المادة كاملة    
محبة الله تعالى لعباده المؤمنين وأوليائه الصالحين وأنبيائه المصطفين؛ ثابتة نقلاً وعقلاً وفطرة، ومحبة العباد لربهم واجبة، ثابتة شرعاً وعقلاً وفطرة، ومن أنكر أن الله يحِب أو يحَب فقد افترى إثماً عظيماً وأنكر حقاً ثابتاً في الشرع راسخاً في الفطر. والمحبة زاد الروح، وقوت القلوب، وهي مراتب ودرجات.
  1. إثبات صفة المحبة لله تعالى

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
    [ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً.
    قال المصنف رحمه الله:
    قال تعالى: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125]، وقال تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164].
    الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بـواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحايكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً.
    وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.
    وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب؛ كما قيل:
    قد تخللت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلا
    ]
    الشرح:
    يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: "ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً" هذه الواو عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجمل والاعتقادات السابقة.
    وقوله: "ونقول" القول في هذه المواضع معناه الاعتقاد وليس مجرد النطق، يعني: ونعتقد وندين لله تبارك وتعالى بهذا، وهو أن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلاً.
    والقول يطلق في أبواب العقائد على الاعتقاد، والمقالة تطلق على المعتقد، فلهذا نجد أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله لما كتب كتابه في عقائد الفرق والطوائف، سماه مقالات الإسلاميين، يعني: معتقدات الفرق الإسلامية، فتبين من ذلك أنه ليس مجرد النطق باللسان، وكما هو معلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، ومعنى (قول وعمل) أي: اعتقاد وامتثال، يعتقد بقلبه، ويقول بقلبه وبلسانه، ويمتثل أيضاً بقلبه وبلسانه وبجوارحه، ولهذا إذا فصلنا نقول: هو قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح على ما سنفصله إن شاء الله في موضوع الإيمان، ويأتي بعد، فإذاً: معنى: (نقول) أي: نعتقد نحن أهل السنة والجماعة من العقائد زيادة على ما سبق: المحبة لله.
    وكلام المؤلف يشتمل على موضوعين:
    الأول: أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وهو موضوع المحبة.
    والموضوع الثاني: مأخوذ من قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164] وهو موضوع الكلام، والكلام قد تقدم.
    ونجمل الكلام فيه هنا.
    1. حقيقة المحبة ومنزلتها من أعمال القلوب والأبدان

      فالموضوع الأول: إثبات صفة المحبة وبيان قيمة المحبة لله سبحانه وتعالى، وهي أنه سبحانه وتعالى يُحِب ويُحَب، وقد خالف في ذلك من خالف، وكتب في ذلك العلماء رحمهم الله ورضي عنهم، ومن خير من كتب في ذلك ومن أجوده وأجمعه: ما كتبه العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين حول منزلة المحبة، ولهذا أردت أن أستعرض شيئاً منها، لتكون بمنزلة المقدمة في شرح هذه الفقرة، ولنعرف أهمية المحبة بالنسبة للأعمال الإيمانية، وكذلك منزلتها بالنسبة للعقيدة، أي ما يتعلق بإثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، وبيان غلط وفحش وسوء قول من قال: إن الله تعالى لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وما يوقع فيه هذا الخطأ من الانحراف والضلالات.
      ونحن أحوج ما نكون إلى أن نعرف حقيقة المحبة، ولا سيما ونحن في عصر الجفاف القلبي، وعصر الغلظة وقسوة القلب، بسبب ما نرى ونسمع، وما يخالج قلوبنا من الفتن والشكوك، والشهوات وزخارف الحياة الدنيا.
      يبين ابن القيم رحمه الله حقيقة هذه المنزلة على طريقته بالأسلوب الأدبي الرفيع الجميل، الذي يستثير الوجدان والعاطفة نحو هذه المنزلة -وذلك في (ج3/ص8)- فيقول: "ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة المحبة، وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال؛ التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب" كما قال:
      فحيَّ على جنات عدن فإنها            منازلنا الأولى وفيها المخيم
      فالمنازل الأولى هي جنات النعيم، حيث أسكن الله فيها آدم وزوجه، ثم كانت المعصية، وكانت الحكمة والابتلاء وأن ينزل إلى هذا التراب.
      ثم قال: "تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدَّر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة: أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!
      تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
      من لي بمثل سيرك المدلل            تمشي رويداً وتجي في الأول"
      هذا حال أصحاب القلوب المحبة لله ولطاعة الله سبحانه وتعالى؛ حباً مقترناً بخشيته وإجلاله والحياء منه عز وجل، هؤلاء هم الذين يمشون الهوينى ويسبقون الساعين، كما قال الشاعر:
      من لي بمثل سيرك المدلل            تمشي رويداً وتجي في الأول
      وقد أشار رحمه الله في الفوائد إلى أن الصحابة الكرام ما سبقوا من بعدهم بكثرة الصلاة والقيام، وإنما سبقوهم بالإيمان. يقول رحمه الله: "يا عجباً لنوم الأكياس وفطرهم! كيف سبقوا به صيام الحمقى وقيامهم" يعني: أن كل من جاء بعدهم بالنسبة لهم، فهو كالأحمق بالنسبة إلى الكيِّس، لأن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم عرفوا كيف يمشون رويداً ويجيئون في الأول، وكيف أن درهمهم يسبق ألف درهم ممن بعدهم، وأن التسبيحة الواحدة منهم تزن عبادات كثيرة ممن بعدهم، كل ذلك لأن الله تعالى فتح لهم هذا الينبوع العظيم من محبته وإجلاله واستشعار العبودية الحقة له تبارك وتعالى، فبذلك فازوا، وإلا فقد جاء من التابعين من يقوم الليل ويقرأ من القرآن أكثر منهم، لكن أين الثرى من الثريا؟! وكل على خير، لكنّ أولئك السابقين لو أنفق من بعدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه.
    2. فرقان المحبة وآية صدقها

      يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى"، فالمحبة كل يدعيها، حتى البراهمة والبوذيون والنصارى، كلهم يقولون: نحن نحب الله، ولذلك يضحون بالأموال والأولاد والزوجات، ويهيمون في الغابات عراة، بدافع محبة الاتحاد بالإله (براهما)، لتتصل أرواحهم به كما يزعمون.
      قال رحمه الله: "فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي" يعني: كما أننا في جانب الأحكام والقضاء نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: {لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر}، فلابد من البينات، فما البينة في باب الإيمانيات والعبادة؟
      قال: "فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]" هذه هي البينة، وبغير هذه البينة فالدعوى باطلة، فليدع من شاء ما شاء، لا نقبل دعواه إلا بالاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ))[آل عمران:31] أي: إن زعمتم ذلك فاتبعوني، وكل من بعث فيهم صلى الله عليه وسلم يدَّعون ذلك، لا أحد يقول: أنا أكره الله، حتى كفار قريش يعظمون بيت الله، ويطعمون الحجاج، ويسقونهم، وحتى النصارى واليهود: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ))[المائدة:18] فالدعاوى كثيرة، لكن: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي))[آل عمران:31] ونتيجة ذلك: ((يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31]، فلا تكون النتيجة أنكم صادقون في المحبة فقط، بل تكون النتيجة أن الله تعالى يحبكم؛ فتكون المحبة من الطرفين من جهة أنكم أحببتموه فأحبكم بسبب اتباعكم للنبي صلى الله عليه وسلم.
      قال: "فتأخر الخلق كلهم" وانظر كيف يصور القضية: "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب" صلى الله عليه وسلم، وممن يدخل في هذا التأخر البوذيون والنصارى واليهود والمشركون، لأنه ليس عندهم بينة.
      "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة"، وهذا تصوير بديع، وأسلوب رفيع، فهؤلاء الشهود لابد من تزكيتهم، لتعرف عدالتهم.
      قال: "فطولبوا بعدالة البينة بتزكية: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]" يشير رحمه الله إلى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ))[المائدة:54] ما صفتهم?!
      ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))[المائدة:54] هذه أول صفة لهم.
      والثانية: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ))[المائدة:54].
      والثالثة: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]
      قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون" ففي المرة الأولى تأخر كل الخلق إلا الأتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي المرة التالية تأخَّر أكثر المحبين، وبقي المجاهدون، والجهاد هنا بمعناه العام الذي منه الجهاد بالسيف، ومنه الجهاد الكبير (جهاد الدعوة) قال تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا))[الفرقان:52] هؤلاء المجاهدون هم القائمون بأمر الله، الوارثون لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      قال: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم"، إنما هي لمن يحبون، إن كانوا صادقين على الحقيقة في الحب، ولذا قيل لهم: "فهلموا أيها المجاهدون إلى بيعة: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ))[التوبة:111].
      فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً. فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس. فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار. وقالوا: (والله لا نقيلك ولا نستقيلك).
      فلما تم البيع وسلموا المبيع، قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معاً (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ))[آل عمران:169-170]."
  2. إنكار الجهمية لصفة المحبة

     المرفق    
    وقالت الجهمية: لا يُحِبّ الله ولا يُحَبّ مطلقاً، فهم عكس الصوفية تماماً، وكم من آيات وأحاديث فيها المحبة! فكيف يكذبونها؟! لقد لجئوا إلى الباب الذي يدخل منه كل كاذب ومفتر على هذا الدين، وهو التأويل، قال ابن القيم: "فأولوا نصوص محبة العباد على محبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال، لينالوا بها الثواب، وإن أطلقوا عليهم لفظ (المحبة)، فلما ينالون به من الثواب والأجر، والثواب المنفصل عندهم هو المحبوب لذاته، والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل" فجعلوا حب الثواب لذاته، وأما حب الله فهو من باب الوسائل، أي: نحبه لأنه يثيبنا فقط، فجعلوا المحبة للثواب لا لله!! نسأل الله العافية.
    وقال: "وأولوا نصوص محبته لهم بإحسانه إليهم، وإعطائهم الثواب، وربما أولوها بثنائه عليهم ومدحه لهم ونحو ذلك" وإذا سئلوا: لماذا هذا التأويل ؟ قالوا: لأن المحبة رقة وانفعال في القلب لا يليق بالله، فنقول لهم: وهل الثناء يليق بالله؟! وما الفرق بينهما؟!
    قال: "وربما أولوها بإرادته لذلك" أي: بإرادة الإنعام كما يقول بعض المتأخرين، ولعلنا نأتي عليه إن شاء الله فيما بعد، وقالوا: لو أنا أثبتنا صفة المحبة لله، لكان فيه تشبيه وتجسيم، فنقول: فلماذا أثبتم الإرادة؟ أليس في هذا تشبيه وتجسيم؟!! ونقول: إذا كان في إثبات المحبة تجسيم ففي إثبات الإرادة تجسيم أيضاً!! فلماذا تؤولون المحبة بإرادة الإنعام؟!! والغضب بإرادة الانتقام، وهذا التأويل المتعسف يوجد في كتب التفسير غير السنية، وهي كثيرة.
    ثم يقول رحمه الله: "وجميع طرق الأدلة: عقلاً، ونقلاً، وفطرةً، وقياساً، واعتباراً، وذوقاً، ووجداً؛ تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده.
    وقد ذكرنا لذلك قريباً من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة"، ويقصد رحمه الله بكتابه الكبير روضة المحبين، وذكر شيئاً من ذلك في حادي الأرواح .
    قال: "وقد ذكرنا فيه فوائد المحبة -إلى قوله:- وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التي وجدوا لأجلها، فإن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، وهي الحق الذي به خلقت السماوات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سر التأليه وتوحيدها: هو شهادة أن لا إله إلا الله" فمن أنكره فقد أنكر أمراً عظيماً، وأنكر الدين كله، لأن الدين يتضمن ويقتضي محبته سبحانه وتعالى.
    ثم قال ابن القيم رحمه الله في صفحة (27) "فلو بطلت مسألة المحبة، لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها، فهو ميت لا روح فيه" أي: فأي عبادة يفعلها الإنسان لا محبة فيها، فلا خير فيها، ولو فرضنا أن شخصاً يصوم وهو يكره الصيام، ويصلي وهو يكره الصلاة، أو يشهد أن لا إله الله وهو يكره التوحيد؛ فهل يكون مؤمناً؟! كلا والله! فالصدق هو أساس جميع الأقوال، والمحبة أساس جميع الأعمال، فإذا صدق العبد في طاعته، وأحب الله سبحانه وتعالى فيها كمل إيمانه بإذن الله، وبقية الأعمال تندرج تحتها.
    ولهذا يقول: "فالمحبة حقيقة العبودية. وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا، والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟!" فمثلاً: الإنابة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء والصبر، كلها تندرج تحت المحبة، وبالرغم من علو درجة الصبر، فهو في أعلى الدرجات، لكن الصبر في الحقيقة لا يكون إلا من المحبين، وانظروا إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هل كانوا يصبرون على ما ابتلوا به لولا محبتهم لله سبحانه وتعالى؟! فهذه المحبة أنستهم كل ألم وأذى؛ فالمحبة إذن هي أساس الصبر.
    وكذلك "التوكل؛ فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه.
    وكذلك الزهد؛ في الحقيقة هو زهد المحبين؛ فإنهم يزهدون في محبة ما سوى محبوبهم لمحبته"، ولا نقول: إن الزهد أعلى من المحبة، أو أنه لا علاقة بينهما.
    "وكذلك الحياء؛ في الحقيقة إنما هو حياء المحبين"، والمرء لا يشعر بالحياء -حتى في الدنيا- إلا مع من يحب، لكن ليست محبة مجردة، بل محبة مقترنة بالتعظيم والإجلال، فإذا اقترنت المحبة بالتعظيم والإجلال نشأ الحياء.
    "فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم. وأما ما لا يكون عن محبة؛ فذلك خوف محض" فالفرق بين الخوف المحض والحياء: المحبة.
    "وكذلك مقام الفقر" أو الافتقار "فإنه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، فهو أعلى أنواع الفقر"، إلى أن قال: "وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه، وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه؛ فإنه لب المحبة وسرها" -نسأل الله أن يرزقنا محبته، ويجعلنا ممن يشتاقون إلى لقائه- فأصل الشوق المحبة، فمن محبته يشتاق المؤمنون إلى لقائه.
    يقول: "فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب؛ معطل لذلك كله، وحجابه أكثف الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعد عن الله" -وهذا حال الجهمية ومن اتبعهم- "وهو منكر لخلة إبراهيم عليه السلام"، فينكرون أن يكون الله قد اتخذ إبراهيم خليلاً، كما فعل ذلك شيخهم ومقدمهم الجعد بن درهم الذي سنشرح قصته -بالتفصيل- إن شاء الله.
    "فإن الخلة كمال المحبة، وهو يتأول الخليل بالمحتاج، فخليل الله عنده: هو المحتاج فكم -على قوله- لله من خليل من بر وفاجر، بل مؤمن وكافر! إذ كثير من الفجار من ينزل حوائجه كلها بالله صغيرها وكبيرها، ويرى نفسه أحوج شيء إلى ربه في كل حالة".
    فالكفار محتاجون إلى الله، فهم -حسب قول الجهمية - أخلاء الله!! أرأيتم كيف يجر التأويل الفاسد إلى أن يكون أي كافر كإبراهيم عليه السلام؟! وكل هذا من أجل ألا يثبتوا أن الله يُحَب أو يُحِب، نعوذ بالله من الضلال!
    ثم قال ابن القيم رحمه الله: "فلا بالخلة أقر المنكرون، ولا بالعبودية ولا بتوحيد الإلهية، ولا بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان، ولهذا ضحى خالد بن عبد الله القسري بمقدم هؤلاء وشيخهم جعد بن درهم، وقال في يوم عيد الله الأكبر عقيب خطبته: (أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم! فإني مضحٍّ بـالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً) ثم نزل فذبحه، فشكر المسلمون سعيه، ورحمه الله وتقبل منه".
    ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته، فإنه -كعادة الأمراء والولاة من غير الصحابة ومن سار على منهجهم في الولاية والحكم- ينسب إليه شيء من الجور والظلم، لكن من حسناته الكبار أنه ضحى بـالجعد ذلك الفاجر المجرم، ليكون عبرةً لمن يأتي بعده من المجرمين في هذه الأمة.
  3. مراتب المحبة

     المرفق    
    يقول ابن القيم رحمه الله: "فصل في مراتب المحبة:
    أولها: العلاقة" وهي التعلق، يقال: فلان علق فلاناً أو فلانة، يعني: أحبها.
    "وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، قال الشاعر:
    أعلاقة أم الوليد بُعيد ما            أفنانُ رأسك كالثغام المخلس
    الثانية: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له" فالإرادة هنا بمعنى الطلب والمحبة- كما قال تعالى: ((أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ))[الصافات:86] يعني تحبون وتعبدون، وهذه أعلى من مجرد العلاقة.
    الثالثة: الصبابة وما أكثر ما ينشد الشعراء في الصبابة! والصبابة هي: انصباب القلب إلى المحبوب مثل انصباب الماء إلى شيء معين.
    "والرابعة: الغرام، وهو الحب اللازم للقلب الذي لا يفارقه، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه، ومنه سمي عذاب النار غراماً، للزومه لأهله وعدم مفارقته لهم، قال الله تعالى: ((إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا))[الفرقان:65].
    والخامسة: الوداد، وهو صفو المحبة وخالصها ولبها، والودود من أسماء الرب تعالى" قال تعالى: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:14-15].
    "وفيه قولان: أحدهما أنه المودود" -بصيغة اسم المفعول- أي المحبوب "قال البخاري رحمه الله في صحيحه: "الودود: الحبيب"، والثاني: أنه الواد لعباده" -اسم الفاعل- فيكون معنى ودود: إما مودوداً، وإما واداً؛ أي: إما محبوباً وإما مُحِباً "وقرنه تعالى باسمه الغفور إعلاماً بأنه يغفر الذنب، ويحب التائب منه ويوده، فحظ التائب: نيل المغفرة منه".
    لا يغفر فقط، بل يود عبده ويفرح له وبه إذا تاب، كما جاء في الحديث: {لله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد من صاحب دابة أضلها بأرض فلاة عليها طعامه وشرابه، فوجدها بعد أن أيس منها وأيقن بالموت فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح...}.
    "السادسة: مرتبة الشغف، يقال: شغف بكذا؛ فهو مشغوف به، وقد شغفه المحبوب أي وصل حبه إلى شغاف قلبه، كما قال النسوة عن امرأة العزيز ((قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا))[يوسف:30] وفيه ثلاثة أقوال:
    أحدها: أنه الحب المستولي على القلب بحيث يحجبه عن غيره، قال الكلبي: حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه" قال تعالى: ((وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا))[يوسف:30]، أي: ملك عليها قلبها وعقلها؛ والنسوة لهن حظ من الإثم وإنما قلن ذلك استهزاءً وسخرية بها، ولهذا أرادت أن تغيظهن فأعدت لهن المتكأ وآتت كل واحدةٍ منهن سكيناً وقالت: ((اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31]، فرأين ما لم يكن في الحسبان! فإذاً الشغف هو الحب المستولي على القلب كما قال رحمه الله.
    "الثاني: الحب الواصل إلى داخل القلب، قال صاحب هذا القول: المعنى أحبته حتى دخل حبه شغاف قلبها، أي: داخله.
    الثالث: أنه الحب الواصل إلى غشاء القلب، والشغاف غشاء القلب، إذا وصل الحب إليه باشر القلب، قال السدي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخله الحب حتى أصاب القلب.
    وقرأ بعض السلف: (قد شعفها) بالعين المهملة، ومعناه: ذهب الحب بها كل مذهب، وبلغ بها أعلى مراتبه، ومنه: شعف الجبال لرءوسها.
    السابعة: العشق، وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه " ومن هنا تبدأ درجة الجنون "وعليه تأويل إبراهيم ومحمد بن عبد الوهاب: ((وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ))[البقرة:286] قال محمد: هو العشق ". أي: أن من جملة ما لا طاقة لنا به ومما يستعاذ منه؛ العشق، والعشق مرض وابتلاء، كما كان حال زوج بريرة التي أعتقتها عائشة، فقد جاء في الحديث أنه كان يتتبعها في سكك المدينة كالمجنون، وقد كان بعض السلف يستعيذ بالله من هذا المرض.
    " [[ورفع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شاب -وهو بـعرفة - قد صار كالخلال، فقال: ما به؟ قالوا: العشق، فجعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة دعائه بـعرفة الاستعاذة من العشق]]".
    "الثامنة: التتيم، وهو التعبد والتذلل يقال: تيمه الحب، أي: ذلَّلـه وعبَّده"، ويقال في المحب: تيَّمني أو تيَّمتني، وما أكثر ما قالت العرب: يُتيِّمني.. وتيَّمتني.. وأنا المتيم!.. فهو في أعلى درجات المحبة، "وتَيْم الله، أي: عبد الله".
    "التاسعة التعبد: وهو فوق التتيم" فمن أحب محبوباً حتى صار عبداً له، فقد بلغ غاية المحبة، ولهذا من أحب الله كان عبداً لله، يطيعه، ويسمع أوامره، ويجتنب نواهيه، لأنه عبده، وهكذا من كان عبداً لغير الله فإنه يطيعه ويمتثل أمره... ومن أراد أن يعرف حقيقة هذه المحبة أو العبودية؛ فلينظر إلى الذين يقدمون أرواحهم فداءً لأوليائهم المزعومين، فإذا تكلمت في إمام أو شيخ -من شيوخ الطرق والضلالات- فإنه يقاتلك حتى يموت في سبيله، وما أكثر من قتل من أهل السنة ! لأنهم أنكروا على عباد البشر.
    ويقول في تعريفها: "فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقه، فلم يبق له شيء من نفسه ألبتة، بل كله عبد لمحبوبه ظاهراً وباطناً، وهذا هو حقيقة العبودية، ومن كمَّل ذلك فقد كمَّل مرتبتها.
    لما كمل سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة وصفه الله تعالى بها في أشرف مقاماته:
    مقام الإسراء كقوله: (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))[الإسراء:1]" من أعظم وأشرف المقامات، وهي الدرجة التي لم ينلها أحد من البشر قبله صلى الله عليه وسلم.
    "ومقام الدعوة" فقد وصف الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية في مقام الدعوة "كقوله:: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ))[الجن:19]" لما قام عبد الله، أي: الذي يدعو إلى الله وهو محقق للعبودية لله بكامل العبودية.
    "ومقام التحدي كقوله: ((وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ))[البقرة:23] وبذلك استحق التقديم على الخلائق في الدنيا والآخرة".
    فالوصف بالعبودية لله وصف عظيم، جاء في مقام التحدي الذي يكون فيه محمد صلى الله عليه وسلم في جهة، والخلق جميعاً في جهة أخرى.
    "وكذلك يقول المسيح عليه الصلاة والسلام إذا طلبوا منه الشفاعة -بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام-: {اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر}.
    يقول ابن القيم رحمه الله: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس روحه: يقول: فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى، وكمال مغفرة الله له".
    فهو أكمل البشر عبودية لله؛ والله تعالى في ذلك اليوم المهيب العظيم الشديد، يغضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فأولى الناس بأن يسترضي الجبار أكملهم مغفرة منه؛ لأنه ليس عليه أدنى مؤاخذة فهو الذي يكلمه ويخاطبه ويشفع عنده، فلما كمل مقامه صلى الله عليه وسلم في العبودية، وكملت مغفرة الله تبارك وتعالى له، كان أجدر الناس وأحقهم بالشفاعة، ولهذا قال عيسى عليه السلام: {اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} فاكتملت فيه هاتان الصفتان والخلتان.
    "وحقيقة العبودية: الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب، تقول العرب: طريق معبد، أي: قد ذلَّلته الأقدام وسهَّلته.
    العاشرة: مرتبة الخلة، التي انفرد بها الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم."
    وسنتحدث عنها في درس لاحق إن شاء الله.