المادة كاملة    
لقد شرح ابن عبد البر -وهو عالم أهل المغرب في زمانه- موطأ الإمام مالك بكتاب: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. ومما شرحه من أحاديث الموطأ حديث النزول؛ فبين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث مذهب أهل السنة في الاستواء والنزول، وأن الله على العرش، ورد على الجهمية قولهم أن الله في كل مكان، وذكر معنى الاستواء من كلام العرب الفصحاء.
  1. حديث النزول ودلالته على العلو

     المرفق    
    قال المصنف:
    [الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل] أ.هـ .
    الشرح:
    النزول من صفات الله تعالى التي أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في حديث متواتر -كما سنرى- وأثبتها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكذلك التابعون من بعدهم، حتى ظهر أهل البدع، فكان من أعظم ما جادلوا فيه إثبات النزول لله تبارك وتعالى، وقد رأيت أن أختار نموذجاً من كلام السلف الصالح في إثبات النزول مع شرح حديثه، وهو ما ذكره الحافظ الإمام الجليل أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى- وهو عالم أهل المغرب في زمانه الذي شرح الموطأ للإمام مالك رحمه الله بكتابه التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، وهو كتاب عظيم، جليل القدر في الحديث والفقه والآثار، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب مفرد في شرح حديث النزول سنتعرض له -إن شاء الله- فيما بعد، لكننا أحببنا هنا أن نقيم الحجة على من ينكر النزول من كلام إمام من الأئمة غير ابن تيمية رحمه الله،
    وسوف نقدم كلام الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
    أولاً: لتقدمه في الزمن على شيخ الإسلام .
    ثانياً: لنرد بذلك على المتعصبين؛ لأن معظم المالكية اليوم أشاعرة إلا من كان على السنة، وهذا الإمام العظيم الشهير الحافظ أبو عمر بن عبد البر -وهو من المالكية- قد شرح كتاب الإمام مالك الموطأ، فكل من كان مالكياً بحق، وكل من انتسب للإمام مالك رحمه الله تعالى بحق، فإنه لا يجوز له العدول عما كان عليه الإمام مالك وما كان عليه العلماء من أتباعه الذين كانوا على عقيدة السلف الصالح، ومنهم على سبيل المثال الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي تعرضنا لذكره أكثر من مرة في إثبات العلو.
    ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد (7/128) حديث النزول فقال: "حديث ثامن لـابن شهاب عن أبي سلمة يشارك فيه أبا سلمة أبو عبد الله الأغر، واسمه سلمان ثقة رضي".
    ثم ذكر السند فقال: "مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأغر جميعاً عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! }.
    ثم قال: "هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته".
    وممن رواه أيضاً الإمامان الجليلان: البخاري ومسلم، بل ورد في معظم كتب السنة.
    وبعد أن ذكر رحمه الله تعالى بعض طرقه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة ".
    وهذه العبارات من الإمام ابن عبد البر كأنما يشرح بها عبارة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى التي بين أيدينا، ففيها إثبات الفوقية والعلو بألفاظ لا يمكن أن تحتمل التأويل، وكأن الإمام الحافظ ابن عبد البر يعلم أن بعض المالكية يؤولون كلام أئمتهم، وكما أولوا كلام مالك وكلام ابن أبي زيد، فقد يؤولون كلامه أيضاً، ولهذا جاء رحمه الله بهذه العبارة التي لا يمكن أن تحتمل التأويل "أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات"، ثم قال بعد ذلك: "كما قالت الجماعة " وكلمة (الجماعة ) تطلق في مقابل الفرق فيقال: قال أهل السنة أو قالت الجماعة أو قال أهل السنة والجماعة، فالمقصود بهم الذين لم يتفرقوا في الدين، فـالجماعة في مقابلة الفرق، ولهذا قال -رحمه الله- بعد ذلك: "وهو من حجتهم -أي الجماعة - على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش" والجهمية هم شر منكري الصفات، فهذا المذهب مذهبهم، وإن قال به من زعم أنه أشعري، أو أنه من أهل السنة، فالمذهب للجهمية والمعتزلة، فكل من ينتسب إلى السنة، فهو بلا شك يعادي المعتزلة؛ فلا يجرؤ أحد أن ينتسب إلى السنة، ويقول: أنا من أهل السنة ثم لا يعادي المعتزلة؛ فضلاً عن الجهمية؛ فإن الوعيد فيهم أشد، وكلام السلف فيهم أعظم، وسيأتي بعضه -إن شاء الله- في كلام الحافظ ابن عبد البر مع ما قد أسلفنا في الكلام عنهم من قبل.
    1. أدلة ابن عبد البر على إثبات صفة العلو

      ثم استدل الإمام ابن عبد البر رحمه الله على ذلك فقال: "والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك هو قول الله عز وجل: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، وقوله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ))[السجدة:4]، وقوله: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11]، وقوله: ((إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا))[الإسراء:42] وقوله تبارك اسمه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10]، وقوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ))[الأعراف:143] وقال : ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ))[الملك:16] وقال جل ذكره: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))[الأعلى:1] وهذا من العلو، وكذلك قوله: ((الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[البقرة:255] و ((الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ))[الرعد:9] و((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ))[غافر:15].. و((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]"، ثم قال: "والجهمي يزعم أنه أسفل"، وإن لم يقلها صراحة فقوله: إنه في كل مكان يقتضي ذلك.
      قال: "قال جل ذكره: ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ))[السجدة:5]، وقوله: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4]، وقال لعيسى عليه السلام: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ))[آل عمران:55]، وقال: ((بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))[النساء:158]، وقال: ((فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))[فصلت:38]، وقال: ((وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19]، وقال: ((لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ))[المعارج:2-3]، والعروج: هو الصعود".
      ثم قال: "وأما قوله تعالى: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ))[الملك:16] فمعناه: من على السماء؛ يعني: على العرش، وقد يكون (في) بمعنى (على) ألا ترى إلى قوله تعالى: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))[التوبة:2] أي: على الأرض -وليس في داخلها- وكذلك قوله: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ))[طه:71]، وهذا كله يعضده قوله تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4] وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب" قد فسر رحمه الله آية الملك: ((أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:16] لأنها مما تعمد من ينكرون علو الله تأويله؛ بخلاف غيرها من الآيات؛ فإن تأويلها بعيد.
    2. رد ابن عبد البر على المعتزلة في تأويل الاستواء

      بعد أن سرد الحافظ ابن عبد البر رحمه الله الآيات القرآنية التي تثبت العلو قال: "وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: (استولى)! فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز" أي: إلا إذا اتفقنا على أن المراد به غير ما وضع له قال: "إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه" يعني أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يوجه بالأظهر والأشهر من وجوهه؛ لا بمجرد أي معنى يحتمله اللفظ، بل يوجه بالقرائن وبالسياق وبما هو أشهر وأظهر.
      قال: "ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدعٍ ما ثبت شيء من العبارات" يعني: لو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع لأمكن صرف مدلول أية عبارة تحكماً، فلو قال لك إنسان مثلاً: لك عندي ألف ريال، فيجوز أن تدعي عليه أن لك عنده مائة ألف ريال، وتقول له: المضاف محذوف وأنت ما أردت ألفاً فقط، لكن أردت مائة ألف وحذفت المائة تجوزاً، فإذا فتح باب المجاز بدون أي ضابط، فإنه من الممكن أن يقال في أي كلام: إنه لا حقيقة له ولا ظاهر له، فلا يثبت عند الناس أي كلام، وهذا كلام نفيس من إمام متقدم؛ لأنه توفي رحمه الله سنة (463).
      فائدة: ابن جني صاحب اللغة المشهور من القائلين بالمجاز، ذهب به جنون المجاز إلى أن يقول: إذا قلنا: قام زيد، فإن ذلك مجاز؛ فإن لفظة (قام) يشمل كل قيام في الوجود، فكونك تخصصه بإنسان واحد -وهو زيد- وبوقت واحد، فهذا مجاز، فكأن السامع أول ما يفهم من لفظة (قام) أن جميع القيام في الدنيا حصل، فلما قلت: زيد، أسندته إلى واحد من بعض أفراده، وإسناد الفعل إلى بعض أفراده هو من المجاز.
      فإذا قلنا بالمجاز؛ تبعاً لأي دعوى؛ فلن يبقى شيء من حقائق العبارات ثابتاً، ولو أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على أفهام هؤلاء المتحكمين بالمجاز والمتوسعين فيه بلا ضابط، لكان ذلك من أشد الحرج على الناس، لكنه -ولله الحمد- أنزله بلسان عربي مبين للأصحاء أسوياء العقول ولم ينزله للمجانين، ولذلك لا يعقله إلا العالمون، ولا يفقهه إلا من كان أهلاً لذلك أو من اتبع من هو أهل لذلك.
      قال الحافظ ابن عبد البر : "ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدعٍ ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين".
    3. معنى الاستواء عند العرب

      ثم قال رحمه الله: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (اسْتَوَى) قال: (علا)، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: (استوى)، أي: انتهى شبابه واستقر ولم يكن في شبابه مزيد".
      قال الحافظ أبو عمر : "الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل وقال: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ))[الزخرف:13]، وقال: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]، وقال: ((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ))[المؤمنون:28] وقال الشاعر:
      فأوردتهم ماءً بفيفاء قفرة            وقد حلق النجم اليماني فاستوى "
      والنجم اليماني هو الشعرى اليمانية، وهي من أكبر النجوم.
      قال: "وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد بـ(استولى)؛ لأن النجم لا يستولي.
      وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة، قال: حدثني الخليل -وحسبك بـالخليل - قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت" وهذه طرفة من طرف الأعراب، وقد كان هؤلاء الرواة -كـالأصمعي والخليل والنضر وحماد وخلف - يذهبون إلى البادية للقاء الأعراب، من أجل أن يأخذوا عنهم اللغة ويدونوها، وكان الأعراب يملون منهم، فإن الأعرابي يأتي بالشاة والناقة ليبيعها في سوق البصرة والكوفة، ثم يعود إلى الصحراء، فيتلقفه أولئك اللغويون عند الأبواب ويسألونه: ما تقولون في كذا؟ وما جمع كذا؟ وما تثنية كذا؟ وكانوا يجيبونهم على البديهة من غير تفكير ولا روية؛ لأنها لغتهم التي تعودوا أن ينطقوا بها؛ لكنهم كانوا يضجرون من هؤلاء اللغويين الذين يترصدونهم، فهم لا يهمهم أمر لغتهم، ولا يريدون أن يقطع عليهم أمورهم أولئك اللغويون.
      يقول: فكان هذا الأعرابي من أعلم من رأيت، وقال: "فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل : هو من قول الله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11]".
      فانظر كيف يصدق قول أهل اللغة ما يفقهه أهل الإيمان والدين والأمانة! فـالخليل يقول: قول الأعرابي لنا: استووا (أي: ارتفعوا) هو من قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11] بمعنى: ارتفع.
      قال: "فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟! فقلنا: الساعة فارقناه" أي: الطعام؛ فكأنهم يقولون له: إننا نريد شيئاً غير الطعام "فقال: سلاماً! فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر؛ قال الخليل : هو من قوله عز وجل: ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا))[الفرقان:63]" أي: لسنا راضين عما تفعلون، ولكننا لن نتكلم، فإذا جاء إليك إنسان يسبك ويشتمك ويؤذيك، فقلت له: سلاماً، فمعنى ذلك أنك لست براضٍ عما يقول؛ لأنه يسبك ويشتمك بما ليس فيك، لكن مع ذلك لن ترد ولن تقول شراً، فالأعرابي يقول لهم: أنا لا أريدكم، ولكن لن أسيء إليكم، فهي متاركة لا خير فيها ولا شر.
      ثم ذكر ابن عبد البر رحمه الله ما استدل به أهل البدع من أحاديث وآثار لا تثبت، ثم قال بعد ذلك: "أما سمعوا قول الله عز وجل حيث يقول: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:36-37] فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذباً.
      فسبحان من لا يقدر الخلق قدره            ومن هو فوق العرش فرد موحـد
      مليك على عرش السماء مهيمن            لعزته تعنـو الوجوه وتسـجد
      وهذا الشعر لـأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة:
      فمن حامل إحدى قوائم عرشه             ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
      قيام على الأقدام عانون تحته            فرائصهم من شدة الخوف ترعد "
      فقوله: (فسبحان من لا يقدر الخلق قدره) يوضحها قوله تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))[الأنعام:91] فالخلق لا يستطيعون أن يقدروا الله حق قدره ولا أن يثنوا عليه كما يستحق سبحانه وتعالى بل هو كما أثنى على نفسه.
      (ومن هو فوق العرش فرد موحد) أي: واحد أحد .
      مليك على عرش السماء مهيمن            لعزته تعنـو الوجوه وتسـجد
      (تعنو): أي تخضع وتنحني الرءوس والوجوه وتسجد له سبحانه.
      فهذا الرجل الذي آمن لسانه وكفر قلبه يقول في وصف الملائكة:
      فمن حامل إحدى قوائم عرشه             ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
      قيام على الأقدام عانون تحته                        فرائصهم من شدة الخوف ترعد
      وهكذا حال الملائكة الكرام؛ لأنهم يخافون ربهم من فوقهم، وهذا الكلام كأنه مأخوذ من القرآن، وربما أخذه أمية من علم أهل الكتاب، وهو من الحق الذي تتطابق فيه دعوات الرسل وكتب الله تبارك وتعالى المتتالية.
    4. الرد على من قال: إن الله في كل مكان

      قال أبو عمر رحمه الله: "فإن احتجوا بقول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ))[الزخرف:84] -وهذا مما يحتجون به فعلاً- وبقوله: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))[الأنعام:3]، وبقوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ))[المجادلة:7] وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى، قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته" يعني: أن هذا لا يقول به أحد من المسلمين! قال: "فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه"، فـأهل السنة من السلف يقولون: إن الله تبارك وتعالى في السماء، والجهمية يقولون: هو في كل مكان أو هو في الأرض وفي السماء كما في الآية: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ))[الزخرف:84] بزعمهم، فنقول لهم: نأخذ القدر المتفق عليه، وندع القدر المختلف فيه، فنحن نقول: إنه في السماء، وأنتم تقولون: في الأرض وفي السماء، فهل تقولون: هو في الأرض فقط؟ وهذا لا يقولون به، فقال: إذاً اتفقنا نحن وأنتم أنه في السماء، فنحمل الآية على المعنى الصحيح ونترك المعنى المختلف فيه.
      قال: "وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير" فهو سبحانه وتعالى بذاته فوق العرش لكن عبوديته واجبة على من في السماء وعلى من في الأرض، أما في السماء فهو معبود قطعاً، لكن الإشكال أن في الأرض من يعبد غيره وهو يقول: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ))[الزخرف:84].
      ثم قال: "فظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر، وأما قوله في الآية الأخرى: ((وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ))[الزخرف:84] فالإجماع والاتفاق قد بين المراد بأنه معبود من أهل الأرض، فتدبر هذا؛ فإنه قاطع إن شاء الله".
  2. إثبات العلو بالفطرة وشرح حديث الجارية

     المرفق    
    قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله مقرراً إثبات العلو بالفطرة: "ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى" وهذا دليل الفطرة.
    يقول: "وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: {أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنـة} فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه".
    ثم ذكر حديثاً بسنده، فقال: "عن معاوية بن الحكم قال: أطلقت غنيمة لي ترعاها جارية لي في ناحية أحد، فوجدت الذئب قد أصاب شاة منها، وأنا رجل من بني آدم" يريد أن يقدم عذره لكيلا يقال: كيف تقدم على هذا العمل؟! قال: "وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون" أي: أحزن وأندم وأتحسر، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، فهم بشر من خلق الله، لكنهم يتميزون بأنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإذا ظلموا أنفسهم أو فعلوا فاحشة أو أذنبوا أي ذنب تابوا إلى الله سبحانه وتعالى، تمر عليهم الغفلات كما تمر على كل الناس، لكنهم سرعان ما يستغفرون الله سبحانه وتعالى ويفيقون، وهكذا كان حالهم رضوان الله عليهم، قال: "فصككتها صكة" أي: ضربتها ضربة قوية، ثم ندم وتألم لذلك، قال: "ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعظم عليَّ، قال: فقلت: يا رسول الله! فهلا أعتقها".
    إن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المبعوث رحمة للعالمين- قد كان في جانب الرحمة والشفقة على كل أحد، فلا يرضى أن ينزل بأحد وإن كان كافراً مالا يستحقه من العقاب، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان والشيوخ في الحرب.
    وهذه أمة جارية مملوكة، ومع ذلك يهتم بعتقها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا رحمة للعالمين، ولأن هذا الدين هو الذي أقر حقوق الإنسان، وليست المواثيق الخداعة التي يزعمها من يزعمها في هيئة الأمم، ووثيقة حقوق الإنسان إنما كتبت لأول مرة في تاريخ أوروبا عام 1948م، ونصت أن الإنسان لا يجوز لأحد أن يسترقه أو يظلمه، وما أعطاه الغربيون في هذه الوثيقة إلا بعض الحقوق، ومع ذلك كان هناك أكثر من ستين دولة لم توقع عليها، وبعض الدول إلى الآن لم توقع عليها.
    إن الإسلام هو دين الرحمة الحقيقية والسلام الحقيقي، وليس السلام الذي يرضى بالكفر ولا الرحمة التي تبطل الجهاد وتبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما السلام في موضعه والرحمة في موضعها، والجهاد في موضعه والقوة في موضعها، وهكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ولو أن هذه الأمة هي التي اشتكت، لربما قيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيب خاطرها ويرضيها، إنما الصحابي هو بنفسه أتى يشكو نفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم عليه ذلك وأنَّبه.
    ولذلك يحق لنا أن نفتخر ونقول: إن دين الإسلام هو دين الرحمة، يصون للإنسان كرامته وحريته، فلكثرة ما أنَّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! فهلا أعتقها!
    وفي بعض الروايات أن أم معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه نذرت أن تعتق رقبة؛ فهذه فرصة لإعتاقها كفارة لذنبه، وتحللاً من نذر أمه، لكن هذه الجارية التي صكها أعجمية، فلا يدري أهي مؤمنة أو غير مؤمنة، والرقبة يشترط فيها أن تكون مؤمنة -بمعنى مسلمة- ليست كافرة.
    "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأتني بها، قال: فجئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وهي أمة سوداء أعجمية راعية غنم لا تملك شيئاً، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، ولا أن تقيم محامياً، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الحكام والولاة على الناس أنه بالعدل تصلح الأمم وتستقيم الدول؛ "فقال لها -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: {أين الله؟}" وهذا السؤال ليس سؤال الممتحن المتعنت، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمتحن إيمانها متعنتاً ليعلم هل هي من الراسخين في العلم والمتفقهين في الدين أم لا؛ إنما هو سألها لمجرد معرفة هل تجزئ في العتق أم لا، والإجزاء يحصل بأدنى المطلوب، فقال لها: {أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله} فأقيمت الإجابة على هذين السؤالين مقام: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فهذا أول ما يدخل به الإنسان في دين الإسلام، وتعس والله من يدَّعي العلم وهو يجهل ما عرفته هذه الجارية الأعجمية عن أول ما يدخل المرء به في الإسلام.
    1. الرد على المحقق في تعليقه على حديث (أين الله)

      وقد قال المحقق -وهو عبد الله بن الصديق تعليقاً على حديث الجارية-: "رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وقد تصرف الرواة في ألفاظه، فروي بهذا اللفظ كما هنا وبلفظ: {من ربك؟ قالت: الله ربي}، وبلفظ {أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم}. وقد استوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى؛ بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي".
      فالمحقق يزعم أن رواية: {أين الله؟} من تصرف الرواة وأن الرواية الصحيحة هي أنه سألها: {من ربك؟} {أتشهدين أن لا إله إلا الله؟} مع أن الرواية التي في صحيح مسلم هي: {أين الله؟}، لكن لماذا يريد هذا المحقق أن يتهم الرواة؟! قال: "ويؤيد ذلك أن المعهود من حال النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بالتواتر أنه كان يختبر إسلام الشخص بسؤاله عن الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام ودليله" نعم! النبي صلى الله عليه وسلم قد يسأل عن الشهادتين كما سأل الأعرابي: {أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم}، في حديث رؤية الهلال، لكن إذا سأل: أين الله؟ ومن أنا؟ فذلك مثل قوله: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ بل ذلك أوضح وأجلى؛ لأن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للجارية كانت على قدر عقلها ولغتها وفهمها، فهو يخاطبها بأقل مما يخاطب به الأعرابي، لأن الأعرابي يعرف اللغة.
      ولو وقف عبد الله بن الصديق عند هذا الحد لقلنا: هذا رجل تعارضت عنده الروايات، فقدم رواية على أخرى، لكنه قال: "أما كون الله في السماء، فكانت عقيدة العرب في الجاهلية، وكانوا مشركين، فكيف تكون دليلاً على الإسلام؟!" فهذا السؤال موجه من المحقق: عبد الله بن الصديق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -نسأل الله العفو والعافية- لأن رسول الله هو الذي قال لها ذلك، وكأنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجعل ما هو من عقيدة العرب في الجاهلية دليلاً على الإسلام؟! والرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فهل تجرؤ أن تسأل رسول الله هذا السؤال؟!
      نعم كونه تعالى في السماء عقيدة كانت العرب في الجاهلية تقِرُّ بها، لكن ذلك ليس من خصائصهم، فقد كانت كل الأمم تقر بذلك، وهذه حجة على هذا المحقق.
      إن بعض المحققين يمسخون عبارات الكتب القديمة التي يحققونها ويعلقون عليها، وإذا قرأ الإنسان هذا الكلام النفيس الغالي لـابن عبد البر رحمه الله، فإن قلبه يطمئن إلى عقيدة أهل السنة، لكنه إذا قرأ هذه الكلمة للمحقق، فإن ذلك قد يصده عن الحق الذي قاله ابن عبد البر رحمه الله.
      فيقال للمحقق:حتى ولو كانت عقيدة العرب في الجاهلية أن الله في السماء -وكل العرب والعجم يقولون ذلك لأن كل الفطر تشهد أنه تبارك وتعالى في السماء- فيكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك -ونعوذ بالله من غلبة الهوى ونسأل الله العفو والعافية- ولأن يلقى الإنسان ربه تعالى جاهلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب خير له من أن يلقاه بهذه التأويلات التي تصرف كلمات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن معانيها إلى الأهواء والضلالات والشبهات.
  3. إثبات معية الله لخلقه بعلمه

     المرفق    
    ثم يروي ابن عبد البر رحمه الله بسنده إلى مالك بن أنس رحمه الله فيقول: " قال مالك بن أنس: [[ الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه مكان ]]".
    وهذا فيه تفسير لقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4]، أي: بعلمه، لا يخلو من علمه تعالى مكان.
    قال: "وقيل لـمالك ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله: [[ استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء]].
    وقد روينا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال في قول الله عز وجل: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] مثل قول مالك هذا سواء.
    وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ))[المجادلة:7] فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل -يعني تفاسير القرآن- قالوا في تأويل هذه الآية: "هو على العرش، وعلمه في كل مكان"، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله".
    فالحافظ أبو عمر رحمه الله -وهو ثقة في نقله وواسع العلم في اطلاعه- يذكر أن هذا بمنزلة الإجماع؛ وأن في تفسير قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4] إجماعاً أن الله تعالى فوق العرش بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه؛ لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه.
    ثم يقول: "ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ))[المجادلة:7] قال: [[هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا]].
    قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله.
    قال سنيد: وحدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: [[الله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم]] وأعلم الناس بالتفسير هم ابن عباس، وابن مسعود وتلاميذهما.
    قال سنيد: وحدثنا هشيم عن أبي بشر عن مجاهد قال: [[إن بين العرش وبين الملائكة سبعين حجاباً: حجاب من نور، وحجاب من ظلمة]] .
    ثم روى بسنده عن عبد الله بن موسى الضبي "قال: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4] قال: علمه".
    ثم نقل عن أبي داود بسنده: عن ابن المبارك، قال: [[الرب تبارك وتعالى على السماء السابعة على العرش، قيل له: بحد ذلك؟ قال: نعم هو على العرش، فوق سبع سماوات]].
    1. ضلال الجهمية في تأويل الصفات

      ثم قال رحمه الله: "قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثني محمد بن عمرو الكلابي قال: سمعت وكيعاً يقول: كفر بشر بن المريسي في صفته هذه، قال: هو في كل شيء! قيل له: وفي قلنسوتك هذه؟! قال: نعم! قيل: وفي جوف حمار؟! قال: نعم!".
      بشر بن المريسي من الجهمية، قال: إن الله في كل مكان، فقال وكيع -شيخ الإمام أحمد رضي الله عنهما الإمام المشهور الجليل الثقة-: بهذا الكلام كفر بشر لأنه قال: (هو في كل شيء)؛ فالمراحيض، والقاذورات، وبطون الجيف تعد أمكنة، فالذين يقولون: إن الله في كل مكان -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- يلزم من وصفهم هذا أنه في هذه الأمكنة، وهم يقولون أمراً لا يقوله مسلم، ولو فطنوا له لما قالوا به لمخالفته للمنقول وأيضاً لمخالفته للمعقول.
      ثم قال: "وقال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: [[إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية]] فاليهود قالت: عزير ابن الله! وقد ذكر الله ذلك عنهم في القرآن، فنحكي ذلك وننقله عنهم، والنصارى قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: عيسى ابن الله، فننقل ذلك ونحكيه عنهم؛ لكن لا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية عندما يقولون: هو في كل مكان.
      يقال: يا جهم ! أو يا بشر ! أهو في كل مكان حتى في المراحيض والجيف؟! فيقول: نعم! فلا نستطيع أن نحكي ذلك، ولهذا فإن أهل السنة يقولون عن الجهمية : هؤلاء كفار زنادقة؛ لأنهم يقولون في الله قولاً عظيماً.
      ولا يستطيع أهل السنة أن ينقلوا كلامهم؛ لأنه لا يتصوره مسلم ولا يتخيله عاقل أبداً.
  4. إجماع أهل السنة على إثبات النزول لله عز وجل

     المرفق    
    شرع ابن عبد البر رحمه الله في بيان الحديث فقال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا} فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون" وهو في الحقيقة إجماع لكنه قال: "والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة"؛ احترازاً؛ لأنه سيذكر خلاف ذلك عن بعض من نسب إلى السنة.
    والسلف لا يقولون: هل يخلو منه العرش أو لا؟ وكيف ينزل إلى سماء بلد فيه ليل والبلد الآخر فيه نهار؟
    ثم قال ابن عبد البر: "والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة" وهي أن نثبت ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمورد واحد، والحجة واحدة، وفي الجميع لا نقول: كيف؟ ولا نمثل، ولا نعطل، ولا نؤول.
    1. ضعف الروايات في تأويل النزول

      قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: أنه ينزل أمره وتنزل رحمته، وروي ذلك عن حبيب كاتب مالك وغيره، وأنكره منهم آخرون".
      وهنا يجب أن نقف وقفة:
      لو صح أن أحداً من السلف قال: إن معنى (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) : تنزل رحمته، فليس ذلك منه نفياً لصفة النزول.
      وقد ذكر الطبري رحمه الله وغيره من المفسرين قول بعض الصحابة؛ ابن مسعود أو ابن عباس في قوله: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42] قال: يوم يشتد الكرب ويشتد الهول؛ فهذا الكلام ليس فيه نفي للصفة.
      أما المؤولون فلو كانوا يكتفون بقولهم: (ينزل ربنا) أي: تنزل رحمته، قلنا: لعلهم يقصدون أنه إذا قال هذا القول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أن رحمته عز وجل هي التي تنزل، أي: هو يقول ذلك ليرحم عباده؛ وذلك محتمل، لكنهم يقولون: لا ينزل بالكلية؛ فهم قد كذبوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوا عليه كلامه في أنه لا ينزل أصلاً وإنما تنزل رحمته!
      ونتساءل أيضاً: هل رحمته لا تنزل إلا في الثلث الأخير؟! وأمره لا ينزل إلا في الثلث الأخير؟! فهذا لا يقول به أحد، ولو كانوا يقصدون أنه ينزل فتنزل رحمته -أي تكون رحمته أقرب إلى العباد- مع إثباتهم للصفة، لما ناقشناهم؛ لأنا نعرف أنه ما من آية من كتاب الله ولا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والسلف -الصحابة والتابعون والعلماء والمفسرون- يختلفون في تفسيره على أقوال كثيرة، ولا يهمنا ذلك، لكن يهمنا ألا ينكر أحد صفة لله، فلو قال أحد: نثبت نزول الله، لكن المراد أن الرحمة تكون أقرب، لكان هذا من باب الخطأ والصواب، لا من باب السنة والبدعة، فالسنة والبدعة شيء، والخطأ والصواب شيء آخر، لكن من ينكر النزول هو الذي رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه.
      قال ابن عبد البر : "وقد روي عن حبيب كاتب مالك قال: تنزل رحمته أو ينزل أمره"، نقول:
      أولاً: ما منزلة حبيب في العلم وإن كان كاتب الإمام مالك ؟ قال فيه المحقق: "متروك كذبه أحمد وأبو داود وجماعة"، فمن قيل فيه ذلك، لا يؤخذ كلامه في العقيدة؛ بل لا تقبل روايته لحديث واحد، ولو كان في أدنى حكم من الأحكام؛ حتى في إماطة الأذى عن الطريق؛ فكيف فيما يتعلق بصفات الله؟!
      ثانياً: كلامه هذا ليس رواية حديث؛ بل هو من عنده؛ فهو يريد أن يصف الله سبحانه وتعالى، وهو كذاب؛ فلا يؤخذ كلامه.
    2. قاعدة عظيمة في صفات الله تعالى

      قال ابن عبد البر: "وأنكره منهم آخرون" أي: أنكر عليهم علماء آخرون، "وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبداً في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبار الذي إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون، في أي وقت شاء، ويختص برحمته من يشاء، متى شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال"... إلى أن يقول في رد وإبطال كلام من يتساءلون: كيف ينزل؟ وكيف يصعد؟ وكيف استوى؟ : "وما غاب عن العيون، فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير فإنه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11].
      قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة".
  5. إنكار أهل البدع لصفات الله عز وجل

     المرفق    
    قال الحافظ: "وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه" مِثلُ ما قال أحد الروافض: إن أهل السنة ممثلة ومشبهة.. وإن الإمام أحمد بن حنبل روى في مسنده: (أن الله تبارك وتعالى إذا كان الثلث الأخير من الليل ينزل إلى السماء الدنيا على حمار)! وهذا لم يروه الإمام أحمد، ولا قاله السلف، فمن أين جاءت كلمة حمار؟! ومن أين جاء هذا التنفير؟! إنه من الرافضة الذين هم أكذب الخلق، كما قال ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وكذلك قاله الذهبي وابن حجر، وكل أئمة الجرح والتعديل قالوا: أكذب أمة في الدنيا هم الروافض؛ كذبوا على الله وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا على أصحابه، حتى الأربعة الذين يدعون أنهم يتولونهم؛ علي وعمار والمقداد وسلمان ؛ كذبوا عليهم، فما تركوا أحداً إلا وكذبوا عليه، ومن ذلك هذا الكذب الصريح الذي ينسبونه إلى الإمام أحمد وهذا ديدن أهل البدع، يزعمون أن من أقر بالصفات فهو مشبه مجسم.. إلى آخر ما يقولون.
    1. موقف أهل السنة من منكري الصفات

      قال أبو عمر : "وهم عند من أثبتها نافون للمعبود" أي: أن أهل البدع -عند أهل السنة الذين يثبتون الصفات- نافون للمعبود، وهذا من لازم قولهم؛ لأنهم يقولون عن ربهم: لا داخل العالم ولا خارجه وليس له وجه ولا يد ولا عين ولا سمع ولا بصر، فهذا لا شيء؛ فهم في الحقيقة نافون للمعبود، أو كما قال بعض العلماء في من أبطل الصفات أو نفاها: [[المعطل عابد عدم والممثل عابد صنم]].
      ثم قال الحافظ ابن عبد البر : "والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة والحمد لله"، يعني أهل السنة والجماعة، وهذه عبارات السلف المتقدمين، يقولون: الجماعة، روى الجماعة، قالت الجماعة، مذهب الجماعة .
      ومن هنا نفهم قضية مهمة: ما معنى الجماعة التي من خالفها ضل أو كفر أو ابتدع؟
      المقصود بهم: أهل السنة والجماعة التي تذكر في مقابلة الفرق، فالجماعة تقابل أهل الفرق، فبعض السلف : الفرق عنده فرقتان أو قسمان: (الجماعة، والخوارج)؛ فالجماعة: كل من كان على الحق، والخوارج: كل من خرج عن الصراط المستقيم؛ وهذا لو قرأه إنسان وهو لا يفهم هذا المعنى، فسيقول: كيف يجعل الجهمية من الخوارج، والجهمية والخوارج على طرفي نقيض؟! والجواب أن المقصود بـالخوارج عند بعض العلماء كل من خرج عن الحق؛ فهذا في كلام العلماء الأولين، ومنهم: أيوب السختياني .
  6. موقف أهل السنة من المشبهة واحتياطهم في تنزيه الله تعالى

     المرفق    
    قال أبو عمر: "روى حرملة بن يحيى قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: [[من وصف شيئاً من ذات الله؛ مثل قوله: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ))[المائدة:64] -وأشار بيده إلى عنقه- ومثل قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] -فأشار إلى عينيه أو أذنه أو شيئاً من بدنه- قطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله بنفسه]] وهذا دليل على أن السلف لا يشبهون ولا يمثلون، والمقصود من كلام الإمام مالك رحمه الله من قال ذلك على سبيل التشبيه؛ بدليل قوله: (قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه)؛ فقد ورد في قوله تعالى: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إلى عينيه وأذنه، وورد حديث القبض بيده و هو على المنبر، وحديث الأصابع، وحديث الحبر اليهودي؛ فما الفرق بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن يتحدث عنهم الإمام مالك رحمه الله؟ الجواب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ذلك، كان يريد حقيقة الصفة، ويريد إثبات الصفة؛ قال تعالى: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] فهو لا يقصد أن له سمعاً كسمعنا وبصراً كبصرنا؛ فلو قال شخص: إن لله سمعاً كسمعي، وبصراً كبصري -تعالى الله عن ذلك- فهذا الشخص يقطع منه ذلك العضو.
    1. موقف الإمام مالك من مشبهة الرافضة

      لم يقل مالك رحمه الله هذا القول عفواً واعتباطاً؛ لكنه كان معاصراً للرافضة والذين كان دينهم التشبيه؛ كـهشام بن الحكم الرافضي وداود الجواربي ؛ لأنهم أخذوا أصل دينهم عن اليهود، واليهود حرفوا التوراة؛ وأدخلوا فيها التمثيل والتشبيه وأن الله -تعالى عما يقولون - صارع يعقوب إلى الفجر؛ فهذا مما يستدل به هشام بن الحكم وأمثاله؛ وفي مواضع كثيرة في التوارة يثبتون لله تعالى من الصفات ما هو من خصائص المخلوق.
      في التوراة: أن الناس لما ظهر شرهم في الأرض، ندم الرب أنه خلقهم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وفيها: أن الله لما غضب على بني إسرائيل، قام موسى وقال: يا رب! ارجع عن غضبك وارجع عن الانتقام، وعاتبه حتى رجع، والتوراة مليئة بمثل هذا، وهؤلاء الرافضة أفراخ اليهود؛ لأن الذي أنشأ مذهب الرافضة هو عبد الله بن سبأ اليهودي؛ فأخذوا ذلك عنه، ولهذا صدقت الرافضة أن الله تعالى حل في علي بن أبي طالب ؛ مع أنهم يرونه بشراً أمامهم؛ فلا يصدق أحد أن الله يحل في شيء إلا من كان دينه السابق يقول ذلك؛ فكما ورد في التوراة أنه جاء إلى إبراهيم وصارع يعقوب؛ فمن الممكن أن يحل في علي.
      فالإمام مالك رحمه الله قال ذلك؛ لأنه كان في عصره هشام وداود وأتباعهم.
    2. أهل السنة لا يكيفون صفات الله

      ثم قال ابن عبد البر رحمه الله: "الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه".
      ثم أخذ ينقل الأقوال عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن حديث عبد الله : {إن الله عز وجل يجعل السماء على إصبع}، وحديث: {إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن}، {إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق}، {إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة}، ونحو هذه الأحاديث -وسفيان بن عيينة هو شيخ الإمام أحمد من أجل علماء السلف رضي الله عنهما- فقال: [[هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف]].
      وبسند آخر عن الوليد بن مسلم قال: "سألت الأوزاعي -إمام أهل الشام - وسفيان الثوري -إمام أهل العراق - ومالك بن أنس -إمام أهل المدينة - والليث بن سعد -إمام أهل مصر - عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات؛ فقالوا: [[أمروها كما جاءت بلا كيف]] أي: آمنوا بها، واعتقدوا معانيها كما وردت على ظاهرها بلا كيف.
      ثم ينقل أبو عمر عن يحيى بن معين "يقول: شهدت زكريا بن عدي سأل وكيع بن الجراح، فقال: يا أبا سفيان! هذه الأحاديث يعني: مثل: [[الكرسي موضع القدمين]] ونحو هذا؟ فقال: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً" يعني لا يخوضون في شيء منها بالتحريف والتأويل، وإنما يحملونها على ظاهرها.
      ثم ساق ابن عبد البر رحمه الله الإسناد إلى عباس بن محمد الدوري، قال: "سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام وذكر له عن رجل من أهل السنة أنه كان يقول: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية و[[الكرسي موضع القدمين]]، و{ضحك ربنا من قنوط عباده}، و{إن جهنم لتمتلئ} وأشباه هذه الأحاديث، وقالوا: إن فلاناً يقول: يقع في قلوبنا أن هذه الأحاديث حق، فقال: ضعفتم عندي أمره! هذه الأحاديث حق لا شك فيها، رواها الثقات بعضهم عن بعض؛ إلا أنا إذا سئلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم نفسرها، ولم نذكر أحداً يفسرها.
      وقد كان مالك ينكر على من حدث بمثل هذه الأحاديث" .. إلى آخر ما ذكره رحمه الله من نقول يضيق المقام عن ذكرها، ولكن حسبنا ما بيناه من كلام هذا الإمام الجليل وأمثاله من السلف والعلماء المتقدمين في مثل هذه الأحاديث، لنعرف بذلك بطلان تعطيل الخلف المتأخرين.