولكن محبة الله وخلته كما يليق به تعالى، كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله} يعني نفسه. وفي رواية: {إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} . وفي رواية: {إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً}.
    فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـمعاذ: {والله إني لأحبك} وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة حِبَّه، وأمثال ذلك، وقال له عمرو بن العاص: {أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها}.
    فعلم أن الخلة أخصُّ من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة]
    .
    1. محبة الله وخلته ثابتة له كما يليق به

      الشرح:
      الخلة: هي كمال المحبة، كما ذكر الشارح رحمه الله -والكلام في الأصل منقول عن ابن القيم رحمه الله- واستشهد بقول الشاعر:
      قد تخللت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلا
      فالخلة في لغة العرب: هي غاية المحبة وكمالها، وجاء الشرع والدين شاهداً لذلك، ولهذا نجد الأحاديث التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تدل على اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم والخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصفة الخلة دون غيرهما.
      يقول المصنف رحمه الله: [ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى] عندما نرد على الذين يقولون: إنه لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، حتى يكون بينهما محبة، أو كما يقول الذين يؤولون صفات الله: إن الله تعالى لا يُحِبُّ لأن المحبة انفعال وعاطفة، قلنا لهم: نعم، هذه هي المحبة البشرية، ولكن محبة الله تبارك وتعالى وخلته -كما يليق بجلاله- لا تستلزم ولا تستدعي ما ترونه نقصاً بالنسبة لمحبة المخلوقين، فالله تبارك وتعالى كما أن ذاته لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فاستواؤه وكلامه ونزوله، وجميع صفاته لا تشبه ما ينطبق على المخلوقين إذا وصفوا بذلك.
    2. لا يوصف الله تعالى ولا رسوله بالعشق

      المحبة والخلة صفتان ثابتتان لله تعالى ولكن زاد أهل الضلال والتصوف صفةً ينسبونها إلى الله أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العشق يقولون: (العشق الإلهي) كما كتب الدكتور عبد الرحمن البدوي كتاب رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي مثلاً.
      فهل يوصف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة؟ لا يجوز أن يوصف الله بهذا الوصف، ولا يجوز أن يقال: عشق الله فلاناً، وكذلك لا يجوز أن يقال: إن فلاناً عشق الله، بل ذلك لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فهذا الوصف لم يثبت أولاً لا في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من السلف، وإنما نقله الصوفية من كلام مجانين العرب (مجانين العشاق) والسبب: أن هذه الصفة صفة نقص لا صفة كمال -وقد علمنا أن القاعدة العامة في صفات الله سبحانه وتعالى تنص على أن أي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه تطلق على الله سبحانه وتعالى، لأن باب الوصف أعم من باب التسمية- حتى أن العشق في حق المخلوقين من صفات النقص، وإن كتب من كتب، وألف من ألف في العشق وقال: إن العشق كمالات وفضائل، فكل هذا الكلام لا قيمة له في ميزان أهل الكمال الحقيقي، أو في ميزان أهل الحكمة وأهل الأخلاق الحقيقية، فالعشق صفة نقص، فلا يوصف به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يقوله الصوفية وأشباههم، وما يردده العامة وخاصة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا من المنكر الذي يجب أن يحمى جنابه صلى الله عليه وسلم منه، كما يكتبون على اللوحات من العبارات: (عاشق النبي يصلي عليه) اللهم صلِّ وسلم عليه!! ولو قالوا: محب النبي صلى الله عليه وسلم، لكان خيراً لهم من قولهم: عاشق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصوفية عندما رأوا أن العرب يتعلقون ويتولهون بمحبة مخلوقة من البشر قد لا تساوي شيئاً، ورأوا أن هذا واقع في حق الناس، قالوا: الأولى أن ينصرف هذا إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق، دون أن ينظروا هل في ذلك نقص، وهل ذلك يليق بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم أو لا يليق؛ ومن هنا امتلأت دواوين وكتب التصوف بما في دواوين الغزل عند العرب، وأكثر من ذلك ابن الجوزي رحمه الله في مواعظه، فكان يأتي بأبيات مهيار و يستعير معناها، وكذلك ابن القيم رحمه الله ينقل بعض الأبيات لكنه يأتي بها على سبيل الاستعارة، كأبيات المجنون عندما يتحدث عن محبوبته وعن ديارها، فيستعيرها ابن القيم رحمه الله إلى مكة وإلى الكعبة وإلى المشاعر وما أشبه ذلك، لكن الصوفية خرجوا عن ذلك حتى أصبحوا يخاطبون الله سبحانه وتعالى، فخرجوا عن المألوف في كون ذلك استعارة إلى أن صاروا يخاطبون الله سبحانه وتعالى ويتعبدونه، ويبتهلون إليه بأبيات غزلية كما كان الشبلي يقول:
      إن بيتاً أنت ساكنه            غير محتاج إلى السرج
      وجهك المأمول حجتنا            يوم يأتي الناس بالحجج
      فـالشبلي سمع رجلاً يتغزل في جارية أعجبته، فقال هذا الكلام فيها:
      فأعجبت الشبلي هذه الأبيات فأصبح يناجي الله تعالى بها.
      ولا يصح مثل هذا، ولو أنها بقيت على سبيل الاستشهاد أو الاستعارة أو النقل لقبلت، أما إذا خرج الشيء عن حده فإنه لا يجوز، والمقصود أن وصف العشق لا يطلق على الله تبارك وتعالى، ولا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف المحبة والخلة فإنهما ثابتتان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الغيرة وسنذكر أدلتها لاحقاً إن شاء الله.
  2. أدلة إثبات صفة الخلة وصفة المحبة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة] وهي قوله وتعالى: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] "وما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله} يعني نفسه" فالنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت ذلك عنه في الصحيحين وغيرهما - ذكر هذا الحديث أكثر من مرة، ورواه عنه أكثر من صحابي، ومن ذلك رواية جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس -أي بخمس ليالٍ - وهو يقول: {إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً}.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه لا خليل له من هذه الأمة، ويأتي بأقوى لفظ يدل على ذلك، ولم يقل: (ليس لي منكم خليل) بل قال: {إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل} وهذا فيه كمال النفي واستكمال العدم وتأكيد الضد وهو أن خلته خاصة بربه سبحانه وتعالى أو هي بينه وبين ربه تعالى، ثم قال: {ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، أو: لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؛ ليبين أمراً آخر وهو: أن أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كما في الحديث المتفق عليه لما سأله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: {يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: ومن الرجال؟ قال أبوها} فهو يحب صلى الله عليه وسلم، وأحب الصحابة إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس خليلاً له، بل هو أخ له في الإسلام، وحبيب له وصاحب كما ذكر الله تعالى في القرآن: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ))[التوبة:40].
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عن ابن عباس: {ولكن أخي وصاحبي} وفي رواية أخرى قال: {ولكن أخوة الإسلام ومودته}، وفي هذا إشارة عظيمة إلى منزلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وإلى أحقية أن يستخلفه المسلمون على القول الراجح الذي سوف نتعرض له فيما بعد إن شاء الله.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم ينفي في هذه الأحاديث الصحيحة أن يكون له خليل إلا الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك دليل على كمال رتبته صلى الله عليه وسلم، وعلو مقامه في عبادة الله سبحانه وتعالى، فإنه حقق كمال العبودية حتى وصل به الحال إلى أن يكون خليلاً للرحمن سبحانه وتعالى، فهذه الدرجة درجة عليا عظيمة لا يبلغها أحد، وإنما هي للخليلين اللذين وصلا إلى هذه الدرجة العظيمة بحيث أنه لا خليل لهما إلا الرحمن سبحانه وتعالى، ونستنتج من ذلك الرد على الذين يرون أنه يمكن للعبد -بالحب أو بالعشق كما يسمونه- أن يصل إلى أعلى الدرجات، ويركبون على ذلك ضلالات لا نهاية لها، منها: أنه قد تسقط عنه التكاليف كما يقولون -ويا خيبة قولهم- ويستدلون بقوله تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] على أن الإنسان منهم إذا كملت عبادته -التي هي عندهم المحبة فقط- يصل إلى درجة اليقين، وبذلك تسقط عنه العبادات، فلا تكليف عليه فلا يصلي ولا يصوم! ويقولون: الغرض من الصلاة والصيام تهذيب العامة والارتفاع بهم، لكن من وصل إلى درجة اليقين، فما الحاجة إلى أن يصلي ويصوم؟! نسأل الله العفو والعافية.
    ويقال لهم: إذا كانت العبادات لم تسقط عن الخليلين، فكيف تسقط عن هؤلاء؟! فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، دَافَع نفسه وذهب يصلي الجماعة في المسجد، مستنداً إلى رجلين، فإن كانت العبادات قد سقطت عنه، فلم هذا الإجهاد منه لنفسه صلى الله عليه وسلم؟! وقولهم هذا دليل زندقتهم وإلحادهم وخروجهم عن دين الإسلام، وكل من يقول بهذا القول خارج عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم وعن ملة إبراهيم عليه السلام، واليقين الذي ذكره الله تعالى في قوله: ((حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99]: هو الموت فعلينا أن نعبد الله حتى نموت ونلقاه تعالى.
    قال رحمه الله: "فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق " أي: لو أمكن أن يكون له خليل لكان صاحبه الذي في الغار، وذلك الرجل الذي وصف بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل الوحي عليه قالت له السيدة الفاضلة خديجة رضي الله تعالى عنها: {والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتقري الضيف، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق} ونفس هذا الوصف اتصف به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لما أخرج الصديق وطرد ولم يجد من يلتجئ بجواره إلا ابن الدغنة، فقال له ابن الدغنة: (لا يليق بمثلك أن يخرج وأن يطرد، إنك لتقري الضيف...) ثم ذكر الأوصاف السابقة، فسبحان الله كيف اتفقا في هذه الصفات!
    ومن هنا كان الصديق رضي الله تعالى عنه بهذه المنزلة العظيمة، فأوصاف النبوة وصفاتها وخلالها كان أقرب الناس إليها هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فهو أفضل البشر بعد الأنبياء رضي الله تعالى عنه، وله من الفضائل الكثيرة مما سنذكره -إن شاء الله تعالى عنه- عند الحديث عن الصحابة والخلافة.
    والمقصود من هذا إثبات فضله رضي الله تعالى عنه مع أنه لم يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لتبقى خلته خاصة بالله عز وجل وحده.
    1. صفة المحبة أعم من صفة الخلة

      قال المصنف: [مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً] إذاً: المحبة التي هي أعم من الخلة ثابتة بالنسبة لله سبحانه وتعالى، وكذلك بالنسبة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله: "كقوله لـمعاذ: {إني لأحبك} " وذلك في الحديث المشهور الذي فيه: قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله عنه: {يا معاذ ! والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
      قال رحمه الله: [وكذلك قوله للأنصار] أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار: {من أحب الأنصار فبحبي أحبهم}، وكان يقال لـزيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه أسامة بن زيد حبه وابن حبه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحبهما؛ لأن زيداً اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهله، وكان من أوائل من آمن به، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، وكذلك يحب ابنه أسامة.
      وقال: "وقال له عمرو بن العاص : {أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ؟ قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها} .
      فعلم أن الخلة أخصُّ من مطلق المحبة".
    2. الخلة أعلى درجة من المحبة

      فيما سبق رد على المتصوفة وأمثالهم، الذين يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله وأن إبراهيم خليل الله، وأن المحبة أعلى من الخلة. وهذا غير صحيح، والأدلة التي ذكرناها تدل على أن هذا الكلام غير صحيح، فـالصوفية يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله، وأن أخص صفاته في نظرهم هي المحبة، وسبب ذلك أنهم يتعبدون الله بالمحبة المطلقة فقط، ويظنون أنهم يبالغون في حق رسول الله ويعظمونه بقولهم: هو حبيب الله (حبيب رب العالمين)، ولذلك يستخدمون كلمة (الحبيب) أكثر مما يستخدمون كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ولكن أفضل من ذلك كونه خليل الله، والخلة إنما كانت له لكونه مستكملاً الفضيلة العظمى، وهي الرسالة والاصطفاء؛ فأعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم الحقيقية هي الرسالة والعبودية التي ترقى في مراتبها ووصل إلى أعلاها، وهي الخلة.
      وكان أكمل الرسل من جهتين: من جهة أنه خاتمهم صلى الله عليه وسلم، فرسالته عامة للناس جميعاً، ومن جهة أن رسالته عامة وباقية إلى يوم القيامة لا ناسخ لها، فلم يبعث قبله رسول إلا لقوم محدودين، وفي وقت محدد إلى أن يبعث نبي آخر.
      والنبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الرسل في الرسالة، وهو أكمل الخلق في العبودية، فإذا أراد أحد أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويثني عليه، فأعظم ثناءٍ عليه أن يصفه بأنه عبد الله ورسوله.
      وقوله: [والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير] أي: يصبح الخليل محبوباً لذاته، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يُحَبّ لذاته، وأما بقية الخلق فلا يحبون إلا لأسباب.
      قال: [ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة] أي: أن من يحقق كمال المحبة بتحقق الخلة، فلا شريك ولا مزاحم في قلبه، وذلك بالنسبة للمحب، أما بالنسبة لمن يُحَبُّ فلا ضير، فمثلاً: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: {أوصاني خليلي ..} يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل في هذا معارضة ومخالفة لما ذكرنا من الأحاديث؟ الجواب: لا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا خليل له اتخذه هو إلا الله، لكن الناس يتفاضلون في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه قد يكون منهم من يسعى إلى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لهم -بل ينبغي أن يسعوا إلى ذلك ويجتهدوا فيه- حتى تتخلل محبته قلوبهم، فتلك غاية الرتب وأعلى الدرجات في المحبة.
    3. امتحان إبراهيم عليه السلام في صدق الخلة

      يقول المصنف: [ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه] وهذا الكلام مأخوذ بتصرف من كلام ابن القيم رحمه الله في المدارج، فإبراهيم اتخذه الله تبارك وتعالى خليلاً، وبلغ به الكبر عتياً ولم يولد له ولد، فسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب له ولداً صالحاً، وكانت لديه هاجر جارية، فرزق منها إسماعيل، فلما جاء إسماعيل أحبه أبوه حباً شديداً، وهناك ما يستوجب ويستدعي هذا الحب، وهو: كبر السن، ومجيئه إليه بعد شوق، وهذه المحبة محبة طبيعية ليست محرمة، ولا بأس بها لذاتها.
      وقد كان وصف الله إبراهيم عليه السلام بسلامة قلبه فقال: ((إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الصافات:84] أي: سليم من الشرك، ومن الموالاة والمعاداة والمحبة لغير الله تعالى، فلم يقدم حُبَّ أحد على حبّ الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك الامتحان لإبراهيم الخليل عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل.
      وهنا ننبه إلى أن هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو أن الذبيح إسماعيل عليه والسلام، لا كما يزعم اليهود -وأخطأ من تبعهم أيضاً من المفسرين- أن الذبيح إسحاق عليه السلام.
      فإسماعيل هو الذي بقي مع هاجر في الصحراء حيث لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى، تركهم إبراهيم عليه السلام لله سبحانه وتعالى، فلم يضيعهم الله، بل فجَّر بئر زمزم تحت قدمي إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فهو ابنه البكر.
      وقوله: [فغار الخليل على قلب خليله] هل يوصف الله تبارك وتعالى بالغيرة؟ الجواب: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من غيرة سعد ؟ لله أغير..} وفي الحديث الصحيح عن أبي مسعود قال: {لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه الثناء من الله ولذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ولهذا أرسل مبشرين ومنذرين} .. (وغيرة الله سبحانه وتعالى أن تؤتى محارمه}.
      فالمقصود أن الله تعالى يُحَبُّ لذاته، أي ليس لسبب آخر، وهو مستحق لذلك سبحانه وتعالى، أما غيره فلابد من سبب معين لكي نحبه؛ لأنه لم يستكمل أن يكون محبوباً لذاته.
      قال: [فامتحنه بذبحه ليظهر سِرّ الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله، ظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته؛ نسخ الله ذلك عنه] وفي هذا يتبين لنا أن ما يقدمه الإنسان من قربان وذبح للأضاحي وإراقة للدماء ليس مطلوباً لذاته، بل المقصود منه العبودية والإذعان والانقياد، والتقوى من القلب لهذا الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام استكمل هذا الشرط عندما تلَّ ابنه للجبين -يعني: أضجعه- وأخذ السكين وحدها، ووضعها على رقبته وأخذ يحز، وبلغ به الأمر مبلغه من فعل الأسباب المادية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الدنيا، ولهذا قال له ربه تعالى: ((قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا))[الصافات:105] لكن لم يرد الله أن يحدث المسبب وتقطع السكين؛ لأن المقصود -كما قلنا- وقوع التعبد وتمحض القلب لله سبحانه وتعالى، حتى يصبح الخليل خليلاً حقاً لا يشركه فيه أحد، فصدق الخليل رؤيا ربه سبحانه وتعالى، ولذلك بلغ تلك المنزلة، وثبتت له الخلة، أما الابن فقال الله عنه: ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ))[الصافات:107].
      يقول: [فلما استسلم لأمر ربه] كما قال تعالى: ((فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ))[الصافات:103] [وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله]: وهو الله سبحانه وتعالى، [على محبته] أي: على محبة الابن، [نسخ الله ذلك عنه وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة، عاد الذبح نفسه مفسدة فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنةً في أتباعه إلى يوم القيامة] وأخص الأمم باتباعه هم أتباعه ثم نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، كما قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ))[آل عمران:68] يعني أولى الناس بإبراهيم: هم الذين وقفوا مع إبراهيم عليه السلام في الموقف العظيم، وقالوا لقومهم: ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ))[الممتحنة:4]، فالذين وقفوا مع الخليل هذا الموقف هم أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، وممن بعدهم (وهذا النبي) وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (والذين آمنوا): وهم المسلمون.