القول المخالف للقول الصحيح، نقله ابن إسحاق في السيرة في أول الجزء الثاني من سيرة ابن هشام، نذكر كلام المُصنِّف أولاً، ثُمَّ نبين اللبس الذي حصل فيه، يقول: [فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقله ابن إسحاق عن عَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].
وقد نقل كلام ابن إسحاق الإمام أبو جعفر مُحَمَّد بن جرير الطبري في تفسير آية ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)) [الإسراء:1] ونقده ونقضه، ونقله أيضاً الحافظ ابن كثير ونقده، ورجحوا مذهب جمهور السلف.
ونعود إِلَى التفصيل فنقول: من قرأ كلام ابن إسحاق لا يجد فيه جزماً بأن الإسراء والمعراج كَانَ بالروح أو بالجسد، في اليقظة أو في المنام؛ بل قال والله أعلم أي ذلك كان، والله قادر عَلَى أن يسري بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليقظة أو في المنام، فالحقيقة أن ابن إسحاق نفسه متردد ولم يجزم.
وثانياً: أنه لما نقل كلام من قال من السلف إنه كَانَ بالروح، نقل كلام معاوية وعَائِِِشَةَ والحسن، فأما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: رُوي عنه أنه قَالَ: كانت رؤيا من الله صادقة، والجواب عَلَى ذلك من وجهين:
الأول: أن هذا لم يثبت عن معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
ثانياً: لو فرضنا ثبوته فإنه لا ينفي أن تكون الرؤيا هذه هي إسراء ومعراج بالحقيقة بالروح والجسد، لأن عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القُرْآن قد قال كما روى الإمام البُخَارِيّ عنه في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] قَالَ: "رؤيا عين أُريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يعني: ليست رؤيا منام، وإنما هي رؤيا عي.
والرؤيا في كلام العرب تطلق عَلَى رؤيا العين وإن كانت أكثر ما تطلق عَلَى رؤيا المنام، أما "الرؤية": فإنها هي التي بالعين فابن عباس فسر ذلك بأنها رؤيا صادقة، وبأنها رؤيا عين، فلا يشترط في قول معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ :"هي رؤيا صادقة" أنها مجرد منام.
وأما قول عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها فقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول ذلك، يعني: أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول: كَانَ الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وابن إسحاق يقول: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ كانت تقول.
إذاً: في السند مجهول لا ندري من هو الذي حدثه، أثقة أم غير ثقة، فلا يصح عنها ذلك، وكذلك البيهقي رواه من طريق أخرى بنفس السند، قال حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ، فلا ندري من هو هذا البعض.
إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها قالت ذلك، انتهينا من كلام معاوية وعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
وأما الحسن البصري فاستدل ابن إسحاق بكلامه في آية (((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))[الإسراء:60] ولم يأت أنه أنكر أن يكون الإسراء والمعراج حقيقة، وإنما قال الحسن في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))"بأنها رؤيا فتن النَّاس بها".
إذاً: هذا الذي ذكره ابن إسحاق تفسير لكلام الحسن أن هذه رؤيا أي في المنام، والحسن لم يقل ذلك، لأنه يمكن أن يُحمل كلام الحسن عَلَى كلام ابن عباس فتكون الرؤيا حق ورؤيا عين، كما قال ابن عباس رضي الله تَعَالَى عن الجميع، فالحقيقة أنه لا يثبت لدينا قول نعتمد عليه عن السلف في أن الإسراء والمعراج لم يكن بروحه وجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاً.