المادة كاملة    
صفة العلو لله تعالى ثابتة نقلاً وفطرة وعقلاً، وإثباتها هو مذهب أهل السنة، وتأويلها تمحل للأدلة، وتناقض يأباه أهل المعرفة والنظر، وقد تضافرت أدلة الشرع والعقل والفطرة على إثباتها والرد على من نفاها أو تأولها.
  1. إبطال الشبه الواردة في تأويل العلو

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ومن تأول فوق، بأنه خيرٌ من عباده وأفضل منهم، وأنه خيرٌ من العرش، وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم؛ فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداءً: الله خيرٌ من عباده وخيرٌ من عرشه؛ من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض. وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه، فكيف يليق بكلام الله، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر:
    ألم تر أن السيف ينقص قدره            إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
    ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك، لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39] وقوله تعالى: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59].. ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))[طه:73].
    وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض، فقد تنقص.
    وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة تأنيث المكان، والمنزلة تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة يستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ (المكان والمنزل) في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: {إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه} فقوله: (منزلة الله في قلبه) هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عُرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى وتابع له؛ فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً.
    فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء، قيل: وكذلك هو، وهذا العلوّ مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى]
    ا. هـ.
    الشـرح:
    في هذه الفقرة يبطل المصنف الشبهات الواردة في تأويل علو الله تبارك وتعالى، وفي صرفه عن حقيقته ومعناه، ومن ذلك: قولهم بأن علو الله تعالى يعني أنه أفضل من خلقه، وأنه خيرٌ منهم، فقولنا: الله تعالى فوق خلقه؛ يعني أنه: فوقهم في الفضل والخير، وهذا هو المقصود بالعلو عند المؤولة، أنه علو المنزلة والمكانة، لا علو الذات. والمعنى الآخر: أن المراد علوه في القلوب، وهو تبعٌ لعلو المنزلة.
    ويرد عليهم الشارح رحمه الله تعالى بما سبق أن رد به العلماء من قبل.
    وقبل أن نشرح كلامه رحمه الله، نبيِّن أن ما قاله المصنف من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: "أين الله؟ في غير موضع" أمر يحتاج إلى بحث، وأنا لا أعلم حديثاً سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أين الله؟) أحداً من الصحابة إلا حديث الجارية.
  2. تعليق الهلالي على زيادة (فإنها مؤمنة)

     المرفق    
    لـسليم الهلالي مؤلف بعنوان أين الله وفيه نقاط تستحق أن نقف عليها؛ فقد قال الكاتب في (ص:31): "نقل شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ( ص:243 ) عن الإمام أحمد قوله: "ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة. يقولون: أعتقها، قال -أي: الإمام أحمد -: ومالك سمعه من هذا الشيخ -هلال بن علي - لا يقول: فإنها مؤمنة. وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك، فحكمها حكم المؤمنة. هذا معناه".
    قال الهلالي: "وهذا يشعر بشذوذ وضعف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {فإنها مؤمنة}، والجواب من وجوه:
    أولاً: رواه يحيى بن أبي كثير عن شيخ مالك بزيادة: {فإنها مؤمنة} أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم، ويحيى بن أبي كثير ثقة حجة؛ فزيادته مقبولة، لأنها زيادة ثقة.
    ثانياً: وهذه كبوةٌ من الإمام أحمد رحمه الله، فإن هذه الزيادة أخرجها أحمد نفسه في مسنده: (5/ 448، 449). من طريق يحيى بن أبي كثير وصرَّح عنده بالتحديث.
    ثالثاً: جاءت هذه الزيادة من طرق أخرى عن بعض الصحابة، وقد سقنا أحاديثهم، فهي زيادة صحيحة مقطوعٌ بها".
    رابعاً: "وإن كان مالك -يعني الإمام مالكاً - جبلاً في الحفظ، فله أوهام في أحاديث الجارية نبهنا عليها في التعليق رقم (8)" انتهى كلامه.
    وأقول: أولاً: النبي صلى الله عليه وسلم حين سألها إنما سألها سؤال من يستثبت ويتبين أنها تجزئ في العتق؛ لأن الصحابي رضي الله تعالى عنه سأله ليرى هل تجزئ في الإعتاق أم لا -والذي يجزئ هو الرقبة المؤمنة- سواء كان يريد أن يعتقها لأنه صكها، أو عن أمه، لأن أمه كان عليها نذر، وقد يجتمع السببان فيها، فاختبرها النبي صلى الله عليه وسلم في معرفة الله: أين الله؟ وفي معرفته صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ وهذان هما أصل الدين: أن يعرف الإنسان ربه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يُمتحن به الإنسان في قبره ويوم القيامة، فلما أجابت قال: أعتقها.
    ولو تأملنا قول الإمام أحمد برزت لنا قضيتان، القضية الأولى: قوله: "ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة" ثم قوله: "ومالك سمعه من هذا الشيخ". ومعناه أن الإمام مالكاً روى عن هلال بن علي قوله: (أعتقها) ووقف. فهذا الكلام من الإمام أحمد لا يعني أنه يطعن في رواية يحيى بن أبي كثير عن هلال ؛ وعليه فلا داعي لأن نستدرك على الإمام أحمد ونقول: رواها يحيى بن أبي كثير وهي زيادة مقبولة! والإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ذكر هذا الكلام في كتاب الإيمان، ويريد بذلك أن يرد على المرجئة الذين يقولون: إن من أقر يكون إيمانه كاملاً؛ ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بالإيمان لجارية أعجمية بمجرد إقرارها أن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، فقالوا: هذا دليل على أن الإيمان الكامل يحصل بالإقرار، وما عدا ذلك فهو زيادة غير داخلة في ماهية الإيمان وحقيقته؛ فأراد الإمام أحمد أن يرد عليهم بقوله: (ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة) بل يقول: (أعتقها)، فلا حجة لمن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لها بكمال الإيمان، لأن مورد السؤال ليس في معرض كمال الإيمان أو نقصه، وإنما في الإجزاء أو عدمه سواء قال: (أعتقها) وكفى، أو قال: (أعتقها فإنها مؤمنة).
    ثانياً: قوله: (وهذه كبوةٌ من الإمام أحمد ) والحقيقة أنه لا ينبغي أن نطلق على الأئمة كلمة (كبوة) وإن كان كل إنسان قد يكبو، لكن ينبغي أن نجلَّ الأئمة ونحترمهم ونقدرهم، هذا إذا ثبت أنه أخطأ.
    فقوله رحمه الله: (ليس كل أحد) يعني أن هناك أناساً رووا هذه اللفظة وأناساً لم يرووها، وهو من الناس الذين رووها، ويزيد ذلك إيضاحاً: أن الإمام أحمد ذكر هذه الرواية في المسند، وذكر هذا الكلام في كتاب الإيمان، فلو فرضنا أن الإمام رحمه الله أخطأ أو نسي ونفى هذه الرواية وقال "لم يروها أحد" ثم وجدناه رواها في المسند . فهل نقول: إن هذه كبوة منه؟! بل نقول: لعل الإمام أحمد حين كتب كتاب الإيمان لم يكن قد بلغه هذا الحديث، أو لعله نسي؛ فكان الأولى أن يكون أسلوب الرد فيه إجلال الإمام أحمد والتماس العذر له.
    وهكذا ينبغي لنا ألا نتسرع في تخطئة العلماء حتى نتأكد ونتأنى، فإن ثبت في نظرنا يقيناً أنهم أخطئوا، فإننا نبين وجه الخطأ بعبارة مهذبة لطيفة، ونذكر ما يصلح عذراً لهؤلاء العلماء.
    وقوله: (ليس كل أحد) حق، وهو دليلٌ على إحاطته رضي الله تعالى عنه وسعة علمه وتبحره في السنة، وأنه يعلم أن حديث الجارية روي بالزيادة وبغير الزيادة.
    والغرض أن من أدلة علو الله على خلقه هذا الحديث الذي هو من رواية معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم وغيره، وهي صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين الله؟
    والروايات الضعيفة التي أوردت لهذا الحديث -والتي احتج بها الكوثري وغيره من أهل البدع- لا صحة لها.
    والذي يهمنا هو ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بنفسه: (أين الله؟) وأنه صلى الله عليه وسلم شهد لمن أجاب بقوله: (في السماء) بأنه مؤمن.
    وقال الإمام أحمد: "وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة؛ فهي حين تقر بذاك، فحكمها حكم المؤمنة" ومعنى كلام أحمد أن قوله صلى الله عليه وسلم: (مؤمنة) لا يعني أنها كاملة الإيمان، وإنما معناه: أن حكمها حكم المؤمنة؛ لأن السؤال كان: هل حكمها الإجزاء أم غيره؟ فما دام ظاهرها الإيمان فهي مؤمنة تجزئ، وكذلك حال كل من أظهر الإسلام وأقر به، فحكمه الإسلام، فيؤخذ بظاهره، ويعطى حكم المسلمين.
    وهذا الحديث من أعظم الأدلة على إثبات علو الله تبارك وتعالى وفطريته وبداهته؛ لأن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في موضع امتحان كمال الإيمان، وإنما كان لإثبات الحد الأدنى منه، يشبه هذا أن تختبر طفلاً لترى: هل يصلح أن يدخل مدرسة ابتدائية أو لا؛ فتسأله سؤالاً واضحاً، مثل كأن تسأله عن اسمه أو عن حفظه لحروف الهجاء، وهذا من أجل أن يلتحق بالمدرسة فقط. وهكذا كان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في الأمر الواضح البدهي ليثبت لها حكم الإسلام.
  3. بيان بطلان تأويل العلو

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله: [ومن تأول فوق بأنه خيرٌ من عباده وأفضل منهم] مثل قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18].. ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50] [وأنه خيرٌ من العرش وأفضل منه] ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وكما في حديث: {والله فوق العرش} [كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدنيار فوق الدرهم، فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة] أي: أن هذا القول وأمثاله مما لا يقول به عاقل، ولا يتلفظ به من يعرف قدر الله سبحانه وتعالى.
    يقول: [فإن قول القائل ابتداءً: الله خيرٌ من عباده، وخيرٌ من عرشه؛ من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح] بل هو كلام ساقط لا قيمة له؛ وليس فيه بيان لأفضلية أو ميزة، وهذا يدل على أن الآيات التي فيها أن الله على العرش وأنه فوق خلقه ليس المقصود منها إثبات أن الله أفضل من خلقه، وأنه خير منهم، فهذا لا يحتاج إلى دليل عليه؛ بل هي دالة على علوه سبحانه على خلقه.
    وقد قال المصنف: [بل هو أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه، فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً؟!] فهذا لا يقوله العاقل من الناس، فضلاً عن البليغ الفصيح، فضلاً عن أن يكون في كلام رب العالمين عز وجل، [بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر:
    ألم تر أن السيف ينقص قدره            إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
    ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك؛ لضحك منه العقلاء] فلو قال قائل: هذه الجواهر أغلى من قشرة البصل، لضحك منه العقلاء، بل لا يكاد يقول ذلك أي إنسان لديه مسكة من عقل، إلا على سبيل السخرية أو الاستهزاء أو التنقص.. فإذا قال ذلك فهم منه أن هذا جوهر رديء، لا يساوي قشرة البصل، [للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم].
    وأفضل الخلق وأكملهم -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- نقف في وصفه عند حد معين لا نجاوزه ولا نطريه؛ وذلك حفاظاً على مقام الألوهية؛ فالتفاوت في الصفات بين الله عز وجل وبين رسوله صلى الله عليه وسلم عظيم جداً، هذا وهو أفضل الخلق؛ فكيف بأدنى الخلق؟! فهل يقال بعد ذلك: إن معنى قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18] وما أشبه ذلك.. معناه أن الله خيرٌ من خلقه وأفضل؟ بل حتى لو قال قائل: إن الله أفضل من رسوله صلى الله عليه وسلم، وخيرٌ منه، ما كان في الكلام ثناء ولا مدح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا شك أعظم من كل مخلوق، فكيف إذا قيل ذلك في عموم الناس؟!
    إن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم من أن تقال فيه تلك العبارات وأمثالها، [بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39]] فهنا مجال لذلك؛ لإثبات التفاوت بين رب السماوات والأرض رب العالمين، الذي يعلم السر وأخفى، والذي خلق الأولين والآخرين ويجمعهم إلى يوم القيامة، وبين تلك الأرباب.
    وانظر إلى محاورة فرعون مع موسى عليه السلام، وهي من أعجب المحاورات في القرآن، ففيها أن موسى عليه السلام قال لفرعون كما في سورة الشعراء: ((قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] وذلك لأن فرعون قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) فصدقه أصحاب العقول الضعيفة السقيمة.
    ألم يكن فرعون صغيراً، وقبل ذلك كان جنيناً، وقبل ذلك لم يكن موجوداً؟! وإذا كان هو ربكم، فآباؤكم الأولون من ربهم؟! أفرعون أول؟! وفرعون الأول كيف مات كما يموت العبيد ؟! فلما انقطعت الحجج بفرعون قال: ((إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ))[الشعراء:27] وهذا هو أسلوب الطغاة حين عندما تنقطع بهم الحجج؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستمروا في الجدل العلمي.
    فلهذا يقول يوسف عليه السلام: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39] فمن كان له عقل؛ فكيف يعبد تلك الأرباب؟ أهي خير أم الله الواحد القهار؟!
    ومن أوضح الأدلة على بطلان هذه الأرباب: تفرقها واختلافها، وهكذا كانت العرب في الجاهلية، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، ناهيك عن تلك التي في اليمن وبني تميم وغير ذلك من القبائل، لكن الله هو الواحد القهار، وهؤلاء الذين في السجن مقهورون، فقال لهم ذلك حتى لا يظنوا أن غير الله قهار، ولذلك صار يوسف بعد ذلك هو الملك.
    ومما ورد عن السلف: أن امرأة العزيز بعد أن أذهب الله الملك عن زوجها، وأصبح يوسف عليه السلام هو الملك، مر بها ركب الملك، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا الملك يوسف، فقالت: سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعزنا بطاعته، وألا يذلنا بمعصيته.
    ثم قال المصنف: [وقوله تعالى: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59]] وهذا في معرض الرد على المشركين، مع بيان أنه لا مفاضلة أبداً ولا مقارنة بين الله وبين هؤلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذه الأرض قراراً، وهو الذي أنشأ فيها حدائق ذات بهجة، وهو الذي يجيب المضطر... فهل هناك مقارنة بين من يفعل ذلك كله وبين ما يعبدونهم من أرباب؛ ممن لم يخلقوا ولم يرزقوا، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟!
  4. إثبات العلو المطلق لله بدلالة معاني العلو

     المرفق    
    يقول المصنف: [وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية] أي: معنى كون الله تبارك وتعالى خيراً من خلقه وأفضل منهم، [في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه]، أي: نثبت المعنى الأول وكذلك نثبت أن الله تبارك وتعالى له الفوقية المطلقة؛ فهو فوق العباد ذاتاً وقدراً ومنزلةً وشأناً وعلماً، وكل ما يمكن أن يدخل تحت هذا اللفظ ويصح احتمال اللفظ له فهو ثابت لله تعالى، والذي يعظم الله سبحانه وتعالى وينزهه ويقدره حق قدره هو الذي يثبت له العلو المطلق.
    يقول: [فله سبحانه وتعالى فوقية القهر] لأنه قال: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18] فله فوقية القهر ضمن المعنى العام المطلق للفوقية، [وفوقية القدر] أو الفضل، [وفوقية الذات] وهي التي يهربون منها ولا يثبتونها، ونحن نقول: بل هي ثابتة أيضاً، [ومن أثبت البعض ونفى البعض، فقد تنقص] أي: تنقص قدر الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يثبت له العلو المطلق، [وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان] يجب أن يعلم أولاً أن المنزلة عند المؤولة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، فتقول: منزلتك عندي عالية، أي: معنوية، لكن لا بد أن يعلم أن هناك منزلة معنوية، وهناك منزلة حسية أو جسمية، فتستعمل المكانة والمنزلة في المكانات المعنوية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية.
    ثم قال: [فإذا عُرف أن المكانة والمنزلة تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً وإلا كان باطلاً] ومعنى هذا: أنه لا منافاة بين قولي: مكانة الله ومنزلة الله في قلبي أعظم، وبين إثبات علو الذات له إذا كان مطابقاً له، أليست المكانة فرعاً عن المكان والمنزلة فرعاً عن المنزل؟! فالمعنى المعنوي تابع للمعنى الحسي، وهناك ترابط بينهما، فإذا أثبتنا لله تبارك وتعالى العلو المطلق من جميع الوجوه، دخل فيه المكانة والمنزلة، والقدر والقهر، وأهمها علو الذات، لكن هم ينكرون علو الذات.
    قال: [كما جاء في الأثر: {إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه} ] قال الشيخ الألباني في أول الأمر: "لا أعرفه"، ثم قال: "ثم وجدته بدلالة بعض الإخوان جزاه الله خيراً في مستدرك الحاكم في الجزء الأول بنحوه، وصححه وتعقبه الذهبي بأن فيه عمر بن عبد الله مولى غفرة ضعيف، ومن طريقه أخرجه أبو يعلى وغيره، وهو مخرج في الضعيفة ".
    والمقصود أن هذا الأثر من كلام بعض السلف، ومعناه صحيح، فإذا أردت أن تعرف منزلتك وقدرك عند الله، فانظر إلى منزلة الله وقدره وعظمته في قلبك ونفسك، كما في الحديث: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} واستشعر أن الله سبحانه وتعالى عليك رقيب حسيب، مطلع على كل عمل من أعمالك، بل تحزن ويصيبك الأسى عندما ترى الله يعصى، كما قال بعض السلف: (وددت لو أن جسمي قرض بالمقاريض وأن أحداً لم يعص الله عز وجل).
    وهناك تأويل آخر لأهل البدع؛ قالوا: المراد بعلو الله أنه تعالى عالٍ في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء، ولا نثبت أنه عالٍ على العالمين بذاته! وهذه الشبهة من جنس ما تقدم، وجوابها كما تقدم. ثم قال: [وكذلك هو] أي: من جملة علوه في القلوب، وهذا حق. [وهذا العلو مطابقٌ لعلوه في نفسه على كل شيء] يعني علوه تعالى في القلوب على كل شيء مطابقٌ لعلوه في ذاته عز وجل على كل شيء، وإثبات هذا لا يقتضي نفي ذاك، بل هو تابعٌ له.
    [فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى] ومعناه: أن الذين يقولون: إنه سبحانه عالٍ في القلوب لا بنفسه، وقعوا في الاضطراب والتناقض، إذ كيف يعتقدون أن الله تعالى أعلى من كل شيء، ومع ذلك يقولون: هو بذاته في كل مكان؟ فهذا تناقض، لكن إذا أثبت علو الذات مع علو المنزلة، كان هناك تطابق وتناسق واتفاق، ولذلك قال المصنف: [كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى] فلو أن شيئاً منزلته في القلوب أو في الواقع أدنى فجعلته أعلى، فقد جئت بما فيه انعكاس وخلل، وفيه قلب للموازين، وكذلك العكس، فلا يجعل ما هو أعلى أسفل، ولا سيما أن ذلك يتعلق بالله سبحانه وتعالى.
  5. إثبات علو الله بالأدلة العقلية

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلوه سبحانه وتعالى -كما هو ثابت بالسمع- ثابتٌ بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:
    أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر.
    الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته، أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل، أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فإنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
    الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة
    ]. اهـ.
    الشرح:
    يذكر المصنف رحمه الله تعالى دليل العقل والفطرة بعد إجماله للأدلة العقلية كما قال:
    [وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع - أي بالنقل من الكتاب والسنة - ثابتٌ بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:
    أحدها: -وقد تقدم- العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر] يعني: أنَّ كل عاقل يثبت موجودين اثنين لا يخلو إما أن يكون أحدهما قائماً بالآخر كالصفات بالنسبة للموصوف، وكاللون بالنسبة للشيء الملوَّن، فالجدار مثلاً لونه أبيض أو أسود، فالبياض والسواد قائمٌ بالذات الموصوفة، ولا يستقل عنها.. هذا شيء، أو أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر منفصلاً عنه، فالإنسان مثلاً منفصل عن الجدار أو الجبل، هذه المقدمة الأولى.
    المقدمة الثانية: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خلقه خارجاً عن ذاته، لكن هم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، أو لا داخله ولا خارجه، كما ينفون النفي المطلق، فنحن نناقش المسألة من أولها فنقول: إن الله سبحانه وتعالى -من الناحية العقلية النظرية البحتة- عندما خلق العالم، إما أن يكون خلقه في ذاته أو خلقه خارجاً عن ذاته، وكل الفرق متفقة على أنه إنما خلقه خارجاً عن ذاته، ولو افترضنا وجود قائل يقول: بأن الله خلق الخلق في ذاته، فيرد عليه بأدلة كثيرة منها هذان الدليلان: الأول: الاتفاق، فكل أهل الفرق يقولون: إنه لم يخلق الخلق في ذاته.
    الدليل العقلي الثاني: أنه على هذا الاحتمال تكون ذاته تعالى محلاً للقاذورات والخسائس؛ لأن فيها الخنازير والكلاب والجيف والنجاسات، وكل ذلك في الكون موجود، فلو قيل: إنه خلقه في ذاته، لكان ذلك كله داخل ذاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وهذه مجرد افتراضات عقلية لإفحامهم وإلزامهم فقط.
    "والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة" يعني إذا كان الخلق وقع خارج ذاته وهو ما اتفقنا عليه، إذاً فهو منفصل عن الخلق، فنكون بذلك أثبتنا موجودين، ولكلٍ منهما ذاتٌ منفصلة عن الذات الأخرى، مباينة لها، مختلفةٌ عنها: ذاتٌ هي ذات الله الخالق سبحانه وتعالى، وذاتٌ أخرى هي ذوات المخلوقين.
    ثم يقول: "لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول" يعني القول الآخر عندهم، وهو أنه لا داخل ولا خارج، ولا أمام ولا خلف، ولا متصل ولا منفصل، وهذا القول غير معقول؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة (غير موجود)؛ ولذلك يسقط هذا القول، ويبقى ثبوت المباينة.
    [الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة]، ثم: إما هو فوق العالم أو تحته، وكونه تحت العالم باطل فتعين أنه فوقه -يعني: الله تعالى فوق المخلوقات- وهذا دليل عقلي بدهي.