المادة كاملة    
أجمع عقلاء البشر وأصحاب الفطر السوية من أهل الأديان على علو الله تعالى على خلقه؛ فضلاً عن أهل الإسلام، وقد ثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة وكلام أهل العلم من السلف والخلف، وقد رجع كثير ممن أنكر علو الله عز وجل على خلقه إلى مذهب السلف في الإثبات، وعلى رأس هؤلاء: الجويني، وابنه أبو المعالي، والفخر الرازي رحمهم الله.
  1. إثبات العلو بدليل الفطرة والعقل

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى، وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بـإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني ..! أراد الشيخ أنَّ هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المعلمين؛ يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو.
    وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء؛ فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء؛ بل هو قضية وهمية خيالية.
    والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إنّ العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن ردَّ العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فإن كان قولنا باطلاً في العقل فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل، فإنّ دعوى الضرورة مشتركة.
    فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم.
    ].
    الشرح:
    يستعرض المصنف رحمه الله تعالى الأدلة التي يستدل بها أهل السنة على علو الله تعالى، وقد ذكر فيما سبق دليل الكتاب والسنة ودليل الإجماع، وهو هنا يستعرض دليل العقل مع دليل الفطرة.
    وفي هذا الموضع نجد لـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً نفيساً؛ يتعلق بمسألة العلو ومعنى علو الله تبارك وتعالى، وسعة هذا المفهوم وشموله، وآثاره التربوية في حياة الإنسان، ولهذا رأيت أن نعقب به على كلام المصنف هنا، ثم نبين بعد ذلك الدليل الفطري، وقصة الهمذاني مع الجويني .
    1. كلام شيخ الإسلام في دحض مستند نفاة العلو من المنظور العقلي

      يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))[الأعلى:1] في الجزء السادس عشر من مجموع الفتاوى (ص:110) في كلام مجمل عن أدلة علو الله: "والنفاة للعلو ونحوه من الصفات معترفون بأنه ليس مستندهم خبر الأنبياء -لا الكتاب ولا السنة ولا أقوال السلف - ولا مستندهم فطرة العقل وضرورته، ولكن يقولون: معنا النظر العقلي"، وهذا يذكرنا بآخر ما سبق من كلام المصنف أن الذين ينكرون علو الله سبحانه وتعالى متفقون معنا على أنه لا دليل لهم من القرآن ولا من السنة، ولا من كلام السلف أو إجماعهم، وإنما يقولون: لا يوجد لدينا أي دليل سوى دليل النظر العقلي، ونجد ذلك في أعظم كتبهم التي كتبت في إنكار الصفات، ومن أشهرها كتاب أساس التقديس للرازي، فإنه لا يذكر في هذا الموضع -كما لا يذكر في كثير من المواضع- أي دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنكار العلو، وهل يمكن لأحد أن يقول: إن في كتاب الله دليلاً على أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله و... إلخ؟! ولا يوجد ذلك في السنة، ولا في كلام السلف قطعاً، ولذلك كان المتكلمون يقولون: دليلنا النظر العقلي، وفي الحقيقة ليس معهم إلا كلام بعض فلاسفة اليونان وأفراخهم!
      قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون: إن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع مع فطرة الله التي فطر العباد عليها، وضرورة العقل، ومع نظر العقل، واستدلاله"، يعني: أن الفطرة -وهي بدهية لا تحتاج إلى استدلال- وأيضاً العقل الضروري ببداهته من غير نظر ولا استدلال كلاهما يثبت وجود الله تبارك وتعالى، وكذلك العقول السليمة تثبت بالنظر والاستدلال أيضاً علو الله تبارك وتعالى.
    2. معنى اسم الله (الأعلى) ودلالته على العلو

      ثم يعقد فصلاً في مسألة اسم الله (الأعلى) فيقول: "(الأعلى) على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم والأكبر والأجل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو سفيان : اعلُ هبل.. اعلُ هبل -وذلك في يوم أحد - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا تجيبونه؟ قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل} وهو مذكور بأداة التعريف (الأعلى) مثل: ((وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ))[العلق:3].
      بخلاف ما إذا قيل: (الله أكبر)؛ فإنه منكر؛ ولهذا معنى يخصه يتميز به، ولهذا معنى يخصه يتميز به، كما بين العلو والكبرياء والعظمة، فإن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى: {العظمة إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن نازعني واحداً منهما عذبته} فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار، ولهذا كان شعائر الصلاة والأذان والأعياد والأماكن العالية هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن -سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر- كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول: (الله أكبر) الله أعظم"، وبعض الحنفية يقولون: يجوز للإنسان أن يقول في الإحرام بالصلاة: الله أعظم بدلاً من قوله: الله أكبر، وهذا قول مرجوح، فإن هذا الاسم له معنى وذاك الاسم له معنى آخر.
      قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير؛ فلو قال: (الله أعظم) لم تنعقد به الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود وغيرهم، ولو أتى بغير ذلك من الأذكار -مثل سبحان الله والحمد لله- لم تنعقد به الصلاة، ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض؛ كما في السنن عن جابر بن عبد الله قال: {كنا مع رسول الله إذا علونا كبَّرنا، وإذا هبطنا سبَّحنا؛ فوضعت الصلاة على ذلك}، {ولما نزل قوله: ((فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ))[الواقعة:74] قال: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزل: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))[الأعلى:1] قال: اجعولها في سجودكم}.
      والإنسان في حال ركوعه وسجوده يسبح، ففي حال الانخفاض بالسجود يسبح، ويقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حال الركوع يقول: سبحان ربي العظيم".
      ثم قال رحمه الله: "والمقصود هنا: أن التسبيح قد خصّ به حال الانخفاض، كما خص حال الارتفاع بالتكبير، فذكر العبد في حال انخفاضه وذله ما يتصف به الرب مقابل ذلك، فيقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم".
    3. معاني العلو

      ثم ينتقل شيخ الإسلام إلى بيان معاني العلو فيقول: "والأعلى يجمع معاني العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معاني العلو.
      وقد اتفق الناس على أنه علي على كل شيء؛ بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه" فكل الفرق متفقة على ذلك، والخلاف إنما وقع في علو الذات.
      يقول شيخ الإسلام : "كما قال: ((إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))[المؤمنون:91] وعلى أنه عالٍ عن كل عيب ونقص، فهو عالٍ عن ذلك منزه عنه، كما قال تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا * أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا* سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا))[الإسراء:39-43]؛ فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح".
      فنجد أن من أسماء الله تبارك وتعالى: المتعالي والكبير والعظيم والعلي، وكل منها له معنىً يخصه، مع اشتراك الكل في أصل المعنى.
      ثم يقول: "وقالت الجن: ((وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا))[الجن:3] وفي دعاء الاستفتاح: {سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك}" فالتعالي جاء في القرآن والسنة مقروناً بالتسبيح.
      ثم يقول رحمه الله: "فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون، فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك -أي: منزه ومقدس لأن سبح معناها تنزه وتقدس- وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمي والند والمثل، فلا يكون شيء مثله".
      ثم ينتقل إلى معنىً آخر ذكره المتكلمون وغيرهم قال: "وقد ذكروا من معاني العلو: الفضيلة، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة، ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء -فقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] يقتضي أنه أعلى من كل شيء- فلا شيء مثله، وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء"، فالله سبحانه وتعالى خير من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، لكن هذه الخيرية وهذه المقارنة لا تذكر إلا في باب المناظرة والجدال والرد مع الذين يسوون بالله تبارك وتعالى غيره.
      قال رحمه الله: "وفي القرآن ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59] ويقول: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))[النحل:17] ويقول: ((أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي))[يونس:35] وقالت السحرة: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))[طه:73] ... إلخ".
      ومن دلالة ذلك ومن معانيه، ومما يستلزمه ذلك ويقتضيه: أنه سبحانه وتعالى أعلى من كل شيء وفوق كل شيء؛ لأنه وحده المألوه المستحق للعبادة، فلهذا يقول رحمه الله: "فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه، وأنه لا مثل له، ويبين ما اختص به من صفات الكمال، وانتفاءها عما يعبد من دونه، ويبين أنه يتعالى عما يشركون، وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له، وقال: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا))[الإسراء:42]".
      وهذه الآية من الآيات التي تبين معنى التوحيد وحقيقته، وقد فسرت هذه الآية على معنيين:
      المعنى الأول: لو فرض أن هناك آلهة غير الله سبحانه وتعالى بالمعنى الذي يعتقده المشركون لابتغوا سبيلاً إلى التقرب إليه؛ أي: لو أن هنالك شفعاء تشفع عند الله من آلهة ومعبودات تقرب إلى الله تعالى زلفى -كما تزعمون وكما تقولون أيها المشركون- لكانت هذه الآلهة وهذه المعبودات تبتغي إلى ذي العرش سبيلاً، فلو كانت هذه الآلهة -سواء كانوا أنبياء أو ملائكة أو عباداً صالحين- لو فرض أن ذلك حق، وأن هؤلاء موجودون، لكانوا هم يبتغون إلى ذي العرش سبيلاً.
      وما معنى ابتغاء السبيل هنا؟ وكيف يبتغون إليه سبيلاً؟
      فسر ذلك ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقالوا: المدعوون والمعبودون أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإذا كنتم أيها النصارى تعبدون عيسى بن مريم، وتعبدون أيها اليهود عزيراً، وتعبدون أيها الروافض علياً والحسن والحسين، وتعبدون أيها الصوفية الأولياء والصالحين والسادة وغيرهم؛ فإن كل هؤلاء الذين تدعون (يبتغون إلى ربهم الوسيلة) يتضرعون إلى الله ويتذللون له، ويسارعون في الخيرات: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90] هكذا وصف الله سبحانه وتعالى الأنبياء، فهذه حال هؤلاء المعبودين، فكيف تعبدونهم أنتم من دون الله؟!
      إذاً: لو فرض وجود شفعاء مع الله، ووسطاء يقربون إلى الله؛ لكان هؤلاء يبتغون إلى الله الوسيلة بعبادته.
      إذاً لا حجة على الإطلاق لمن يعبد غير الله أو يدعو غير الله.
      وإن كان هذا المعبود أو المدعو مقرباً من الله، فلأنه يعبده ويتقرب إليه؛ كما أنك أنت تعبد الله وتتقرب إليه؛ فكونه أقرب منك لا يعني ألا تتقرب إلى الله وتتقرب إليه، فالتقرب لا يكون إلا إلى الله وحده.
      وذو العرش هو الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى، وعلى هذا يكون ما عداه مجرد أسماء سموها هم لا حقيقة لها، فلا تملك خلقاً، ولا بعثاً، ولا حياةً، ولا نشوراً، ولا رزقاً؛ لا لأنفسها ولا لمن يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى.. هذا هو المعنى الأول.
      المعنى الآخر: ورد عن بعض السلف أن المقصود بذلك: السبيل إلى مغالبته، ويقولون: من أدلة التوحيد أنه لو كان مع الله آلهة أخرى لابتغت هذه الآلهة السبيل إلى مغالبة ذي العرش، حتى يكون المتغلب منها هو ذا العرش، وهو الإله الحقيقي.. وهذا هو المعنى الآخر.
      والمعنيان كلاهما يتفقان على أصل التوحيد وعلى قضية التوحيد، لكن الراجح هو المعنى الأول، بدلالة الآية الأخرى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ))[الإسراء:57] ومما يرجح القول الأول مجيء الابتغاء في الآية الأولى وفي الآية الأخرى بمعنى واحد، وكلمة (سبيل) وكلمة (وسيلة) أيضاً بمعنى واحد.
      والمعنى الثاني حق؛ لكنه مرجوح في تفسير هذه الآية.
    4. مقتضيات العلو

      قال رحمه الله: "فقد تضمن العلو الذي ينعت به نفسه في كتابه أنه متعالٍ عما لا يليق به من الشركاء والأولاد، فليس كمثله شيء، وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون ما سواه، وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعالٍ عن أن يماثله شيء، وتضمن أنه عالٍ على كل ما سواه، قاهر له، قادر عليه، نافذةٌ مشيئته فيه، وأنه عالٍ على الجميع فوق عرشه -أي: له علو الذات سبحانه وتعالى- فهذه ثلاثة أمور في اسمه العلي، وإثبات علوه -علوه على ما سواه وقدرته عليه وقهره- يقتضي ربوبيته له وخلقه له، وذلك يستلزم ثبوت الكمال، وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال".
      ومما يقتضيه علوه سبحانه: إثبات الربوبية له، وألا يعبد إلا هو، وألا يتخذ رب سواه، وأنه وحده الخالق دون ما سواه، وكونه مُتعالياً عن أن يكون له مثيل أو سمي أو شبيه أو نظير يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال، وأنه وحده المتفرد بصفات الكمال، إذ لو شاركه معبود أو إله أو شيء غيره في صفات الكمال هذه لكانا إلهين، ولم يكونا إلهاً واحداً!! سبحانه وتعالى عما يشركون.
      ثم يقول: "وهذا وهذا يقتضي جميع ما يوصف به في الإثبات والنفي، ففي الإثبات يوصف بصفات الكمال، وفي النفي ينزه عن النقص المناقض للكمال، وينزه عن أن يكون له مثل في صفات الكمال، كما قد دلت على هذا وهذا سورة الإخلاص ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ))[الإخلاص:1-2]".
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فقد تبين أن اسمه الأعلى يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه" ((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ))[المؤمنون:116].
  2. دليل الفطرة على علو الله

     المرفق    
    الفطرة هي التي فطر الله تبارك وتعالى الناس عليها، وهل هي من الأدلة؟ وهذه مسألة مهمة قد تقدم شرحها في مسألة علم الكلام.
    1. مسألة هل كل متبع مقلد؟

      كان من أسباب انتشار علم الكلام: الشُّبَه، والآن هناك شبهة كبرى ترددها الكتابات الفكرية والفلسفية في الصحافة وفي الكتب المؤلفة، وهي أن الإنسان يجب عليه أن يفكر، وألا يقلد غيره، وأن يعتقد ما يمليه عليه فكره أو رأيه.
      وهذه دعوى حسنة في ظاهرها، لكنها تحمل أمراً منكراً، فلا شك أن الإنسان مطلوب منه أن يفكر، ومدعو إلى أن ينبذ التقليد، ولكن أي تقليد؟
      وهنا لا بد من الرجوع إلى مسألة: هل كل متبع مقلد؟
      أضرب لكم مثالاً واقعياً يوضح ذلك، هو ما نقلناه سابقاً من قول أبي حامد الغزالي رحمه الله لما بحث في كتابه المنقذ من الضلال يقول: "أول الأمر آثرت البحث عن الحق، ورفضت التقليد" ويقول فيما معنى كلامه: وجدت أن المجوسي يولد مجوسياً، لأن بيئته مجوسية، وكذلك النصراني، وكذلك المسلم، فقلت: إذاً: هذا كله من باب التقليد.
      وهذه شبهة أهل الضلال عموماً: أن النصراني يولد في بيئة نصرانية ؛ فيصبح نصرانياً، وإن ولد في بيئة مسلمة يصبح مسلماً، إذاً الكل مقلدون؛ لذا لابد للإنسان أن يفكر ويختار الدين الصحيح، وهي شبهة خطيرة تجعل الإسلام كأي دين من الأديان المحرفة الباطلة التي لا سند لها من وحيٍ ولا فطرة، وتجعله هو مجرد رأي بشري اتفقت عليه طائفة من الناس؛ فهو عندهم قابل للأخذ والرد؛ ولهذا حصر الغزالي الحق بعد ذلك في أصناف أربعة، لم يذكر منهم أهل السنة أو السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، بل حصر الحق في المتكلمين والصوفية والفلاسفة والباطنية!
      أين الأنبياء والرسل؟! أين الصحابة والتابعون؟! لم يدخلهم في هذه الأصناف، ومن هنا يأتي الخلل، عندما يخرج الحق المتميز، ويقال: كل أصحاب دين من الأديان يولدون كما يولد عليه أهل الدين الآخر.
      ومما ينبغي أن يعلم أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام مسلماً حنيفاً نبياً مكلماً، وبقيت الأمة على دينه، على التوحيد عشرة قرون حتى ظهر الشرك في قوم نوح؛ فعبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فانحرفوا؛ فالإنسانية من حيث الأصل العام على التوحيد، والقرون الأولى كانت على التوحيد.. هذا بالنسبة لمجموع الإنسانية، وبالنسبة للفرد بذاته: {كل مولود يولد على الفطرة}، أي: على الإسلام، ولذا قال: {فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه} ولم يقل: يمسلمانه؛ لأنه مسلم أصلاً.
      ولهذا نقول: إن ما يقوله المتكلمون من أن الطفل المسلم إذا حان بلوغه يُلزم بأن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ليدخل في الإسلام لغو باطل؛ لأنه ولد مسلماً، وبقي على إسلامه، ولم يتغير حتى نقول له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وادخل في الإسلام، وجدد إيمانك.. هذه كلها من ترهات أولئك الذين يهربون من موضوع التقليد، ولهذا نجدهم في كتب الكلام وكتب العقائد الباطلة يقولون: يجب على الإنسان أن ينظر ولو لمرة واحدة حتى ينجو من ربقة التقليد، فيقول: لابد أن هذا الكون محدث، ولابد لكل محْدَث من محْدِث، فإذاً الله تعالى هو الذي أحدثه؛ فيؤمن عن طريق الاستدلال ولو مرة واحدة في العمر حتى يخرج من ربقة التقليد.
      سبحان الله! أي تقليد هذا؟! أمن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مقلداً بهذا المعنى؟ كلا. فإن هذا متبع للحق، وهو موافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30] فالله سبحانه وتعالى هو من خلقها، فأينما ولد الطفل: في الصين، أو بريطانيا، أو أمريكا، أو بلاد الإسلام، فإنه يولد على هذه الملة، وإذا قرأتم كتاب لماذا أسلمنا وأشباهه من الكتب تجدون هذه المعاني. والحمد لله.
    2. تعبير الفطرة عن نفسها

      كيف تعبر الفطرة عن نفسها؟
      هنا يأتي الخلاف بيننا وبين المتكلمين وأشباههم؛ لأنهم يرون أنها لا تنضبط، ولا شك أن الفطرة ليست ذلك الدليل الذي ينضبط كأي دليل عقلي أو نصي، لكن لها مجالات تظهر فيها، وتعبر فيها عن نفسها أجلى تعبير، دون حاجة إلى أي دليل أو استدلال آخر، ومن ذلك مسألة علو الله سبحانه وتعالى، فإن الفطر جميعاً تقر بعلو الله دون حاجة إلى استدلال، أو نظر، وفي قصة الهمذاني ما يوضح هذا وضوحاً جلياً.
  3. قصة الهمذاني مع إمام الحرمين

     المرفق    
    إذا رجعنا إلى كتاب مختصر العلو الذي اختصره وحققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله نجد ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي تبدأ من صفحة (274)، ونجد هذه القصة، ونجد الحكم على سندها في صفحة (276)، يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بـحران، أنبأنا الحافظ أبو العلاء، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ فقال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام" والقصة مشهورة، ذكرها الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضعٍ من الفتاوى، وهناك نجد ما يبين أنه كان على المنبر يتكلم، ويعلم الناس الصفات وما يعتقدون في ذات الله سبحانه وتعالى، فسئل عن معنى قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] فأخذ يفسر ذلك فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، وهذا كما يقول المتكلمون: (كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما عليه كان) وبعض المتكلمين يجعلون هذه الجملة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب موضوع لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الثابت عنه، فقوله: {كان الله ولا شيء قبله} وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى، ولفظة: (وهو الآن على ما عليه كان) أيضاً ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من كلام المتكلمين.
    إذاً ننظر إلى هذا الكلام الذي تخبط أبو المعالي فيه؛ الله سبحانه وتعالى كان ولا عرش، فلما خلق العرش استوى عليه.
    يا ترى! ألم يكلم الله تعالى موسى؟! هل كلمه قبل أن يخلق؟! وقبل أن أخلق أنا وأنت أكان الله يرزقنا؟ وقبل أن يتزوج أبو أحدنا أمه أكان الله يرزقنا حينها؟
    هذا غير ممكن، بل لما خلقنا رزقنا، ولا إشكال في هذا، وأهل الكلام يوافقوننا في كثير من هذا في مواضع أخرى، وعلى هذا فلا إشكال أبداً في أنه بعد أن خلق العرش استوى عليه، وهنا يقول أهل الكلام: هذا يدل على التغير وعلى الطروء، ونقول: إن هذه من الأمور الإضافية، فنثبت لله تعالى من الصفات ما هو إضافي، أي: بالنسبة إلى المخلوق، فهي ليست تغيراً؛ لأنهم يقولون: إن القول بأنه (لم يكن مستوياً ثم استوى) فيه إثبات التغير في حق الله، وهذا لا يجوز.
    وهذا كلام باطل يدل على أن العقول نفسها متهافتة لا تعرف الحق، ولذا نتج عنها هذا التخبط، كقولهم: كان الله ولا عرش.
    قال أبو جعفر الحافظ الهمذاني رحمه الله: "فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟" والضرورات: هي العلم الضروري الذي يقع في النفس ضرورة، من غير نظر ولا مقدمات ولا استدلال، ضرورة لا يستطيع الإنسان أن يدفعها، فكل إنسان موقن ومؤمن بأشياء من الضرورة أن يؤمن بها، ولا يستطيع أبداً أن يدفعها.
    "فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارفٌ قط: (يا رباه) إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، يقصد الفوق؛ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت".
    "فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟" كيف ندفع هذا الشيء؟ فهل عندك دليل كلامي يدفع هذا القول، أم تريد أن تعتقد شيئاً جاء به دليل كلامي وقلوبنا تقر بشيء آخر ينقضه؟! "وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير، وصاح: يا للحيرة! وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: (يا حبيبي الحيرة الحيرة! والدهشة الدهشة!)
    فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمذاني!"
    1. صحة إسناد القصة

      قال الألباني رحمه الله في التعليق على هذه القصة: "قلت: وإسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ، وأبو جعفر اسمه محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمذاني مات سنة (531)، وقد وصفه ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( ج4/44) بالشيخ العارف.
    2. رجوع إمام الحرمين عن التأويل

      ثم يقول الشيخ الألباني : "ويبدو لي أن هذه الحيرة كانت قبل استقرار عقيدة أبي المعالي الجويني على المذهب السلفي" فهو في آخر عمره رجع إلى ما يشبه مذهب السلف في الجملة، وإلا فهو أقرب إلى التفويض، وله رسالة مسماة بـالرسالة النظامية .
      قال الألباني : "بل لعلها كانت المنطلق إلى هذا الاستقرار الذي أبان عنه فيما سبق من كلامه في الرسالة النظامية " وقد كان الحافظ الذهبي رحمه الله ذكر أولها في أول كلامه، وهو كلام جيد نقرأ لكم بعضه؛ فإن إمام الحرمين -بعد أن نزل عن المنبر واعترف بالحيرة- أخذ يفكر، ثم في آخر أيامه ألف الرسالة النظامية، ورجع فيها عن تأويلات الأشعرية كلها، وفي أول هذه الرسالة النظامية يقول: "اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر -أي ظواهر آيات الصفات- فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقيدة، اتباع سلف الأمة".
      وهكذا كان في آخر أمره رحمه الله وغفر له، فكان مآل أمره الرجوع إلى الحق، فقال رحمه الله: "والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقيدةً، اتباع سلف الأمة -فيا ليت كل أشعري يقول مثل هذا الكلام- والدليل القاطع السمعي في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة؛ فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً -كما يقول أهل التأويل- لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة -من صلاة وطهارة وزكاة وحج وغير ذلك- وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل،كان ذلك هو الوجه المتبع" معنى كلامه أنه ما دام عصر الصحابة والتابعين قد انصرم وانقضى دون تأويل، فهذا هو الذي يجب أن يتبع، ثم قال: "فلتجر آية الاستواء وآية المجيء وقوله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75] على ذلك" يعني: على ما قرره السلف الصالح من عدم التأويل، وهذا من الرجوع إلى الحق.
    3. شبه حال إمام الحرمين بحال أبيه في الرجوع عن التأويل

      يقول الشيخ الألباني : "وما أشبه حاله بحال أبيه العلامة أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، فقد كان برهةً من الدهر متحيراً في هذه المسألة (الاستواء) وسواها من مسائل الصفات بسبب تأثره بعلم الكلام الذي تلقاه عن شيوخه، ثم استقر أمره -والحمد لله- على العقيدة السلفية فيها؛ كما شرح ذلك هو نفسه أحسن الشرح في رسالته القيمة في إثبات الاستواء والفوقية، وهي مطبوعة في المجلد الأول من مجموعة الرسائل المنيرية "، وهي رسالة صغيرة لطيفة قيمة بعنوان: النصيحة في صفات الله عز وجل .
      يقول الشيخ الألباني رحمه الله: "وإني لأستغرب كيف فات ذكر هذا الإمام على الحافظ الذهبي رحمه الله -فهو لم يذكر الجويني الأب أبا محمد - في جملة هؤلاء الأئمة الأعلام الذين قالوا بقول السلف في هذه المسألة الهامة، ولكن جلَّ من لا ينسى".
      يقول الألباني رحمه الله: "قلت: ومن شعر أبي المعالي رحمه الله:
      نهاية إقدام العقول عقال            وغاية آراء الرجال ضلال
      وأرواحنا في وحشة من جسومنا            وغاية دنيانا أذىً ووبال
      ومن قوله: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً" لقد خاض في علم الكلام وقرأ كتب الفلاسفة، وبعد هذا كله لم يستفد من ذلك سوى قيل وقال، وبهذا يتبين لنا خطأ من يقول: دعوا الناس يقرءوا أي شيء، فهو مثل من يقول: دعوا الناس يأكلوا أي شيء، فهل يقول هذا عاقل فضلاً عن أن يرضى به؟!
      يقول: "وركبت البحر الخضم -أي خاض في كل شيء- وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه" قال الألباني : "قلت: كأنه يعني علم الكلام" ثم قال إمام الحرمين : "كل ذلك في طلب الحق وأمن التقليد" حسب زعمه، فقرأ كلام أرسطو فلم يناسبه، ثم قرأ كلام أفلاطون فلم ير فيه فائدة، وقرأ في كتب الباطنية وتشعب، ثم انتقل إلى ابن سينا وإلى فلان وعلان، ثم رجع إلى كلام المعتزلة، فوجد المعتزلة فرقتين: فرقة بغدادية، وفرقة بصرية، فقرأ في كلامهم، فوجد كل واحد منهم يكفر الآخر؛ ففي أهل البصرة: العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف !! وقد قرأ هذا كله لكي يأمن التقليد، وحتى لا يموت وهو مقلد، مع أن هذا -كما سبق- ليس تقليداً، وإنما هو اتباع الفطرة، وفي الأخير يتمنى أن يموت على عقيدة عجائز نيسابور واللاتي ما قرأن ولا سمعن قط بـأرسطو ولا أفلاطون ولا ابن سينا ولا علم الكلام ولا المعتزلة ولا الفلاسفة، ولا شيء من ذلك الغثاء، فعقيدة تلك العجائز أسلم وأفضل من عقيدة من قرأ خمسين ألفاً في خمسين ألفاً.
      وكان من آخر ما قاله أبو المعالي : "عليكم بدين العجائز؛ فإن لم يدركني الحق بلطفه، وأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري على الحق وكلمة الإخلاص، وإلا فالويل لـابن الجويني "، لقد استيقظ الإمام وأخذ يخاف من سوء الخاتمة، وأن يموت وهو في هذه الحيرة والتخبط والضلال الفكري.. نسأل الله العفو والعافية.
      وفي زماننا هذا نجد الذين ينتحرون نتيجة للتخبط الفكري؛ ولأنهم لم يجدوا ما يوقنون به ويعتقدونه، فتجد أحدهم يقتل نفسه لأنه ما وجد الحق ولا عرفه، ولا عرف الجواب لسؤاله: لماذا أعيش في هذه الحياة؟ فلذلك فضل أن يموت وينتحر.
      فهذا الإمام استيقظ ضميره، فظل يدعو الله تعالى ويرجوه أن يميته على دين العجائز فقط، فرحلة العمر هذه كلها كانت خسارة، ولا يريد منها شيئاً إلا أن تمحى محواً كلياً، وأن يموت على الفطرة التي ولد عليها، وكأنه عجوز عاشت ثم ماتت على ما ولدت عليه، ولهذا يقال: الأمي هو الذي لا يزال على ما عليه ولدته أمه، ولم يتفقه أو يتعلم أي شيء، وهذه نتيجة الثقافة إذا كانت في غير الحق.
    4. العبرة من حياة إمام الحرمين الجويني

      بالله عليكم لو أن هذا الإمام رحمه الله قرأ القرآن، ثم أتبع ذلك بكلام العلماء في تفسيره، ثم بالأحاديث وأقوال السلف، فلن تكون عنده هذه الحيرة أبداً، ولن يتمنى أن يموت على دين العجائز، بل كان سيموت على دين الراسخين في العلم؛ وأين دين العجائز من دين الراسخين في العلم؟!
      لو أن أحداً قرأ خمسين ألفاً في خمسين ألفاً من الآيات والأحاديث والتفاسير، وكلام السلف الصالح، لتنور قلبه وكان من الراسخين في العلم، وقد كان في عصره كثير من الأئمة الراسخين في العلم، الذين اشتغلوا بالحديث والتفسير، واقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وساروا على عقيدة السلف، فكانوا قمة في الإيمان والعبادة، ولم يموتوا على دين العجائز ولا تمنوه.
      والحمد لله الذي أعطانا ما هو أفضل من ذلك، وعرفنا من تفاصيل الإيمان ما لا تعرف العجوز؛ فإنها تعرف شيئاً مجملاً، ومن قطع الرحلة في بحر مظلم بزورق متكسر، فإنه يريد فقط أن يصل إلى الشاطئ، هذا غاية ما يتمناه، أما من كان في أمن ونجاة وسلام وطمأنينة وراحة، فإنه يسمو إلى ما هو أعلى وأفضل من مجرد النجاة.
      وهكذا فإن دليل الفطرة الذي نبهه إليه الإمام أبو جعفر الهمذاني أيقظه عند مماته، فأخذ يقول: أتمنى أن أموت على دين العجائز، ودين العجائز فيه العلم الضروري بعلو الله سبحانه وتعالى، فإن أوضح وأجلى صفات الله الثابتة بالفطرة: علو الله سبحانه وتعالى.
  4. الدليل العقلي على العلو

     المرفق    
    قد سبق معنا ذكر الدليل العقلي على علو الله على خلقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى إما أن يكون خلق الخلق في ذاته، أو خارج ذاته، فإن كان خلقهم خارج ذاته، فإما أن يكون خلقهم فوقه أو هو فوقهم وهم تحته.
    قال المصنف: "وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته، قالوا: لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية"، فأنتم تقولون: هذا الكلام دليل عقلي، فلو كان ثم دليل عقلي فعلاً لما اختلفنا فيه معكم، ونحن من العقلاء نخالفكم فيه، وهناك عقلاء غيرنا وغيركم يخالفونكم فيه.
    والجواب باختصار: "أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد قولنا فهو لقولكم أعظم رداً"، وتوضيح ذلك: أننا إذا رجعنا إلى العقل وقبل العقل قولكم -فرضاً- بأن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، أو أنه في كل مكان، فقبوله لقولنا أنه فوق العالمين أقوى، وإن رد قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فيمكن أن نجعل العقل -في أقل الأحوال- محايداً، بل هو إلينا أقرب، فلو كان يقبل كلامكم لقبل كلامنا، وإن كان يرد كلامنا فهو لكلامكم أشد رداً.
    يقول المصنف رحمه الله: "وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل؛ فإن دعوى الضرورة مشتركة" أي: أن الادعاء بأن هذا علم ضروري دعوى مشتركة بيننا وبينكم، "فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك" تقولون أنكم تعلمون بالضرورة بطلان قولنا، "فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم" وقلنا: إن كلامكم هو المردود بالفطرة وبالضرورة، "وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- موافقون لنا على هذا؛ فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً؛ ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول؛ بطل قولكم بالكلية" يعني: إذا كان لا داعي لاستشهاد العقول واستشهاد الفطر التي من غيرنا وغيركم بالمرة، فإن قولكم يبطل بالكلية، فإذا قلنا: إن العقل والفطرة محايدان، لا يصح الاحتجاج بهما لا لنا ولا لكم، فنحن عندنا غيرهما؛ عندنا الكتاب والسنة وإجماع السلف، وأنتم لا دليل لكم إلا ما أبطلتموه، مع أن كل خلق الله إذا دعوا الله يرفعون أيديهم إلى جهة العلو، وإذا سئلوا؟ قالوا: إن الله في السماء.
    وقد سأل أخ لنا رجلاً من عباد البقر: أين الله؟ قال: إن الله في السماء!
    فالمصنف يقول: "وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- موافقون لنا على هذا؛ فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً؛ ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول؛ بطل قولكم بالكلية؛ فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم" يعني نحن نؤمن بعلو الله سبحانه وتعالى، وكل الخلق يقولون هذا.
    وقد أقررتم أن تلك الأقوال العقلية إنما تبنى على المقدمات الفطرية المشتركة بيننا وبينكم، فإذا ألغيتم أنتم هذه الفطرة؛ فإن الأدلة العقلية تكون باطلة؛ لأن الأدلة العقلية إنما تبنى في الأصل على مقدمات فطرية بدهية، فإذا ألغيت الفطر ألغيت البدائه تبعاً لها الأحكام العقلية، وإذا ألغينا ذلك فإنه يبطل كلامكم كله، لأنه مركب على العقل، وتبطل عقلياتنا أيضاً، فبطل العقل عندنا وعندكم، وكان الدليل السمعي من الوحي الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، قال: "فنحن مختصون بالسمع دونكم" أي: بالأدلة السمعية (القرآن والسنة)، أما أنتم فلا دليل على الإطلاق يدل على قولكم من كتاب أو سنة.
    ثم يقول المصنف:
    [فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا، قيل: ليس الأمر كذلك؛ فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم: طائفة من النُّظَّار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام: جهم بن صفوان وأتباعه.
    واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض، وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه:
    أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة الدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
    الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين: إحداهما الكعبة، والأخرى السماء، فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
    الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه، فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الدَّاعي من نفسه أمرٌ فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة.
    وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.
    وأما النقض بوضع الجبهة، فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا بأن يميل إليه إذ هو تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد، لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق، إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: (( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[الأنعام:110]. وقال تعالى: (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ))[الصف:5]. فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه، يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية.
    وقوله: "وقد أعجز عن الإحاطة خلقه" أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة بل هو سبحانه محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء]
    .
    الشرح:
    وأكثر العقلاء في الدنيا على إثبات علو الله سبحانه وتعالى ليسوا معكم، فإن الصحابة الذين هم أعقل الناس معنا وكبار المتكلمين؛ هم معنا، مثل: أبي الحسن الأشعري كما في الإبانة ؛ فقد صرح بإثبات الاستواء والعلو، والجويني أبو محمد وقد رأينا كلامه، والابن أبو المعالي أيضاً رأينا كلامه الآن، وكذلك النظار الكبار، مثل الرازي، وهو أعظم من ألف في إبطال عقيدة السلف، وتقرير عقيدة الخلف في كتاب أساس التقديس، ثم رجع في آخر الأمر -وقد تبين لكم ذلك والحمد لله- إذاً لا أحد معكم؛ فمن أنكر علو الله فهو متبع لفرعون وهامان، حين جحدوا الله وفطرهم تُقِرُّ به، والمؤمن بعلو الله سبحانه وتعالى متبع لموسى وهارون ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، والقضية واضحة ليس فيها مجال للمماحكة.
    بل إن فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً: (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ))[غافر:36-37] فكأنه يقول: لو كان إله موسى حقاً لكان في الأعلى.
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى -الأجزاء الثالث والرابع والخامس- بعض النصوص الواردة في الكتب السابقة، مما يدل على علو الله سبحانه وتعالى، وما يزال اليهود والنصارى يقرءون ذلك إلى اليوم.
    فتبين من هذا: أن قول المتكلمين: (إن أكثر العقلاء هم معنا لا معكم) قول باطل، وليس معهم إلا شواذ الفلاسفة، أما أهل الملل والأديان والفطر السليمة، فهم معنا وليسوا معهم، فبطل بذلك اعتراضهم على الدليل العقلي.