يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [أن للناس في إطلاق هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: طائفة تنفيها بإطلاق] يعني: يقولون نَحْنُ لا نستخدم هذه العبارات، بل ننفيها نهائياً، أو ننفي ما دلت عليه هذه العبارات بإطلاق.
[وطائفة تثبتها] فيقولون: نَحْنُ نثبت هذه العبارات أو نثبت نفيها سواءً كانت سلباً أو إيجاباً، لأن المراد بها معنىً حسناً يقصد به تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ، فلماذا ننفيها؟ والأولون قالوا: إنها تحمل معنى غير لائق بالله عَزَّ وَجَلَّ، فلماذا نثبتها؟ فهما قولان متقابلان متناقضان.
[وطائفة تُفصِّل وهم المتبعون للسلف] تقول: هذه العبارات المستحدثة لا ننفيها بإطلاق ولا نثبتها بإطلاق، بل نُفصِّل في ذلك.

ومن عمدة هَؤُلاءِ الإمام أَحْمَد رحمه الله تعالى، فإنه لما وقعت فتنة والقول بخلق القرآن، أُتي بالإمام مقيداً بالأغلال، وأُتي بأئمة الاعتزال والبدع، الذين كانوا قد زينوا الأمر للخليفة وأن هذا عَلَى بدعة -يعنون الإمام أَحْمَد- فكانوا يسألون الإمام أَحْمَد، وكان الإمام أَحْمَد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ورحمه يضع قاعدة عامة في كل مناظرة ثُمَّ بعد ذلك يناقش عَلَى هذه القاعدة يقول: [ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، يقولون له: يا أَحْمَد قُل القُرْآن مخلوق، فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، فجاءه رجل من هَؤُلاءِ يدعى برغوث وهو من المعتزلة ومن الجهلة، لا علم له في الكتاب ولا في سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو رجل تعلم من كلام اليونان ومن فلسفة المجوس والصابئين، فأصبح يرى ويظن أن هذه الأمور العقلية أعظم مما جَاءَ في الكتاب والسنة وما عرفه السلف، ولهذا تصدى لمناظرة الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ ليفحمه وليبين له أنه عَلَى خطأ.
فقال له برغوث يا أَحْمَد! يلزمك إن قلت: إن القُرْآن غير مخلوق أن تثبت أن الله جسماً؛ لأنه إذا كَانَ غير مخلوق يكون عرضاً، والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأدوات أو بالأجسام.
فقال الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ: أقول في ربي عَزَّ وَجَلَّ أنه كما قَالَ: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ))[الإخلاص:1-4] وأما الجسم وأمثاله فلا نقول فيه لا نفياً ولا إثباتاً؛ لأن هذا شيء لم يأت لا في الكتاب ولا في السنة ولم يبلغنا عن السلف فلا يلزمني شيء، ولا يلزمني أنه جسم، وهكذا استمر الأمر في أكثر المناظرات.

فهذه قاعدة عظيمة أرساها الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ، وقد أخذها عمن قبله من العلماء ونقلوها لنا، وهي: أننا في كل المعاني المحدثة أو الألفاظ التي تحتها معاني محدثة، فإننا لا ننفي ولا نثبت إلا ما جَاءَ في الكتاب أو السنة أو أقوال السلف هذا هو الذي نستخدمه، وما عدا ذلك فإننا نستفصل: ماذا تريد أيها المثبت؟ وماذا تريد أيها النافي؟ فإن ذكر معنىً حقاً، وقَالَ: أنا أريد بنفي الحدود نفي الجهة، أنا أنزه الله تَعَالَى عن الحلول عن الحركة، وأقصد تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أن يشبه المخلوقات، قلنا: المراد صحيح ولكن عبارتك خاطئة، فعليك أن تنزه الله بما نزه به نفسه أو نزهه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تتعدي ذلك ولا تخرج عنه.
وإن قَالَ: أنا أقصد بنفي الانتقال ونفي الحركة به أن الله لا ينزل إِلَى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة، قلنا له: أخطأت وهذا كلام أهل البدع: يردون الحديث الصحيح الثابت المتواتر بأمثال هذه الجدليات والعقليات التي لا أصل لها من الشرع، فلفظك مبتدع ومعناه مبتدع، فنرد اللفظ والمعنى معاً.
وإذا نظرت في أي كتاب من كتب الكلام وكتب العقائد البدعية كالأشعرية والاعتزالية فإنك لا بد أن تجد هذه العبارات عنده
، ومن الممكن أن تسأل أيّ واحد منهم السؤال البسيط الذي سأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارية التي كانت ترعى الغنم، فعدا الذئب عليها وأخذ منها غنمة فجاء معاوية بن الحكم فصكها، ثُمَّ ندم عَلَى ضربها واستشعر الظلم؛ فأراد أن يكفر عن هذه اللطمة بأن يعتقها، وكانت أمهُ قد نذرت أن تعتق أمة مؤمنة، فيكون بذلك قد أرضى أمه حيث أعتق عنها ووفَّى بنذرها، وأحسن إِلَى هذه الجارية، لكنه لا يدري أتجزئ هذه الرقبة أو لا تجزئ لأنها أعجمية، ولا يدري حقيقة إيمانها؟! فذهب بها إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: {يا رَسُول الله! إن أمي عليها عتق رقبة وإن هذه الجارية ترعى لي الغنم، وإن الذئب قد عدى عَلَى الغنم فأخذ منها شاة، وأنا بشر آسف كما يأسفون، فصككتها صكة فهل تجزئ في العتق}؟!
والحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه ورواه الإمام أَحْمَد في أكثر من موضع من المسند ورواه كثير من العلماء ولا شك في صحة هذا الحديث، والمراد معرفة أن هذه الجارية مؤمنة أم غير مؤمنة؟ وليس المراد هنا أعلى درجات الإيمان، وإنما إثبات إسلامها، فسألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أوضح شيء في العقيدة {فَقَالَ لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، وأشارت بإصبعها إِلَى السماء} هذا هو السؤال الأول أجابت عليه بالإجابة الصحيحة.
والسؤال الثاني: {قَالَ: من أنا؟ قالت: أنت رَسُول الله، قَالَ: أعتقها فإنها مؤمنة} أي: مسلمة فعتقها يجزئ؛ لأنها من هذه الأمة ومن الْمُسْلِمِينَ.
ومن أعظم معرفة الله عَزَّ وَجَلَّ أن يعرف أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق المخلوقات، والقصد أنهم يقولون: وهو تَعَالَى يتنزه عن المكان والزمان والجهة بلا أين؟ ولا متى؟ ويذكرون في ذلك أثراً مكذوباً موضوعاً عَلَى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سأله رجل أين الله؟ فقَالَ: لا يُقال لِمَن أيّن الأين: أين؟كأن معناه لا يُقال لِمَن خلق المكان الذي هو "أين" وجعله "أيناً": أين؟ أي: لا يُسأل عن الله بالأين، وكثير من النَّاس يظن أن من تنزيه الله أنك لا تسأل عنه بأين، فإذا قلت: أين الله؟ يقول: استغفر الله أنت تقول: إن الله في جهة وإن الله محصور -مع أنك لم تقل: إن الله محصور أو إنه في جهة- والسؤال بـ"أين" قد فعله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل أحد أعلم بالله من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
إذاً: نقول: إن الله فوق المخلوقات، في العلو، ولا نضيف من عند أنفسنا عبارات -بلا مماسة، ولا محاسبة- لم تأت لا في كتاب ولا في سنة فهو سبحانه في السماء أي: في العلو، كما أخبر تعالى: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)) [النحل:50] وقال:((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10]، وهكذا في حديث الإسراء لمَّا عُرِج به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أن صار في المقام العظيم الذي سيأتي الكلام عنه إن شاء الله، والأدلة كثيرة ومتواترة تعد بالآلاف كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في الصواعق المرسلة، من الآيات والأحاديث والبراهين العقلية والفطرية.