المادة كاملة    
قد بيَّن الله تعالى في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه الأمين، أنه فوق خلقه عالٍ عليهم، وقد تنوعت الأدلة على ذلك، حتى لم يبق مجال للنزاع فيه؛ فمن ذلك: تنزيل الكتاب من عند الله، واختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، والتصريح برفع الأيدي إليه، وبأنه سبحانه وتعالى في السماء، وثبوت استوائه جل وعلا على عرشه.
  1. التصريح بنزول القرآن من الله

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))[الزمر:1].. ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))[غافر:2].. ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[فصلت:2].. ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))[فصلت:42].. ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))[النحل:102] .. ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ))[الدخان:1-5]
    الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206]. ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ))[الأنبياء:19] فَفَرَّقَ بين (من له) عموماً وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش).
    التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره.
    العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة.
    الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: { إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً } والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
    ]
    الشرح:
    قال رحمه الله: [السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه] وهذا في أكثر المواضع التي أشار فيها إلى القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب، وهذا مما لا يخفى على مسلم يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى، فكل من يقرأ القرآن يعلم أنه منزل من عند الله، وأن الله تعالى ذكر ذلك في آيات كثيرة من كتابه، والتنزيل إنما يكون من العلو إلى السفل، وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات، ومن الآيات الدالة على ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى؛ مثل قوله تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))[غافر:2] في أول سور غافر، وكذلك: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))[الزمر:1] في أول سورة الزمر، وكذلك: ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[فصلت:2] في أول سورة فصلت، وقوله: ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))[فصلت:42] في نفس السورة أيضاً، وقوله تعالى: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))[النحل:102] إلى آخر الآيات، وكل المسلمين يحفظون قوله تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ))[القدر:1-2] وكل المسلمين يعتقدون أن ليلة القدر حق، وأن فيها أنزل القرآن، كما قال تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ))[البقرة:185] والإنزال أو التنزيل إنما يكون من أعلى إلى أسفل، فكل ما ورد في هذه الآيات فهو دليل على علو الله تبارك وتعالى.
    ويفسر ذلك ويجليه ما صح من كيفية نزول الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم (اقرأ)؛ نزل بها جبريل عليه السلام من جهة العلو، والنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وكذلك لما رآه في أجياد على الهيئة التي خلقه الله عليها وقد سد الأفق، والآيات تشرحها وتوضحها الأحاديث، ويضم إلى ذلك عروج الملائكة إلى السماء، ونزول الملائكة من السماء، والعروج لا يتصور ولا يصح في لغة العرب إلا من السفل إلى العلو، كما أن مقابله -النزول- يكون من العلو إلى السفل، والله تبارك وتعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فهما صورتان متقابلتان، فالأرض ينزل إليها، والسماء يعرج إليها (جهتان متقابلتان) ولهذا سيأتي في قوله تعالى: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:17] ونحوها، أن العالم عالمان: عالم سفلي وعالم علوي، فالعالم السفلي هو الذي يطلق على هذه الأرض وما فيها وما حولها، والعالم العلوي أو الملأ الأعلى هو الذي عند الله تبارك وتعالى، فما كان من العالم العلوي إلى العالم السفلي فهو نزول، وما كان من العالم السفلي إلى العالم العلوي فهو عروج أو صعود، كما في قوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10].
    وأقول: صفة العلو من القضايا الواضحة، بل تكاد تكون من البديهيات الجلية لمن يقرأ أو يفقه في دين الله شيئاً، فقد جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة تشهد على ذلك، وسوف يأتي معنا كلام المصنف رحمه الله في الدليل الثامن عشر حيث يقول: [وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك] ولا يمكنهم ذلك أبداً، ومهما أوَّلوا فإنه لا بد أن يتعسفوا في التأويلات، ولا بد أن يجدوا أنفسهم أمام أدلة لا يصح تأويلها بأي حال من الأحوال.
  2. التصريح بأن بعض المخلوقات عند الله

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده" وفيه إشارة إلى الملأ الأعلى الكرام، يقول: "وأن بعضها أقرب إليه من بعض كقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206].. ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ))[الأنبياء:19]" ولو كان الله -كما يقولون- في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، لما كان هذا التصريح بأن هذا النوع من المخلوقات عنده أو أنه أقرب إليه، فالكل بالنسبة إليه سواء؛ لأنهم يقولون: لا تثبت له جهة، والجهة لا تتصور إلا في حق المخلوقات، ولو أثبتنا العلو لزمنا إثبات الجهة، ولو أثبتنا الجهة لكان كذا وكذا؛ من اللوازم الباطلة، فنقول: فما تقولون فيما ورد صريحاً بأن بعض المخلوقات أقرب إليه سبحانه من بعض، وأنها عنده؛ كما في هذه الآيات التي ذكرها المصنف وهي في وصف الملائكة الكرام؛ قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206]?!!
    فإذا كان الخلق بالنسبة إليه سواء -كما يقولون هم: الله في كل مكان بذاته- فما معنى قوله تعالى: ((عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] ؟! وما فائدة تخصيص هؤلاء بأنهم عنده؛ إذ أن الذين في الأرض أيضا عنده حسب قولكم أنتم؟! فإذا فهموا قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4] على غير وجهه الصحيح، وفهموه فهماً خاطئاً؛ كما يفهمه المؤولون الذين ينكرون علو الله؛ فيقولون: نحن عنده أينما كنا، فإننا قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[ق:16] كذلك أنه عندهم دائماً، فإننا نقول: لماذا وصف الله الذين عنده بهذه الصفات، فقال فيهم: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206]؟! أي أن هناك من لا يستكبرون عن عبادته وهم عنده سبحانه وتعالى، وهناك من يعصي الله، ومن يأبى إلا أن يتنكب طريق الحق ويتبع طريق الضلالة؛ يقوده هواه وهؤلاء عن الله مبعدون، وهذا مما يدل دلالة صريحة لا تحتمل التأويل على علو الله سبحانه وتعالى، واختصاص هؤلاء الملأ الأعلى الذين هم خير من الملأ الأسفل بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وباستدامة الطاعة له سبحانه وتعالى من تسبيح وعبادة لا يفترون عنها؛ مما يدل ويؤكد بأن الله سبحانه وتعالى في السماء، عالٍ على جميع المخلوقات، ولهذا فالمصنف رحمه الله في آية الأنبياء، وهي قوله تعالى: ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19] قال: "ففرق بين (من له) عموماً، وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً"، أما المؤولون فيقولون: لأنهم في ملكه، ولأنهم في سلطانه، فيقال لهم: إنه قال: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فكل المخلوقات داخلة في ملكه وسلطانه؛ لكن هناك نوع خاص موصوف بأنه عنده، فليس الكل عنده، وإنما الذين عنده هم الذين هذه حالهم وهذه صفتهم: من عدم الاستكبار، والتسبيح المستمر: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20]، فهؤلاء العباد المكرمون اصطفاهم الله سبحانه وتعالى وفضلهم بهذه العبادة، فكيف يصح أن يقال: إن كل المخلوقات سواء؟!
    الكل له والكل عبيده؛ عبودية القهر والغلبة، لكن يقال: هناك من جُبِلوا على العبادة وخلقوا لها؛ لا يخالط عبادتهم ملل ولا ينابذها معصية؛ فهم مجبولون على الذكر والتسبيح والذل الذي لا يخالطه ملل ولا تعتريه غفلة؛ وهؤلاء مخصوصون بأنهم عنده، وهم الملأ الأعلى الكرام.
    وهذا الاختصاص دليل على علوه سبحانه وتعالى، ولا شك أن أي عاقل من الناس ممن يفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهماً صحيحاً يعلم أن الملائكة هم الملأ الأعلى، وأن إبليس وجنوده هم الذين في جهة السفل؛ نعوذ بالله من شرهم!
    ثم يقول المصنف: [قول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: أنه عنده فوق العرش]، وقد تقدم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي}، فإذا قلنا: إن الله في كل مكان -كما يقولون- فكل كتاب في أي مكان؛ سواء كان في الأرض، أو بين السماء والأرض، أو في السماء الدنيا، أو في السماء الرابعة، أو في السماء السابعة، فإنه يوصف بأنه عنده على قولهم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش} وهذا من النصوص التي يستحيل تأويلها؛ لأن معانيه بعضها يؤكد بعضاً، فالعندية والفوقية جاءتا معاً، ففيه إثبات الاستواء والفوقية والعلو بما لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال، ومن أوَّل فهو إما أن يقدح في صحة هذا الحديث، والحديث صحيح ثابت، ولا يقدح في السنة الصحيحة الثابتة إلا من أضله الله سبحانه وتعالى، واتبع هواه بغير علم ولا هدى من الله؛ فإن قدح في صحته، فقد أخرج نفسه من جملة من يتمسكون أو يتسمون بالسنة، وإن قال: إن الحديث صحيح ولكن لا بد أن يؤوَّل، فكيف يؤوِّل ما جاء فيه: {عنده فوق العرش} بأي شكل من أشكال التأويل؟!
    وسوف نعرض -إن شاء الله- عند آية سورة الملك في الدليل التاسع بعض تأويلاتهم؛ لأن تلك الآية التي في سورة (الملك) يقولون: إنها تحتمل التأويل، فأكثروا فيها من التأويلات الباطلة، وسوف نبين بطلان تأويلاتهم فيها، وهي التي يمكن عقلاً أن تحتمل التأويل؛ فكيف بما لا يحتمل التأويل كهذا الحديث؟!
  3. التصريح بأن الله في السماء

     المرفق    
    ثم يقول المصنف رحمه الله: [التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء] كما في قوله تعالى: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ))[الملك:17].
    إن القرآن قد جاء بأبلغ وأرقى الأساليب العربية البينة؛ كما في هذه الآية: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:17]؛ فإن الدلالة فيها أبلغ وقعاً في القلوب مما لو قيل: (أم أمنتم الله) وأهل السنة؛ كالصحابة والتابعين، حين تعرضوا لتفسير هذه الآية، لم يخوضوا في تفسير: "من في السماء" ولم يبحثوا عنه، لأنه أمر بديهي لا يحتاج أن يفسر، فهو من أنواع التفسير الذي قال فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [وتفسير تعرفه العرب من كلامها] ولهذا تجد المفسر من أهل السنة؛ كـابن جرير الطبري رحمه الله؛ يذكر الآثار الواردة عن السلف في تفسير الآيات التي تحتمل معنيين أو أكثر، لكنه حين جاء إلى تفسير هذه الآية قال: "وهو الله" واكتفى، فهو أمر لا يحتاج إلى دليل ولا إلى أثر، لأنه واضح ومفهوم، ولا يتصور معنىً آخر غيره.
    1. تأويل الفخر الرازي لقوله تعالى: ((أأمنتم من في السماء)) والرد عليه

      أما أهل البدع فأخذوا في التأويل، وخاضوا فيه، وممن خاضوا في التأويل: الفخر الرازي، حيث يعد من أشهر المؤولين، وتفسيره أيضاً كبير وواسع، وهو مطبوع يرجع إليه المؤولون ويحتجون به، فحين جاء إلى تفسير هذه الآية: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ))[الملك:17] قال: "هذه الآية كقوله: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ))[الأنعام:65]" فهو يريد أن يقول: إن هذه الآية ليست من آيات الصفات؛ إنما المقصود بها إثبات أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعذبهم.
      ويقول: "إنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين".
      ثم قال: "لأنا إذا قلنا: في السماء، فالسماء جزء من مخلوقاته، وفوقها العرش وأكبر منها، فإذا كان فيها، فيلزم أن يحيط به بعض مخلوقاته وأن بعضها أكبر منه" فيقال له: من قال لك: إن هذا هو ظاهر الآية؟! ومن قال لك: إن المعنى الذي يفهمه المسلمون من الآية أن الله محصور في هذه القطعة والرقعة التي تسمى السماء؟!
      إن هذا الفهم لم يفهمه أحد من سلف الأمة ولا من علمائها، حتى جاء هؤلاء القوم وفهموا هذا الفهم.
      ومن أسباب سوء الفهم في كتاب الله سبحانه وتعالى: العجمة؛ يأخذ أحدهم القاموس الصغير الذي فيه الكلمة ومعناها، فيجد فيه أن السماء هي التي صفتها كذا وكذا -السماء المعروفة- ثم يقرأ القرآن، فما وجد فيه من لفظ "السماء" فإنه يتصور أنها هي الجرم المعروف على ما فهم من اللغة، فتأتي آيات فيقول: والله لا يمكن أن نجريها على ظاهرها، فلو قرأ هذه الآية وهو لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم من كتاب الله إلا هذا المعنى فقط، لقال: هذا لا يمكن.
      وقس على ذلك كثيراً من صفات الله سبحانه وتعالى ومن معاني القرآن، حتى في الأحكام الشرعية.
      فسوء فهمهم للقرآن جاء من أحد أمرين:
      الأول: أنهم لا يدركون من المعاني، إلا هذا؛ بمعنى أنهم يجهلون تفسير القرآن؛ ويجهلون تفاسير السلف، لا يستطيعون أن يتوسعوا في لغة العرب.
      الثاني: بسبب مسألة المجاز، وقولهم: إن الأصل في وضع كلمة السماء هي الجرم المشهود المعروف، وما عدا ذلك فهو مجاز، مع أنه لا أحد يستطيع أن يثبت أن العرب أرادت بالسماء هذه، أو أرادت باليد: الجارحة، أو أرادت بالعين: الجارحة أو الذهب؛ فإن المعاني مشتركة في لغة العرب؛ فمثلاً: إذا قلنا: (عين) مفردة، فإنها تحتمل أشياء كثيرة، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن العرب وضعت هذه الكلمة لمعنى كذا بعينه، بل هي لمعاني كثيرة، ولا يستطيع أحد أن يجزم بواحد منها؛ فهي تطلق على العين الباصرة، وعلى الماء الذي يخرج من الأرض ويجري، وعلى الذهب، ولا بد من فهم السياق حتى يتبين المعنى، فمثلاً إذا قلت: رأيته بعيني، فُهِمَ المعنى؛ أي: ما رأيته بذهبي، ولا رأيته بالماء الذي يجري، بل رأيته بعيني الباصرة، فإذا قال بعضهم: نسمي هذا حقيقة وذلك مجازاً؛ قلنا: بل نسميه اشتراكاً.
      وأيضاً من الذي قال: إن العرب وضعت هذا هكذا؟! ومن قال: إن اللغة هي وضع واضع؟!
      فالفهم السيئ لكتاب الله هو الذي أدى بهم إلى ذلك.
      ففي قوله تعالى: ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:17]، من قال: إن إثبات معنى (من في السماء) يستلزم أنه محصور في هذا الجزء من خلقه؟! فليس هذا من لوازم المعنى، ومن قال ذلك فإنه لم يفهم المعنى، وإذا لم يفهم معاني القرآن، فليرجع إلى ما قاله السلف، وليسألهم: بم تفسرون هذه الآية؟ وما معناها؟ فإذا وضحوا له ذلك، قبله منهم وانتهى الأمر.
      فكل عربي نزلت عليه هذه الآية أو قرأها في القرون الثلاثة الأولى، لم يفهم منها ما فهمه هؤلاء المتكلمون، ولم يقل ذلك أحد حتى ظهر علم الكلام والبدع والتأويلات التي ليست من لغة العرب، فضلاً عن أن تكون من دين الإسلام.
      ثم يقول الرازي : "لابد أن تؤول الآية على أحد وجوه أربعة" والذي يدلنا على أنها باطلة هي كثرتها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل الآية وفهمها الصحابة والتابعون على معنى معين واضح لا يحتمل غيره؛ فقوله: يحتمل فيها هذه الوجوه الأربعة؛ على تنافرها؛ مخرج من المأزق فقط، فليست هذه الأوجه مما يدل عليه النص.
      وقوله: (تحتملها جميعاً) بغير ترجيح أحدها؛ ما هو إلا مجرد مخرج ليخرج الآية عن معناها الصحيح، حتى لا يثبت ما يدل عليه النص، وهو علو الله.
      ثم قال: "الوجه الأول: أن يقال: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)، أي: الذي عذابه في السماء" مع أنه قال في أول كلامه: إن هذه الآية هي مثل قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ))[الأنعام:65]؛ فهل عذابه في السماء فقط؟! وهل جاء في كلام الله عز وجل أن عذابه في السماء فقط؟!
      إن الآية التي في سورة الأنعام تدل على أن العذاب يمكن أن يأتي من السماء أو من تحت الأرجل، وهذا الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه استعاذ بالله تعالى من العذاب الذي يأتي من السماء، ومن الذي يأتي من تحت الأرجل، فأجابه ربه.
      وممن عذب بعذاب من أسفل وليس من السماء قارون، قال تعالى: ((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ))[القصص:81] فهذا العذاب جاءه من تحت قدمه، والرجل الذي مشى يتبختر في حلته فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى قيام الساعة، نسأل الله العفو والعافية.
      وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنواع العذاب في قوله تعالى: ((فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))[العنكبوت:40] فالعذاب أنواع: فبعض الناس يأتيه العذاب من فوق، وبعض الناس يأتيه العذاب من أسفل.
      والآيات والأحاديث وواقع الأمم الواضح يدل على أن عذاب الله قد يأتي من أعلى وقد يأتي من أسفل، فكما أنه يأتي من السماء، فكذلك يأتي من الأرض؛ بل إن عذاب قوم نوح جاءهم من الجهتين، فالسماء جاءت بماءٍ منهمر، والأرض فُجِّرت عيوناً: ((فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ))[القمر:12] فيمكن أن يأتي العذاب من هنا ومن هنا، فقوله: (أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من في السماء عذابه؛ هو لغو، لا يصح أن يفسر به كلام الله سبحانه وتعالى.
      ثم يقول: "الثاني أن يقال: إن هذا الكلام وهو قوله: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[الملك:16]، قصد به أن الله تعالى -يعني ذاته سبحانه وتعالى- في السماء، فيكون جرياً على قول العرب في الجاهلية" ونقل ذلك عن أبي مسلم الأصفهاني، وهو من علماء الكلام؛ وله آراء غريبة، منها: أنه يقول بالبداء على الله تعالى، وهو قول اليهود والرافضة.
      فالمقصود أن أبا مسلم هذا تقعر وتفلسف، وقال: يمكن أن تجرى الآية على ظاهرها، جرياً على عادة العرب في الجاهلية، فـالمشبهة -يعني بذلك أهل السنة - والعرب في الجاهلية من عقائدهم الباطلة في الله اعتقادهم أن الله في السماء، فيخاطبهم الله على قدر عقولهم يقول: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ))[الملك:16]".
      ومقتضى هذا أن الله تعالى يصحح كلامهم وهو باطل، فمن كانوا يعتقدون أن لله بنات -تعالى الله عن ذلك- فهل يمكن أن يخاطبهم الله ويقول لهم: (أأمنتم من له البنات أن يخسف بكم الأرض)؟! فهل يصح هذا الكلام، والله سبحانه وتعالى نفى ذلك؟! وهل يمكن أن يقول الله للنصارى: (أأمنتم من له ابن وله صاحبة أن يخسف بكم الأرض)؟! فإذا كان ذلك جرياً على عقائدهم، فهو تصحيح لعقائدهم، وهذا لا يمكن، بل هو من أبطل الباطل؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يقر أحداً من الناس على اعتقاد غير الحق، فالمعنى الذي ذهب إليه أبو مسلم باطل، وهو من أبطل الوجوه وأفسدها، وإن قال به من قال.
      يقول: "الوجه الثالث: أن يقال: معنى الآية: أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه" والرد عليه واضح كما رددناه في الأول، نقول: من الذي قال لك: إن ملك الله تعالى وسلطان الله تعالى في السماء فقط، أليست الأرض أيضاً ملكه كما في الآيات: ((وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))[النحل:52]، وهو سبحانه له الحمد وله الملك، فهو مالك كل شيء سبحانه وتعالى، قال تعالى: (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))[هود:56]، فضلاً عن الجماد، فكل شيء في ملك الله سبحانه وتعالى، وهذا من البديهيات التي يعلمها كل مسلم، ولا يخفى على أحد قرأ كتاب الله سبحانه وتعالى أن الملك كله لله عز وجل، ففي السماء ملكه وسلطانه، وفي الأرض ملكه وسلطانه، فلماذا الاختصاص بالسماء؟! ولو أراد ذكر الملك والسطلان، لقال أأمنتم ذو الملك والسلطان، ليشمل كل ما في الأرض والسماء، لكن المقصود ليس التعبير عن الملك ولا عن مكان الملك، وإنما المقصود التعبير عنه سبحانه وتعالى وعن ذاته عز وجل، فالتخويف به سبحانه وتعالى، وإنما لم يكن اللفظ مباشراً كما أشرنا؛ لأن قمة البلاغة لا تكون في الكلام إذا جاء باللفظ المباشر، وإنما تكون إذا جاء اللفظ غير مباشر؛ فهنا جاءت الصفة (من في السماء) وأريد بها الموصوف (الله سبحانه وتعالى)؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {وأنا أمين من في السماء}^ فهذا أبلغ وأدل على المعنى المراد.
      يقول: "الوجه الرابع: أن يكون المراد بـ(مَنْ) من قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ): الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل"، يعني أن الله يخوف عباده الذين في الأرض، فيقول لهم: أأمنتم جبريل الذي في السماء الموكل بالعذاب أن يخسف بكم الأرض، فإذا هي تمور؟! فيكون تهديده لهم بعذاب جبريل، لكن بأمره تعالى وبتدبيره.
      فيرد عليه ويقال: في مقام التهديد لا يهدد أحد فيقال له: ألا تخاف من الجنود؟! لكن يقال له: ألا تخاف من الملك؟! لأن الملك هو الذي يأمر الجنود كلها، فلا تخوفه بجندي من جنوده، ولكن خوفه بمن يملك الجنود كلهم، فهذا هو المقام المناسب، وهكذا أسلوب العرب في كلامها، وإلا كان الكلام لا قيمة له ولا معنى، إلا إذا كان الجُرْم صغيراً، ويمكن أن يقوم بعقاب فاعله من هو دون الملك؛ لكن إذا كان الجرم كبيراً وعظيماً كالشرك بالله سبحانه وتعالى، كان العذاب عظيماً جداً، وهو أن (يخسف بكم الأرض) فيخسف الله بالعالم السفلي؛ (فإذا هي تمور) تضطرب؛ فالتهديد بهذه القوة لا يضاف إلى جند من جنود الله، وإنما يضاف إلى الله؛ وقد قال تعالى في هذا المعنى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ))[الفجر:25-26].
      فمعنى قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: أأمنتم الله سبحانه وتعالى.
      ولو سلمنا -جدلاً- أن المراد به جبريل عليه السلام، كان ذلك دليلاً على العلو من جهة أخرى، أخبرنا سبحانه وتعالى أن الملائكة عنده؛ قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] وجبريل عليه السلام هو كبيرهم وأشرفهم، فهو عند الله سبحانه وتعالى؛ فـالرازي يثبت أن الملائكة الذين هم عند الله هم في السماء، ويقول: إن الله ليس في السماء؛ وهذا تناقض صارخ.
      وهذه الأوجه التي يذكرها هؤلاء إنما هي مخارج؛ لئلا يقروا بالحق ولا يثبتوا لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، كما لا يحتمل اللفظ غيره.
    2. تفسير أهل السنة لقوله تعالى: ((أأمنتم من في السماء))

      قال المصنف رحمه الله: [التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن يكون (في) بمعنى (على)] فإذا كانت (في) بمعنى (على)، فكيف إذا جاءت (على) بنفسها؟! فعلى ذلك قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: على السماء، وهذا المعنى ليس بغريب ولا جديد أو لم يرد في لغة العرب، بل هم يعرفونه، وهو أيضاً واضح من كلام الناس، فإذا قال أحد: الناس في الأرض، فليس معنى (في الأرض) أنهم داخل الأرض، أي في جوفها وفي بطنها، فإذا قال: الذهب والبترول في الأرض، فُهِم منه أنها في الباطن؛ لكن إذا قال: الناس في الأرض، فُهِم من ذلك أنهم فوقها، قال تعالى: (( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ))[الأعراف:10] أي أن الله سبحانه وتعالى مكننا من الحياة في الأرض؛ أي: على الأرض، وجعل لنا فيها معايش؛ أي على ظهرها، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك أيضاً، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ))[طه:71] فهو لا يعني أنه يصلبهم في داخلها، إنما يصلبهم: (عليها)، وكأن: (في) هي في الحقيقة (على) فتكون أولى وأبلغ.
      فنقول تقريراً لذلك: (في) تأتي في كلام العرب بمعنى (على)، وعليه من الأدلة والشواهد مالا يحصى.
      فإذا كانت (في) بمعنى (على) فلا إشكال، فمعنى قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أأمنتم من هو على السماء عليها.
      والمعنى الآخر أن تكون السماء بمعنى العلو: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أي في العلو، والسماء بلغة العرب تطلق على الجرم المشهود، فهي هنا اسم جنس، وعلى العلو مطلقاً، فسماء كل شيء علوه، فإذا نظرنا إلى المراوح نقول: المراوح في سماء البيت، أي في أعلاه، وهذا معروف أيضاً في لغة العرب؛ كما قال ابن الأعرابي: [[كل ما علاك فهو سماء]]، فكل ما كان فوقك فهو سماء، فالبيت سقفه سماء، وأعلى الخيمة سماء كما كانت العرب تقول ذلك، وإذا رأى العرب شيئاً في الفضاء قالوا: هذا في السماء؛ كما في قوله تعالى: (( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ))[النحل:79] أي: في العلو، ويطلق أيضاً على السحاب سماء، كما قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا))[الفرقان:48] أي: من السحاب، حتى أن العرب يقولون: رعينا السماء؛ أي: رعينا العشب الناتج عن المطر.
      وهذا يدل على أن العرب تستعمل كلمة السماء في معاني عدة، ومن ظن أن السماء هي هذا الجرم المشهود المحدود فقط، فهو عجمي لا يعرف من لغة العرب إلا ما قرأ في القاموس.
      والخلاصة أن قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] على أحد معنيين؛ إما بمعنى (أأمنتم من على السماء)، أو (أأمنتم من في العلو)، وعلى يكون المراد هو الله سبحانه وتعالى.
      يقول رحمه الله: "لا يختلفون في ذلك" ولهذا لا يذكر أحد من المفسرين أثراً في هذا ولا خلافاً، ولا يمكن أن يختلف المفسرون في ذلك: "ولا يجوز الحمل على غيره" فلا تحمل الآية على غير هذين المعنيين.
  4. التصريح باستوائه على العرش

     المرفق    
    قال المصنف: [العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة].
    نجد هذا في قوله تعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))[الأعراف:54].
    والاستواء ورد في سبعة مواضع، منها ما ذكره المصنف ومثلنا له، ومنها قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5].
    وهذه الآية مثلاً لا تقبل التأويل بأي شكل من الأشكال؛ لأن (على) تدل على الفوقية، وهذا هو الأصل في دلالتها، والعرش باتفاق المسلمين أكبر المخلوقات وأعظمها، وهو فوقها، حتى أنك تجد الأشعرية المؤوّلة وأهل البدع لا يخالفوننا في أن العرش فوق كل المخلوقات، فقد قالوا: إن الفطر كلها تتجه العلو فهم يقرون أن العرش فوق المخلوقات، لكنهم يقولون: إن الخلق يتوجهون في دعائهم إلى العرش؛ لأن العرش قبلة الدعاء، مع أنه لا أحد من الذين يدعون الله عز وجل خطر على باله أن يتجه إلى الأعلى، لأن العرش قد جعله الله قبلة الدعاء، بل هم يتوجهون إلى الله ويدعونه سبحانه وتعالى، وبعضهم لا يدري أين هو العرش، لكنه يتوجه إلى الأعلى لاعتقاده بالفطرة أن الله عز وجل في العلو.
    قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5] فابتدأ بقوله: (الرحمن)، فالذي استوى هو الرحمن، فلم يقل: ملكه ولا سلطانه ولا عذابه ولا ملائكته سبحانه وتعالى، الرحمن الذي من يكفر به فهو ككفار قريش حين قالوا: وما الرحمن؟! أي: لا وجود للرحمن أصلاً، ثم قال: (على) وهذا الحرف أصل دلالته أصل دلالته في اللغة العربية: العلو والفوقية، ثم قال: (العرش) وهو المخلوق الذي يتفق كل من يؤمن به على أنه فوق المخلوقات، ثم قال: (استوى) والاستواء في كلام العرب معروف لا يجهله أحد منهم، وهو العلو والارتفاع والصعود.. إلى آخر ما تعرفه العرب، وقد ذكره الله سبحانه وتعالى في شأن الدواب وغيرها إذا استوى عليها الإنسان، فالاستواء معروف؛ فالآية بهذا اللفظ لا يمكن أن تؤول، فإذا أراد المؤول أن يؤوِّلها فلابد أن يؤول كلمة الرحمن، فيقول: معنى (الرحمن) هنا: الملك (جبريل أو غيره) وهذا باطل واضح البطلان، ويؤول (على) فيقول: لا داخل ولا خارج، ولا فوق ولا تحت، ويؤول العرش، ويؤول (استوى) بأنه استولى، وهذا كلام في غاية البطلان، وهذا يدل على أن قول المنكرين لعلو الله واستوائه على عرشه في غاية الفساد والبطلان.
    ومن عجائب هذا القرآن التي يدركها من تفكر وتدبر وتأمل فيه: أن العلو لما كان ثابتاً بالفطرة، جاءت الأدلة فيه عامة: بأسماء الله المتضمنة للعو كقوله تعالى:: (( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ))[البقرة:255] وبتخصيص الصعود إليه؛ كقوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10] وهي أدلة عامة، وأما الاستواء فلأنه لا يدرك إلا بالنص، فقد جاء مؤكداً بما لا يحتمل غيره.
    ولذلك نجدهم يقولون في العلو: علو القدر وعلو المكانة، أما في الاستواء فلا يمكن أن يقولوا: استواء مكانة واستواء قَدْر، فقد جاء الدليل في الشيء الأخص -الذي لا تدركه العقول ولا يثبت إلا بالنص- قطعي الدلالة.
    وكل ما ورد في الاستواء أو في العلو هو بين الدلالة، ولكنه في إثبات الاستواء آكد وأوضح.
    ثم قال: "مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة" وذلك كقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54] ثم: حرف عطف يفيد الترتيب، ويدل على أن الفعل وقع بعد أن لم يكن، فإذا قلنا مثلاً: دخل زيد ثم خرج، فالخروج وقع بعد الدخول، فالله تعالى خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش، فاستوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض، فهل يقال: إن المقصود بالاستواء استواء عذابه أو استواء ملكه أو سلطانه؟! كلا! بل هو استواؤه بذاته سبحانه وتعالى، و(على) لا تحتمل (تحت) ولا غيرها، والعرش لا يحتمل غير هذا المخلوق.
    فالحرف (ثم) مع الفعل والفاعل، ومع أداة الفوقية (على)، ومع العرش المجرور بأداة الفوقية (على)؛ لا يمكن أن يحتمل غير استوائه -جل وعلا- على العرش بذاته، وكل هذا مما ينفي تأويل المؤولين، ويدل دلالة قطعية على أنه سبحانه وتعالى استوى كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فتثبت له هذه الصفة ويبطل كل ما عدا ذلك.
  5. التصريح برفع الأيدي إلى الله في الدعاء

     المرفق    
    يقول: [الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً}] أي خالية، فالله سبحانه وتعالى أكرم وأجل من أن يَرُدَّ يد عَبْدٍ قَصَدَه خالية.
    وما أكثر غفلة الناس! فالله سبحانه وتعالى كريم غني لا تنفد خزائنه، وأنت العبد الضعيف الفقير العاجز، المحتاج إلى الله تعالى في كل لحظة، فإذا رفعت يديك في أي وقت، فلن ترجع خاليةً بإذن الله، ومع ذلك كم من الناس يدعو الله؟!
    إن كثيراً من الناس في أبلغ حالات الشدة والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى لا تجد عندهم اللجوء اللائق بهم إلى الله عز وجل، فإذا مرض أحدهم واشتد به المرض، بحث عن الشفاء عند أحد الأطباء، فإذا لم يجد الشفاء عنده فكر في طبيب آخر وفي مستشفى أبعد، فيذهب إليها يريد الشفاء، فإذا لم يجد الشفاء فكر في دولة أخرى يريد الشفاء، وهكذا يتعلق بالأسباب المخلوقة، سبباً وراء سبب، ولا يرفع يديه إلى السماء يسأل الله سبحانه وتعالى، مع أن الله سبحانه وتعالى هو أكرم من سُئِل في أي وقت.
    فاسأل الله عز وجل فإنه لا يرد يديك صفراً، ولا يشترط أن يتحقق لك ما تريده؛ فقد يعطيك الله ما طلبت، أو يعطيك أفضل منه، أو يعطيك غيره، أو يدخر لك ذلك إلى يوم القيامة ويعطيك أجره، أو يدفع عنك من البلاء ما لا تعلم فلا ينزل بك، ففي كل حالة من الحالات أنت رابح غير خاسر.
    بل إن الله سبحانه وتعالى فتح باب الدعاء لمن استحق الهلاك جزاء كفره وعناده وإعراضه، فتح الله له الباب أن يدعو الله، فيرفع الله عنه العذاب؛ قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ))[المؤمنون:76]، وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))[البروج:10] سبحان الله! يحرقون أولياءه بالنار ومع ذلك يقول: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) فيمكنهم مع كل ما عملوه أن يتوبوا وإذا تابوا غفر لهم، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، فمن هو أكرم منه سبحانه وتعالى؟! وأي كرم فوق هذا الكرم؟!
    { إن الله حيي كريم }، فالكريم من البشر يستحيي أن يرد إنساناً طلبه، بل يعطيه ما أمكنه، وإن كان السائل فاجراً أو فاسقاً أو ظالماً، وإن وجده في أي مكان، فكيف بالله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه وإن أنفق ما أنفق سبحانه وتعالى؟!
    فالخير كله من عنده والأمر كله إليه، إليه المنتهى، وإليه يرجع الأمر كله؛ لكن من الذي يلتجئ إليه؟!! ((فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ))[الأنعام:43] فهذه مشكلة البشر في جميع العصور؛ حتى ولو كان العذاب قريباً، فالقلوب معرضة عن الله سبحانه وتعالى، وأعتى أمة شهدها هذا الوجود هي (عاد) قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ))[الفجر:6-8] أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم العذاب، وانظروا إلى عتوهم: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))[الأحقاف:24] فظنوا أنهم لن يصيبهم عذاب، وهذا حال المعرضين عن الله سبحانه وتعالى، ولو أنهم تركوا هذه القسوة والغفلة، وتضرعوا إلى الله كما تضرع قوم يونس، لأزاح الله عنهم العذاب.
    ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ))[الأحقاف:24] والعارض هنا هو الريح تسوق السحاب الأسود وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح بكى، واستغاث بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه قد أهلك الله به أمة عظيمة، وهم الذين قال لهم هود عليه السلام: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ))[الشعراء:128-130].
    وعندما أقرأ هذه الآية أتذكر ما يسمى الآن بـالولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الآية تنطبق عليهم، فلسان حالهم يقول: من أشد منا قوة؟! لكن والله لهم أهون على الله سبحانه وتعالى من بعوضة في فلاة، ولا يعبأ الله بالفجار ولا يبالي بهم؛ إذا أراد الله سبحانه وتعالى بعزته وقدرته أن يدمرهم.
    فهؤلاء الأمريكان يبنون بكل مكان قواعد بحرية وحربية؛ حتى في الفضاء؛ ويعبثون ويفعلون ما لم يفعله قبلهم أحد من الأمم.
    فنقول: مهما تجبر الخلق، ومهما عصوا الله سبحانه وتعالى؛ فإنهم لو تضرعوا وأنابوا إلى الله، لأغاثهم الله، ولكشف عنهم العذاب؛ فهو لا يرد أحداً دعاه في حال الشدة، فكيف في حال الطاعة؟! فهو سبحانه وتعالى حيي كريم إذا رفع العبد يديه إليه يستحيي أن يردهما صفراً.
    فهذا الحديث هو جزء من دليل الفطرة، فالحديث دليل على علو الله؛ لأن العبد يرفع يديه إلى السماء في دعائه متوجهاً إليه سبحانه وتعالى، وهذا الرفع دليل على علو الله على خلقه، ودلالته كدلالة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده في ذلك المشهد العظيم في حجة الوداع، حين قال: {اللهم هل بلغت! اللهم فاشهد}.
    وهناك من أهل البدع من يقول: إذا قال أحدٌ: يا ألله! وأشار بيده إلى أعلى، فقد ارتكب مكفراً، أو أقل شيء أنه يوافق العرب في عقائدهم الباطلة، أو أنه فاسق أو جاهل بالله، مع أن هذه الإشارة وردت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي واردة أيضاً عند أصحاب الفطر المستقيمة والعقول السليمة.
    وهؤلاء الذين يقررون بطلان هذه الإشارة لو جالستهم أو خالطتهم، لوجدت الواحد منهم يشير إلى الله عدة مرات وهو لا يدري، لأن هذا مما لا يمليه العقل؛ والإنسان مجبول عليه بالفطرة ذاتها، فهو يقع والإنسان غير مدرك له.
    1. إبطال شبهة أن العلو قبلة الدعاء

      قال: "والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة" باطل بالضرورة؛ أي: باطل بالعلم الضروري، وهو الذي لا يحتاج إلى استدلال، والعلم النظري هو الذي يحتاج إلى نظر واستدلال.
      والعلم الضروري عند من يدينون بالفلسفة ويستخدمون الأساليب المنطقية يعتبر محصوراً وضيقاً إلى حد أنهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لا يجزمون على شيء بأنه ضروري لا يحتاج إلى استدلال وأنه واضح جلي إلا على ما يتفق عليه عقلاء بني آدم، فيساويهم فيه كل إنسان، فهم كما يقول المتنبي :
      يموت راعي الضأن في جهله            ميتة جالينوس في طبه
      فـأرسطو مثلاً تعمق في علم الفلسفة وفي الاستدلالات العقلية ليجعل العلم نوعين: علم قطعي ضروري، وعلم نظري استدلالي، فكل المسائل القطعية الضرورية التي وصل إليها أفلاطون أو أرسطو يصل إليها ذلك الراعي، ولا فرق إلا في الاسم، فهذا راعٍ، وأرسطو فيلسوف، فلا فرق إذاً، بل الراعي أنظف ذهناً؛ ولم تشوش أفكاره تخبطات أولئك الفلاسفة، وحين تسأله وتقول له: هل الواحد نصف الاثنين؟! يقول: أنت مجنون، وكذلك لو قلت له: هل كل الغنم عندك أكثر من بعض غنمك؟! هل نصف التفاحة أصغر من كل التفاحة؟!
      والعرب لا تتخاطب بهذا أصلاً حتى الرعاة وحتى أهل البوادي، ويعتبرون هذا الكلام من لغو المجانين.
      وإذا تركنا الرعاة وأهل البوادي جانباً، وجئنا إلى علم الكلام، فإننا نجد المتكلمين يقسمون العلم إلى ضروري وإلى نظري؛ فالضروري كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، فهذه هي الضروريات التي لا تحتاج إلى نظر وإلى استدلال، فهي التي يدركها كل بني آدم.
      وبعضهم يمثل بالحسيات، فيقول: إن من العلم الضروري: أن السماء فوق الأرض، فهذه هي خلاصة ونهاية التعب والبحث عن اليقين -كما يسمونه هم- لنصل إلى هذه النتائج!
      وقد أغنانا الله عن علمهم هذا، فنحن نؤمن بالكتاب والسنة، فكم من اليقينيات نؤمن بها! نؤمن بالصراط ولم نره، وإنما عرفنا ذلك بالنص، ونؤمن بالميزان، ونؤمن بعذاب القبر، ونؤمن بالله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالعالم العلوي بكل ما ورد فيه، ونؤمن بما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها، وحال أهل الجنة وحال أهل النار، نؤمن به كأننا قد رأيناه، وهو علم يقيني ضروري قطعي لا نقاش فيه.
      فالاستدلال أو الرجوع إلى الكتاب والسنة يوسع فهم الإنسان وكلامه وعقله، فيرفعه ليكون إنساناً حقاً ويرفع عقله.
      وإذا استوى الفيلسوف وراعي الضأن، فلا يستوي المؤمنون والكافرون، ولا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أبداً!!
      لا يستوي من يقول: لا أدري، ومن يؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقبر وعذابه ونعيمه، فأين هذا من هذا؟!
      أين تلك الدابة الضالة السائمة من ذلك الذي قذف الله في قلبه النور وجعل في قلبه الإيمان؟!
      فالقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة -أي بالعلم الضروري- وباطل بالفطرة.
      يقول: "وهذا يجده من نفسه كل داعٍ" أي: كل من يدعو الله؛ إن دعا الله في جوف الأرض، أو دعا الله في الطائرة، أو دعاه على سطح الأرض، أو دعاه وهو في الملأ الأعلى، فإن شعوره يتجه إلى العلو.