وأما بالنسبة لرواية شريك فإن فيها ألفاظ غريبة وشاذة، وشريك نفسه اختلف في توثيقه وتضعيفه.
وسبق أن ذكرنا رد الإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/34) عَلَى من قَالَ: إن الإسراء والمعراج، وكلام المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أكثره ملخص منه.
وبمناسبة الكلام عَلَى رواية
شريك هذا، فقد وجدت عبارة الحافظ
ابن حجر في الجزء (13/486) في شرح كتاب التوحيد من
الفتح يقول: إن
ابن القيم في
الهدي النبوي ذكر بأن في رواية
شريك عشرة أوهام. لكنه يجعل مخالفته في مواضع الأَنْبِيَاء من السماء واحدة من أربع، ويبقى أنه زاد ثلاثة.
ولم أجد في
الزاد ذكراً بالتفصيل لمخالفات
شريك بن عبد الله، وإنما وجدت نفس العبارات التي هنا وهي قوله: [وقد غلَّظ الحفاظ
شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، و
مسلم أورد المسند منه ثُمَّ قَالَ: وقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد رَحِمَهُ اللَّهُ انتهى كلام الشيخ
شمس الدين رَحِمَهُ اللَّهُ] نعم، انتهى كلام ابن القيم عند ذلك، ولم يذكر تلك المخالفات العشر، فالله أعلم هل هي في نسخة لم نطلع عليها، أم أن
الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قد وهم في ذلك ويكون قد قرأها من كتاب آخر.
و
شريك بن عبد الله هذا ليس هو
القاضي؛ لأنهما اثنان وكلاهما إمامان تابعيان:
أحدهما:
شريك بن عبد الله النخعي من النخع قبيلة يمنية معروفة، منها
إبراهيم النخعي وكان قاضي
الكوفة، وليس هو هذا.
فإن هذا هو:
شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني، وهو الذي روى هذا الحديث عن
أنس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وقد سبق أن قلنا: إن الروايات الصحيحة أثبتها متناً وأصحها سنداً وأتمها سياقاً روايتان:
الأولى: رواية
قتادة عن
أنس؛ فإن
الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحه لكتاب التوحيد من
فتح الباري يميل إِلَى تقديمها، وقد رواها الإمام
أَحْمَد و
البُخَارِيّ و
مسلم.
والثانية: رواية
ثابت عن
أنس رواها الإمام
أَحْمَد و
مسلم، إلا أنَّ رواية
قتادة الأولى الوافية رواها
قتادة عن
أنس عن
مالك بن صعصعة، و
أنس إنما روى الحديث عن
مالك، لأنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صغيراً في
المدينة، وهو من الأنصار وربما لم يدرك الواقعة، وربما أنها وقعت قبل ولادته كما يبدو من تاريخ حياته، فهو قطعاً رواها عن أحد الصحابة، لكن مرسل الصحابي مرفوع متصل لا شك في ذلك.
وهذه هي أتم الروايات وأصحها سنداً وأتمها ألفاظاً، وليس فيها مخالفات، وكذلك رواية
ثابت عن
أنس وإن كَانَ بينهما اختلاف، فالاختلاف وقع بين الروايات، ويمكن أن يجمع بينها، إلا أن الرواية التي فيها الاختلاط والاضطراب هي رواية
شريك بن عبد الله المدني وهي أكثر ما عول عليها الإمام
ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في
الزاد وإن كَانَ لم يأخذ ببعض ألفاظها، والمصنف نقل تقريباً كلام
ابن القيم بنصه، فلم يأتنا برواية كاملة منفصلة.
وإنما ذكر من عنده رواية مدرجة، ذكر فيها من هنا وهناك، وإن كَانَ أكثر التعويل فيها في الحقيقة هي عَلَى رواية
شريك، ويبدو أن فيها نوعاً من التفصيل، وهي الرواية التي علق عليها
الحافظ في الجزء (13) في آخر
الصحيح في كتاب التوحيد ونحن الآن نذكر إن شاء الله تَعَالَى ما ذكره المُصنِّف مما هو ملخص أو منقول حرفياً تقريباً من كلام
ابن القيم رحمه الله تعالى.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكان من حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسري بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، راكباً عَلَى البراق، صحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
ثُمَّ عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إِلَى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عَلَيْهِ السَّلام وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما فسلم عليهما فردا عَلَيْهِ السَّلام، ورحبا به وأقرا بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى.
ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر عَلَى موسى فقَالَ: بم أُمِرتَ؟
قَالَ: بخمسين صلاة.
فقَالَ: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إِلَى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت، فعلى به جبريل حتى أتى به إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في صحيحه.
وفي بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثُمَّ نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقَالَ: ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف.
فقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي] اهـ.
الشرح :
هنا إضافة بعد قوله: [وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق]، وهي في الحقيقة من طريق شريك بن عبد الله المنتقدة التي فيها ألفاظ شاذة مخالفة [فوضع عنه عشراً] هذه تكملة للكلام الأول وهو مجموع من عدة الطرق.
لكن عَلَى القراءة من النسخة التي بتعليق الشيخ الألباني كأن هذا هو لفظ البُخَارِيّ في صحيحه وكأن ما بعده "في بعض الطرق" خارج البُخَارِيّ مثلاً، وهذا بالعكس، والطريقة السليمة أن يقول: هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق، أما الطرق الأخرى عند البُخَارِيّ وغيره فليس فيها وهو مكانه، وسيأتي إيضاح هذا.