المادة كاملة    
منهج أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ومما ثبت لله تعالى: صفة المحبة والخلة، وهي صفة لائقة بالله تعالى ليست كمحبة المخلوقين وخلتهم، وإثباتها لا يستلزم التمثيل ولا التشبيه، وقد أنكرت الفلاسفة والصابئة هذه الصفة، وأخذ ذلك عنهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً!!
  1. الضلالات في إنكار الصفات

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين، زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم، كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم، في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بـواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس: ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً.
    وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره، وناظر عليه، وإليه أضيف قول: الجهمية . فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.
    وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
    قد تخللت مسلك الروح مني             ولذا سمي الخليل خليلاً ].
    كنا ذكرنا كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في درجات المحبة، وما هي أعلى هذه الدرجات وأعظمها، وهي منزلة الخلة، وكان أعظم الخليقة تحقيقاً لهذه المنزلة الخليلين محمداً وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
    ثم ذكر المصنف هذه الآية: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] في أول شرح هذه الفقرة مطابقة لقول الماتن.
    وهنا مفرق الطريق بين أهل السنة وأهل البدعة في هذا المبحث وفي جميع المباحث، ولهذا قال بعض السلف لما سئل: إن قوماً قالوا: لا نثبت الصفات!! قال: نحن أخذنا ديننا عن التابعين عن الصحابة الكرام عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟! ونحن عندما نثبت هذه الصفة إنما نثبتها لأن الله أخبر بها قال تعالى:: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125]، وكذلك نقول في تكليم الله لموسى: قال تبارك وتعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164].
    ثم قال: [الخلة كمال المحبة] كما يقول بعد: [لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب]، فإذا أحب المرء محبوباً، واستغرقت محبته قلبه كله حتى تخللت قلبه وتعمقت فيه، فهذه تسمى خلة، واستدل على ذلك من كلام العرب بقول الشاعر:
    [قد تخللتِ مسلك الروح مـني            ولذا سمي الخليل خليلاً
    يقول: إن محبوبه قد تخلل منه مسلك الروح، ودخل إلى الأعماق، كأنه ملأ خلال القلب وفجواته، فما بقي في هذا القلب أي مجال لغيره، وهذه غاية المحبة وعمقها، ولذا سمي الخليل خليلاً، فالخلة إذاً هي كمال المحبة.
  2. إنكار الجهمية لحقيقة المحبة وأصل ضلالهم

     المرفق    
    قال رحمه الله: [وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين] فقالوا: إن الله تعالى لا يُحِب ولا يُحَب.
    وهنا نرجع إلى الأصل الفلسفي الذي أخذوا منه وهو قولهم: " زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة". وقبل أن نشرح الفقرة نتكلم قليلاً عن الفلاسفة: فـ(فيلسوف) كلمة معربة، وأصلها (فيلاسوفياً)، ومعناها: محب الحكمة، أو الحكيم الذي يحب الحكمة ويعشق الحكمة، ولهذا كانوا يسمون بالحكماء.
    وهؤلاء الفلاسفة حقيقة دينهم واعتقادهم في الإلهيات أن الله تبارك وتعالى لا يوصف بشيء مطلقاً، قالوا: لأنه أجل وأعظم من أن نصفه بشيء، هذا الكلام صحيح إذا كان الوصف من تلقاء أنفسنا، لأننا قد نصفه بشيء لا يليق به سبحانه، لكن إذا جاء هذا الوصف من عنده سبحانه وتعالى، فإننا نصفه بما وصف به نفسه، لكن هؤلاء القوم إما أنهم عاشوا في فترة من الرسل، أو أنهم عاشوا في فترات تحريف لدعوات الرسل، أو أنهم كانوا من المكذبين للرسل، فلا يخلو الأمر من ذلك، فلهذا استقلوا بعقولهم في معرفة الله عما جاءت به رسل الله، وإلا فرسل الله تعالى ما جاءوا إلا بالتوحيد الصحيح الذي فيه إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، فكل الأنبياء دعوا أقوامهم إلى الله، وعرفوهم بالله سبحانه وتعالى بلا ريب، وإن كان أكثرهم وأعظمهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الفلاسفة بمحض العقول قالوا: لا نصفه بشيء، ويظنون أن ذلك من باب الإجلال له؛ لأن المسألة عندهم ليست مجرد عناد للرسل، أو مجرد إنكار للصفات، بل يظنون أنهم أتوا بالحق في حق المعبود سبحانه وتعالى. حتى غلا بعضهم فقال: لا نصفه بشيء مطلقاً، لا بصفات الإثبات، ولا بصفات النفي، والبعض الآخر قال: لا نثبت له شيئاً، ولكن نصفه بالسلوب فقط -أي: نصفه بالصفات السلبية فقط- فإذا قلت: إن الله عليم، خبير، سميع، بصير، هذا عندهم تشبيه وتمثيل.
    1. الطوائف المنحرفة في الصفات ودرجات انحرافهم

      لقد أخذت بعض طوائف المسلمين بمذهب القائلين: بأنه لا يوصف بشيء مطلقاً، ومن ذلك الباطنية، فإن الباطنية والقرامطة ومن اتبعهم غلوا في ذلك، حتى قالوا: لا نقول: هو موجود ولا غير موجود، وهذا من غلوهم أما الجهمية فأقل من ذلك بدرجة، فقد أخذوا مذهبهم عن الفلاسفة الصابئين من أهل حران وما حولها، وهؤلاء يقولون: نصفه بالوجود بشرط الإطلاق، يعنون وجوداً مطلقاً، ولا يوصف بأي وصف من الأوصاف عدا الوجود المطلق، وأقل منهم درجة وأخف ضرراً وشراً المعتزلة فقالوا: نثبت له الأسماء ولا نثبت له الصفات، ولذلك يجعلون الأسماء جميعاً مترادفات في دلالتها على الذات، فإذا قلت: العليم أو الحكيم أو الرحيم فالمعنى واحد، وليس هناك صفات متضمنة لمعنى.
      وأقل منهم درجة في اتباع هؤلاء الفلاسفة والجهمية هم الأشاعرة والماتريدية الذي يثبتون بعضاً من الصفات التي يسمونها (العقلية)، فهم يثبتون مثلاً الحياة، والوجود، والبقاء، والسمع، والبصر، والإرادة، والعلم، والكلام.
      كل هذه الطوائف التي ذكرناها تشترك في أنها تنكر المحبة، حتى الأشعرية والماتريدية، وهم أقل هذه الطوائف ضرراً وشراً، وهم الأقرب إلى الإثبات. وكان قصدنا هنا بيان تسلسل أو تدرج هذه الطوائف في الأخذ من أصل هذه الضلالة؛ وهم الفلاسفة، لكن إذا قارنا هذا الكلام بما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في أكثر من موضع كما في الحموية وغيرها، من أن أصل مقالة نفي الصفات مأخوذ عن اليهود، كما ذكر ذلك نقلاً عمن سبقه من العلماء ممن تعرضوا لتاريخ نشأة هذه الضلالات، فكيف التوفيق بين الأمرين؟
    2. عقيدة اليهود في الصفات

      وبصورة أخرى نصيغ السؤال: هل دين اليهود، وعقيدة التوراة والتلمود نفي الصفات؟ أم على العكس من ذلك وهو الإثبات؟
      إذا قلنا: في الحقيقة من قرأ التوراة وجد التشبيه والتمثيل، والله يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لكن في التوراة يثبتون لله المثل، وتبعهم أحبار التلمود الذين كتبوه، وهو عبارة عن شريعة اليهود الشارحة للتوراة، فإذا نظرنا إلى يهودي يؤمن بالتوراة والتلمود، فإن عقيدته تكون التمثيل، فهو يمثل الله تعالى بخلقه، ويجعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين، ومع ذلك أول ما نقرأ في التوراة المحرفة في أول سفر التكوين، يقولون في هذا السفر عندما يتحدثون عن الله سبحانه وتعالى: (إن الله سبحانه وتعالى خلق الآن الإنسان على صورتنا كشبهنا، ثم إنه لما خلق الإنسان خلق آدم وحواء عريانين لا يلبسان شيئاً، ولا يعرفان أهمية ولا قيمة الثياب، وحجب عنهما أو نهاهما عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، قال لهما: من كل شجر الجنة تأكلان إلا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا منها) ثم يأتي تشبيه وتمثيل صفات الله بخلقه بقولهم: (إن المرأة أغوت الرجل عن طريق الحية، جاءت الحية وكلمت المرأة، والمرأة أغوت الرجل، فأكلا من شجرة معرفة الخير والشر، فلما أكلا منها تبين لهما أنهما عريانان فسترا أجسادهما) يقول: (وبينما الرب في الصبح عند هبوب الريح يتمشى في الجنة وينادي: يا آدم .. يا حواء .. فلم يجبه أحد قال: أين أنتما؟ أين أنتما؟ قالا: نحن مختبئان،قال: لماذا اختبأتما؟ قالا: لأننا كنا عريانين قال: إذاً: أنتما أكلتما من شجرة معرفة الخير والشر، فعلمتما أنكما عريانان) سبحان الله وكأن الله ما علم عنهما وما تفطن لهما تعالى الله عما يقولون!
      هكذا تبدأ التوراة، ثم في مواضع كثيرة تجد العجب من أمثال هذا، إذاً دين اليهود هو الإثبات إلى حد التمثيل، ويجعلون الله سبحانه وتعالى كأي واحد من الخلق، وهذا أبعد شيء عن التجريد والنفي المطلق الذي يقول به الفلاسفة، وهو أنه لا يوصف بشيء مطلقاً حتى قلنا: إنه قد غلا بعضهم فقال: لا يوصف لا بصفة وجود ولا بصفة عدم، لا ثبوت ولا سلب أبداً.
    3. كيفية دخول مذهب التمثيل إلى المسلمين عن طريق اليهود

      أما كيف دخل مذهب التمثيل إلى المسلمين عن طريق اليهود، فذلك عن طريق عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه من السبئيين، فقد قالوا في علي بن أبي طالب : أنت الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فاليهود عن طريق عبد الله بن سبأ أدخلوا هذه العقيدة الفاسدة، وهي أن الله تبارك وتعالى يحل في المخلوقين، فإذا نظرنا إلى ما يذكرونه في توراتهم وإلى ما قاله عبد الله بن سبأ وأتباعه في حق علي رضي الله عنه، نجد التشابه والتطابق، ثم تلقف هذا المذهب الخبيث الشيعة، وعن طريق السبئية أصبح مذهب التمثيل والتشبيه رائجاً عند الشيعة، ونبغ منهم هشام بن الحكم الرافضي الذي نشر مذهب الرافضة في التمثيل والتشبيه، وقد قلنا: إن الأمر آل بـالروافض إلى الاعتزال، فقد كان أصل دين الرافضة وقدمائهم جميعاً التمثيل والتشبيه، لكن آل بهم الأمر بعد فتنة الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى الاعتزال، ولذلك نجد اليوم الشيعة في كل بلاد العالم مذهبهم ودينهم في الصفات والقدر هو مذهب المعتزلة إلا في فروع يسيرة تتعلق بمسألة الخلافة والإمامة، لكن من حيث الصفات هم نفاة معتزلة .
      وأما الجانب الآخر -وهو جانب النفي- فقد دخل إلى المسلمين عن طريق اليهود، فإن اليهود كانوا على قسمين: قسم منهم يؤمنون بما في التوراة والتلمود، وهؤلاء هم الذين يقولون بالإثبات الذي يفضي إلى التمثيل والتشبيه، وقسم آخر من اليهود القدماء تفلسف، وهؤلاء نسميهم فلاسفة اليهود، وفلاسفة اليهود يدينون بدين الفلاسفة، وهو النفي، وصاروا قسمين: يهودي متفلسف، ويهودي على دين التوراة المحرفة والتلمود، وكل منهما نشر هذه البدعة ونشر هذه الضلالة بين المسلمين، وبذلك لا يستغرب أن يكون هناك صلة بين اليهودية وبين الفلسفة.
      وتوضيح ذلك أن ابن سبأ من يهود اليمن فلا غرابة أن يكون توراتياً تلمودياً لأن اليمن وجزيرة العرب عموماً، هي أقل احتكاكا بالثقافات الغريبة أو الغربية أو الأجنبية، لكن اليهود الذين كانوا في مصر وبلاد الشام حصل التمازج بينهم وبين الثقافات التي تعود إلى جذور رومانية، ومن هنا ظهر بعض الفلاسفة اليهود، مثل فيلون وهو فيلسوف يهودي مشهور، كما وجد من النصارى فلاسفة أيضاً، وظهر من المنتسبين إلى الإسلام أيضاً فلاسفة، فدينهم واحد من حيث الفلسفة، لكن انتماءاتهم مختلفة من حيث الأديان:
      فـفيلون مثلاً يهودي، وأوغسطين نصراني، وابن سينا منتسب إلى الإسلام، فالكل دينهم واحد وهو الفلسفة، وكل يزعم -أو على الأقل بعضهم- أنه بإمكانه أن ينصر دينه بالفلسفة، هذا المدخل الخبيث دخل منه أولئك الضالون على المأمون، حتى حدثت المحنة التي أشار إليها المصنف هنا، فيظنون أنهم بتبنيهم للفلسفة ينصرون دين الإسلام، ويدافعون عن حقائق الدين!! ومع الأسف أنك تجد كثيراً ممن يدافع عن هؤلاء المنحرفين من المعتزلة أو الجهمية أو غيرهم من المتكلمين يقول: إن غرضهم كان الدفاع عن الدين بالحجج والأساليب العقلية، وذلك حتى لا يبقى الإيمان مجرد تلقٍّ ونقل، فمن هذا المدخل الخبيث دخل الشيطان على الأمم قبلنا، وكذلك اليهود أيضاً كان فيهم فلاسفة، وكانوا يظنون أنهم بالفلسفة يؤيدون التوراة، ويؤيدون دينهم، وكذلك النصارى فإن أوروبا الكاثوليكية المعروفة اليوم، تبنت ما يمكن أن نسميه علم الكلام النصراني المأخوذ عن أرسطو، الذي فيه نفي للقدر ونفي للصفات، وكانت الكاثوليكية تدافع عنه وتتبناه. وكثير من الأحبار أو من علماء الدين النصراني كانوا في الحقيقة علماء كلام بالمفهوم الذي ينطبق على علم الكلام عند المسلمين، ويظنون أنهم بذلك يدافعون عن دينهم، وهكذا وقع في هذه الأمة، وعليه فيكون أصل مقالة إنكار الصفات، ومنها إنكار محبة الله، وإنكار أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه كلم موسى تكليماً؛ أصلها يرجع إلى الفلاسفة أو المتفلسفة من اليهود، وأما الجانب الآخر فمعلوم كيف دخل في الإسلام.
  3. وقفة مع الجعد بن درهم وتلقيه النظريات الباطلة

     المرفق    
    وهنا نقف قليلاً عند الجعد بن درهم، الذي هو أشهر من نسبت إليه المقالة السابقة، فـالجعد بن درهم تلقى هذه النظريات الباطلة عن فلاسفة الصابئين و -خاصة أهل حران - وهم قوم يعبدون الكواكب ويسمون الفلاسفة الروحانيين، ويدّعون أنهم روحانيون، وهؤلاء مذهبهم على مذهب قدماء اليونان -أيضاً- في إنكار الصفات، ولهم عقائد باطلة كثيرة، فتلقى الجعد بن درهم عن هؤلاء الصابئين من أهل حران ومن غيرهم هذه العقيدة الفاسدة، ومنه تلقى الجهم، مع أن الجهم -كما سنوضحه إن شاء الله- أخذ عن السمينية وهم طائفة من فلاسفة الهنود.
    فـالجعد بن درهم كان شؤماً، وهكذا كل أهل البدع كانوا شؤماً على أممهم وعلى دولهم، فمن شؤم الجعد بن درهم أنه كان مؤدباً لـمروان بن محمد الذي يسمى مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، وسمي الحمار لكثرة المصائب والبلايا التي تحملها، وذلك من تساقط الأقاليم والمدن في أيدي العدو؛ لأنه جاء وقت ضعف الدولة وكان نهاية دولة بني أمية في عهده، فالمقصود أننا لو نظرنا إلى الأمم المكذبة لدعوات الرسل، نجد أنهم: يتطيرون برسل الله سبحانه وتعالى، ويتطيرون بدعوة الحق والخير والهدى، ويظنون أن الخير والبركة فيما هم عليه من الضلالات، والواقع أنهم بعكس ذلك، فطائرهم معهم وشؤمهم من أنفسهم، أما دعوة التوحيد والإيمان، فهي يمن وخير وبركة على من آمن بها، وناصرها وأيدها واعتقدها في قديم الدهر وفي حديثه.
    فما اتبع قوم دعوة التوحيد والسنة إلا أبدلهم الله تبارك وتعالى بعد الفقر غنى، وبعد الذل عزة، وبعد التشتت تمكيناً واستقراراً، هذه قاعدة معروفة في التاريخ كله قديمه وحديثه، وبالعكس من ذلك: ما تبنت دولة من الدول مذهب أهل الضلال والبدع، إلا طوق بها، ومزقها الله تبارك وتعالى شر ممزق، فكانت دولة بني أمية على أقوى ما تكون، وكان شتاتها على يد الضال الجعد بن درهم وبشؤمه، وكذلك دولة بني العباس تزعزعت أركانها بسبب شؤم المعتصم الذي عذب الإمام أحمد وضربه وجلده، ففي عهد المعتصم بدأ استخدام الترك واعتماد الدولة بالكلية عليهم، فلما استبدوا بالأمر وأصبحت القوة -مع مرور الوقت- بأيديهم، كانوا يأتون بالخليفة فيسملون عينيه، أي: يدقون في كل عين من عينيه المسامير، ويعزلونه ويأتون بخليفة آخر فينصبونه كما يشاءون، بل بعض خلفاء بني العباس لم تستمر خلافته إلا يوماً وليلة فقط، منهم الشاعر المشهور عبد الله بن المعتز صاحب الشعر؛ لأنه لم يعجب أولئك الأجناد المتسلطين، الذين كانوا جنوداً للمعتصم عندما قبض على الإمام أحمد وعذبه وآذاه، فنجد أهل البدع وأهل الضلال وجند الشر وجند الخرافة شؤماً على دولهم وعلى أممهم، فهذا الجعد بن درهم كان هذا حاله في عهد الدولة الأموية.
    1. مقتل الجعد بن درهم على يد خالد القسري

      يقول رحمه الله: [وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ] يعني أول من أظهره ممن ينتمي إلى الإسلام، وإلا فهو مذهب موجود من قبل أخذه عن أولئك الصابئين الفلاسفة.
      قوله: [في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بـواسطخالد بن عبد الله القسري كان من أمراء بني أمية على العراق وعلى المشرق، وبلغته هذه الدعوة وهذا المذهب الخبيث، الذي قال به الجعد بن درهم ولم يسبقه إليه أحد من أهل الإسلام، فأحضره فأقر بذلك، وأبى إلا أن يموت عليه، نسأل الله العفو والعافية، وكان خالد رجلاً حازماً شديداً قوياً، فأخذه و[خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه].
      وأخبار خالد بن عبد الله القسري مشهورة في كتب السير والتواريخ، وكان لجده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصله يرجع إلى إحدى قبائل هذيل المعروفة، فكانت تلك حسنة وهدية عظمى، وفضيلة كبرى لهذا الرجل، حفظها له علماء الإسلام من المؤرخين والعلماء، وكل من تحدث في الفرق ونشأتها، فهي مأثرة ومنقبة ومحمدة لهذا الأمير؛ وذلك بما فعل بذلك الملحد في أسماء الله تعالى وصفاته هذه الفعلة وهو يستحقها، وقد شكره عليها كل العلماء بغض النظر عن من أفتاه بأن يفعل ذلك؟! وكل من بلغه ذلك من التابعين فرح واستبشر، ولم ينقل قط عن أحد من علماء المسلمين أو قضاتهم في ذلك الزمن إلا الفرح والسرور بالقضاء على هذا الضال، الذي أنكر ما صرح الله تبارك وتعالى به في القرآن.
      يقول هذا الملحد: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، والله تعالى يقول: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] ويقول -أيضاً-: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، والله تعالى يقول: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164] لا يمكن أن يسمع بمقتله مسلم إلا ويفرح ويدعو لمن فعل هذه المأثرة والمنقبة غفر الله لنا وله.
      ثم يقول: [وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً].
    2. الجهم بن صفوان يتابع الجعد بن درهم في ضلالاته

      قال: [وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية ] والجهمية: علم مشهور يطلق على منكري صفات الله سبحانه وتعالى، وعلى القائلين أيضاً: بأن الإيمان هو مجرد المعرفة، فبمجرد أن الإنسان يعرف الله فهو مؤمن عندهم، وعلى الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا اختيار، أرأيتم كيف جمع الجهم بين هذه المصائب الثلاث، وكل واحدة منها كافية في أن يعاقب بما عاقبته به الأمة الإسلامية، من ذكره بأسوأ الذكر في كل كتب تواريخها وسيرها وأعلامها ورجالها، فضلاً عما عوقب به من القتل في عصره. فهو يقول: إن الله تعالى لا يوصف بشيء، ويقول: إن الإيمان هو المعرفة، ويقول: إن العبد مجبور على أفعاله، لا إرادة له ولا اختيار، بل هو كالريشة في مهب الريح. وكل واحدة من هذه تستحق أن يعاقب صاحبها إذا أصر عليها بمثل العقوبة التي عوقب بها الجهم .
      والجهم ترجم له وذكر شأنه كثير من العلماء، ومن أجلهم وأقدمهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه خلق أفعال العباد، ذكر نبذاً من ذلك عن الأئمة الذين تكلموا في الجهم .
    3. تناظر الجهم وتشككه في دينه السمنية

      وهناك طائفة موجودة في الهند ومثل فكرتها أيضاً في الفكر اليوناني، يقولون: لا نؤمن إلا بالمحسوس المشاهد الذي يراه الإنسان بعينه، ويلمسه بيده ويسمعه بإذنه، ويشمه بأنفه، هذا المحسوس نؤمن به، فما عدا ذلك ينكرونه بزعمهم، وفي الحقيقة لا يوجد إنسان ينكر كل شيء غاب عن هذه الحواس بهذا الشكل القاطع، لكن هكذا ظهرت، وهذا الضال المسكين -الجهم- لأنه أراد أن يتشبه بشيخه الجعد، وأراد أن يصبح فيلسوفاً أو حكيماً وأعرض عن الكتاب والسنة، وكان من أجهل الناس بالقرآن والسنة وأحكامهما، وكان من أبعد الناس عن العلماء وعن حلقاتهم، وهنا نأخذ العبرة والعظة من أين تأتي الضلالات؟!
      فالتقى بقوم من فلاسفة الهنود فلما قالوا: ما دينك؟ قال: مسلم. قالوا: من تعبد؟ قال: أعبد الله. قالوا: كيف ربك هذا؟ قال: ما أدري. قالوا: هل رأيته؟ قال: لا. قالوا: هل لمسته؟ قال: لا. قالوا: هل شممته؟ قال: لا. قالوا: هل سمعته؟ قال: لا. قالوا: هل ذقته؟ قال: لا. قالوا: إذاً: أنت يا جهم تؤمن بشيء لا وجود له، فشككوه في دينه، فانظروا إلى هذا المسكين، لا علم عنده ولا فقه، ولم يرد الأمر إلى أهل العلم، لأن الله يقول: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[النحل:43] وهكذا تجد أي مسلم عنده شبهة وضلالة فإنما هو من مجالسة أهل البدع، ولهذا نعلم خطورة قول من يقول: يجب أن ننفتح على الفكر العالمي ونحن واثقون مطمئنون، ونقول: سبحان الله! أننفتح على الأفكار الهدامة والضلالات المردية، فيقع في القلوب من الشبه والشكوك ما الله به عليم؟!
      المهم أن الجهم قال: أمهلوني. فشك في دينه وبقي أربعين يوماً لا يصلي -كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله نقلاً عن شيوخه- فظل يفكر بالليل والنهار كيف يجيبهم، فتذكر شيئاً قال: هذا الهواء ليس له طعم ولا لون ولا ريح، فخرج إليهم فقال: إن ربه مثل الريح، وقيل في بعض النسخ: إنه قال: مثل الروح ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، بطبيعة الحال لن تؤمن السمينية بمثل هذا الكلام، ولكن الذي ضل هو هذا الرجل، ولذلك أخذ يؤصل لمذهب خبيث وهو أنه ليس لله تبارك وتعالى صفات، وأن تنزيه الله هو بنفي صفاته كما قال شيوخه من الفلاسفة، وحتى امرأته -كما نقل الإمام عثمان الدارمي رحمه الله في رده على بشر - تعلمت منه، ولقيها بعض من العلماء في سوق الدباغين، فسمعت رجلاً يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قالت: محدود على محدود؟! فعلّم زوجته وأفسدها، وهكذا دعاة الشر يفسدون نساءهم، ومع الأسف أن بعض دعاة الخير لا يصلحون أزواجهم.
    4. بشر المريسي وبرغوث يحملان راية البدعة بعد جهم

      تلقف هذه المقالة بعده وحمل الراية بشر بن غياث المريسي اليهودي، وذلك بعد هلاك الجهم فقد قتله والي بني أمية سلم بن أحوز، وعندما جيء به ليقتله وذلك لأنه قد كان شارك في ثورة قامت على الدولة الأموية، وكان الجهم كاتباً لقائد هذه الثورة فلما قضت الدولة الأموية على هذه الثورة، جاء والي الشرطة وقال لـجهم : والله يا جهم ! إنك لأحقر عندي من أن أقتلك على ما فعلت -أي: لا تظن أنني أقتلك لأنك شاركت من ثاروا على الخلافة، فالأمر أهون من ذلك -ولكن لما بلغني عنك. يعني انحرافك في العقيدة من إنكار الصفات فقتله، ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان سلم بن أحوز وأن يثيبه، فقد أراح الأمة من شر عظيم، لكن جاء بشر المريسي ومن معه مثل برغوث، وما أدراك ما برغوث المعتزلي فرفعوا راية التجهم وإنكار الصفات.
  4. نشأة المعتزلة وأصل ضلالهم

     المرفق    
    يقول المصنف: [ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون]، ومعلوم أن المعتزلة جاءتهم الفتنة من باب آخر، وجاءهم الشيطان من باب آخر، فقد كان عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء من أعبد الناس ومن أزهد الناس، وكانا يترددان على حلقة الحسن البصري رحمه الله، وهو من هو في إمامته وفضله وزهده وتعبده وتألهه، وكانوا أقرب شيء إلى سيرة الخوارج، فـعمرو بن عبيد عندما تقرأ سيرته تجد فيها من سيرة الخوارج من عبادة وزهد وتخشع وكثرة قراءة للقرآن، ولكنها على ضلالة، نسأل الله العفو والعافية.
    فكان أول ظهور مذهبهم هو في المسألة التي خالفت فيها الخوارج، وهي مسألة الإيمان لا مسألة الصفات، فأصل ظهور الاعتزال هو مسألة الإيمان وليس الصفات؛ لأن الناس جاءوا يسألون الحسن البصري رحمه الله، قالوا: العاصي الفاسق مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أم كافر؟ فـالخوارج يقولون: كل من ارتكب كبيرة فقد كفر وخرج من الملة، فإذا شرب أحد الخمر كفر، وإن زنى كفر، وإن سرق كفر، وهذا هو مذهب الخوارج .
    والحسن البصري رحمه الله كان عالماً ربانياً، فلم يرد أن يقول: إنه مؤمن؛ لأنه لو قال مؤمن لفهم من وجه آخر أن الإنسان يزني ويشرب الخمر ويسرق، ويقول: أنا مؤمن، فكان مما أجاب به أن قال: [[إن الله تعالى ذكر صفات المؤمنين، وذكر صفات الكافرين أو الفاجرين والفساق، وهذا رجل يزعم الإيمان ويدعيه ثم يخالفه!! هذا شأن المنافقين]]، ولهذا بعض الناس نسب إلى الحسن البصري أنه خالف السلف، وأنه يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق. وهو لا يقصد ذلك، لكن يقول: هذا من باب إذا وعد أخلف؛ لأنه يدعي الإيمان -كل مؤمن هو معاهد لله على الإيمان- ويخالف ذلك.. المقصود أن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد قالا: إذا قلنا: إنه مؤمن فقد شهدنا له بالإيمان وهو يزني ويسرق ويكذب، ولا يمكن هذا !! وإذا قلنا: إنه كافر فمعه التوحيد ! إذاً كيف الحل؟ قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر نجعله في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، فلا نقول: هو مؤمن، ولا نقول: هو كافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فقالا: خالد مخلد في النار، وأتوا على كل ما يدل على مغفرة الله سبحانه وتعالى لأهل الكبائر فأولوه، وظنوا أن ذلك أقوى في إثبات الدين والحق.
    وفي نفس الوقت ظهرت مسألة القدرية، فقالت المعتزلة: يا عجباً! لمن يفعل المعاصي ويقول: إن الله قدرها عليّ، إذاً: دفعاً لذلك نقول: لا قدر، ولابد أن نقول: إن الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ لأننا إذا قلنا: إن الله هو الذي يخلق أفعال العباد، فيكون هو الذي خلق فيهم ترك الصلاة، وخلق فيهم فعل الزنا، وخلق فيهم أنواع المعاصي!!
    1. الفوائد والعبر من دراسة البدع ومعرفتها

      فلا إله إلا الله كم يستفيد الإنسان من هذه الأحوال والقصص من عبر، منها: أننا لا ننظر إلى مجرد نية أو قصد أهل البدع، ومن أصّل مذهبه على خلاف الكتاب والسنة وعاند، ونقول: إنه كان يريد إثبات الحق ونصر الدين.. !! نعم. نحن لا نشك أنه يوجد أناس عندهم حسن نية، ومع ذلك تجدهم يضلون الناس ضلالاً بعيداً.وكذلك لا نستصغر أي بدعة أو صاحب بدعة، فلا يقولن قائل: ماذا يفعل الجهم بن صفوان أمام العلماء المتكاثرين من التابعين وتابعي التابعين في ذلك الزمن ليقل ما يشاء فلن يؤثر؟! هذا ليس بصحيح، فأنت لو نظرت إلى أكثر المسلمين اليوم -مع ما حورب به الجهم- لوجدتهم على عقائد الجهمية ! إذاً فلا نهون من شأن البدع التي تخرم الدين، بل نقف لها بالمرصاد، هذه عبرة.
      ومن العبر -أيضاً- أننا لا نغتر بالمظاهر ولا ننخدع بها مهما كان مظهر أهل البدع، فإن عمرو بن عبيد بلغ به من الزهد والورع، حتى كان يدخل على أبي جعفر المنصور وبعض الخلفاء فيعظهم حتى يبكيهم، فيذكرهم حقارة الدنيا وأهوال الآخرة، ويخوفهم بالله عز وجل، ثم إذا أعطي عطية يرفض العطية ولا يأخذ شيئاً من الأموال، ويخرج؛ حتى يظهر الزهد -والله أعلم أهو زهد مفتعل أو حقيقي- فقيل: إن المنصور قال فيه:
      كلكم يمشي رويدا ... كلكم طالب صيد ... غير عمرو بن عبيد .
      يعني هو الذي لا يطلب الصيد، ولا يعظ لأجل الدنيا، وإنما يعظ لأجل أن تبرأ ذمته، ويحتسب الأجر عند الله، لكن في الحقيقة كان رأساً في ضلالة الاعتزال.
    2. ظهور قول أهل البدع في عهد المأمون

      ظهرت قوة هذه الضلالة في زمن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكانت محنة على الإمام أحمد وعلى أهل السنة .
      يقول المصنف: "وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك". عندما تولى المأمون بن هارون الرشيد الخلافة، وكان المأمون يحب الاطلاع على هذه الثقافات وعلى تلك العلوم، فعظّم وقرّب أولئك الذين لديهم علم بها، وكتب إلى ملوك الروم يريد منهم الحصول على هذه الكتب، وأنشأ دار الحكمة -وكما قلنا: الحكمة عندهم الفلسفة- والمقصود منها أن تترجم هذه العلوم، ولذلك لما ذهبت رسله إلى ملك قبرص أو غيرها من بلاد الروم وبعد أن وصلت إليه الرسالة قام هذا الملك الرومي النصراني وجمع قومه وقال: قد جاءني كتاب من ملك المسلمين يطلب فيه هذه الكتب، فماذا ترون؟ فقال أكثرهم: لا نعطيه أبداً. هذه كتبنا، يعني الذين عندهم حس وطني واعتزاز بالتراث الوطني، قالوا: كيف نعطيهم كتبنا؟ ما نعطيهم أبداً، فقام أحدهم وكان في غاية الدهاء والذكاء فقال: أيها الملك! أرسلها إليهم، فوالله ما دخلت دين قوم إلا أفسدته، فأرسلها لتفسد دين المسلمين بها.
      فحمل الرسل تلك الكتب، وأخذ المترجمون يشتغلون بها، وكان منهم عبد الله بن المقفع المجوسي الذي يدعي الأدب، وكان يخفي المجوسية ويظهر الإسلام، وغيره ممن كانوا معه على هذه الضلالة، فكل من تولى ترجمة هذه الكتب أو القراءة فيها كان من أولئك، وهو على شاكلتهم، وبعضهم كان منظماً لأغراض خبيثة يخطط لها أعداء الإسلام، وبعضهم كان مستخدماً ومستعملاً لذلك، وبذلك ظهرت الحكمة حتى قيل: إن المأمون كان يجلس فيأتي عن يمينه المجوس وعن يساره اليهود أو النصارى وبعض المتكلمين، ويقول: تناظروا، فيتناظرون في الأديان وفي الآراء، وهو يجادل معهم ويناقش.
      ومن هنا اجتنبه علماء المسلمين وذموه ولاموه وعابوه، وكان الفرس -بالـذات؛ لأن أمه منهم- حريصين على أن يتولى الخلافة، ومكنوا له ضد أخيه الأمين حتى توطدت له الأمور، ثم أخذوا ينشرون هذه الضلالات وهذه البدع، ومن ذلك القول بخلق القران، ونفي الكلام عن الله تبارك وتعالى، وعظمت المحنة واشتدت على علماء الإسلام، وأكثرهم أو كثير منهم استسلموا وأذعنوا ووافقوا، وثبت الله تبارك وتعالى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، وكان صموده -رحمه الله- يضرب به المثل، والذي شبه بثبات أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في فتنة الردة، ثم كان بعد ذلك المعتصم ؛ لأن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما ثبت وصمد حمل إلى المأمون، وكان المأمون على الثغر في طرسوس، فدعا الإمام أحمد الله أن لا يريه المأمون، وفي أثناء الطريق وصل الخبر إلى الحملة بأن المأمون قد مات، فأعيد الإمام أحمد إلى بغداد حيث كان المعتصم قد تولى الخلافة، وهو الذي ضرب الإمام أحمد من الخلفاء، ثم شاء الله سبحانه وتعالى بلطفه أن جاء المتوكل، فكانت الكرة لـأهل السنة على أهل البدعة، وأظهر الله تبارك وتعالى الإمام أحمد وأهل السنة ونصرهم، ونكل المتوكل بأهل البدعة وسجنهم، وقيد من كان منهم على قيد الحياة وعاقبهم، فانتقم الله تبارك وتعالى منهم جميعاً.
      يقول رحمه الله: [وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً]، والصابئة هم عبدة الكواكب، وهم من بقايا أمة إبراهيم عليه السلام الذين بعث فيهم، فـالصابئة يعلمون من دينهم أن نبيهم ورسولهم هو خليل الرحمن، ومع ذلك أنكروا أن يكون خليلاً، وكذلك الذين أخذوا هذه المقالة من فلاسفة اليهود أنكروا أن يكون نبيهم موسى كليم الرحمن، ولذلك فالقول بإنكار الخلة وإنكار المحبة، مأخوذ عن هؤلاء الفلاسفة من المشركين والصابئين ونحوهم، ثم أخذها الجعد كما بينا، وهذا معنى قوله رحمه الله: [وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً] فقوله (وهم) يشمل المشركين والصابئين، وكذلك الجهمية الذين اتبعوهم في ذلك، قال: [لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
      قد تخلّلت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلاً]
      ثم شرع رحمه الله في بيان أن محبة الله تعالى وخلته ليست كمحبة المخلوقين ولا كخلتهم، فإثباتها لله تعالى ليس كإثبات أي صفة من صفات المخلوقين، فما يظنونه من أن إثبات الصفات لله تمثيل أو تشبيه مردود؛ لأن ذلك لا يقتضيه ولا يلزمه كما يزعمون.