المادة كاملة    
إن الله هو العلي على خلقه قدراً وذاتاً، وقد عطل أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هذه الصفة كما عطلوا غيرها من الصفات، ونادوا بمقولتهم الشنعاء التي تزعم أن الله -جل الله عن قولهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته.. إلخ، وقد لبس هؤلاء على الناس بأن الأدلة العقلية تقتضي ألا يوصف الله بعلو الذات؛ لاستلزام ذلك للجهة والحيز، وما علموا أن الإقرار بوجود الله يستلزم الإيمان بعلوه، وأن العلو والسفول نقيضان، فإذا ارتفع أحدهما ثبت الآخر، وأن العلو صفة كمال، والله موصوف بكل كمال، منزه عن كل نقص.
  1. مقررات العقل السليم في مسألة العلو

     المرفق    
    بعد أن ذكر المصنف رحمه الله الأدلة النقلية على إثبات العلو، انتقل بعد ذلك إلى الأدلة العقلية التي تؤيد مذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية المهمة.
    يقول المصنف رحمه الله:
    [ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة -تعالى الله عن ذلك- فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده.
    فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية، لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها؛ فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك، فهو: إما داخل العالم، وإما خارجٌ عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين، وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً.
    فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟! فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً]
    ا.هـ
    الشرح:
    بعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن الأدلة النقلية كثيرة على إثبات علو الله وفوقيته سبحانه وتعالى فقال: [ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر] وقلنا: إن ابن القيم رحمه الله ذكر أن أدلة إثبات العلو تعد بالمئات بل بالألوف.. بعد ذلك أراد أن يوضح المسألة توضيحاً عقلياً، ويرد رداً عقلياً على من ينكرون علو الله تبارك وتعالى أو يؤولونه، وهذه الأدلة إنما هي للاستئناس وللتأييد، لا أنها أدلة مستقلة برأسها، فنحن موقنون -والحمد لله- بأن المصدر الذي يؤخذ منه الدين والإيمان والعقيدة هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف الصالح في أصول العقيدة.
    ومن فضل الله تبارك وتعالى أن ما يقرره العقل الصريح والفطرة السليمة لا يعارض إثبات العلو إطلاقاً، ولهذا فلدينا استعداد كامل بأن نرد على المبتدعة رداً عقلياً في إنكارهم أي صفة ينكرونها، وإن كنا لا نجعل ذلك مصدر الأخذ والتلقي بالنسبة لأخذ العقيدة وتلقيها، ولا نجعله وسليتنا الوحيدة في دفع الشبهات وردها، لكن نقول: من نعمة الله سبحانه وتعالى أن أهل السنة لهم الحجة الظاهرة على كل فرقة مخالفة، سواء كانت الحجة نقلية أو عقلية، فإذا ما ذكر المبتدعة أوهاماً ظنوها حججاً عقلية لهم، فإن علماء أهل السنة يأتون بالحجج العقلية التي لا يمكن للخصم المجادل أن ينكرها أو أن يكابر في قبولها.
    1. المخلوقات خارجة عن الذات المقدسة ومباينة لها

      يقول رحمه الله: [ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة...] إلى آخر كلامه.
      معنى كلامه رحمه الله أنه قد ثبت لنا أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وهذه المخلوقات؛ فإما أن يقال: إنه خلقها في ذاته المقدسة، وإما أن يقال: خلقها خارج ذاته، والعقلاء والمؤمنون به تعالى في كل ملة يقولون: إن الله خلقها خارج ذاته.
      فنقول: إذا كان خلقها خارج ذاته المقدسة، فإما أن تكون الذات المقدسة فوق المخلوقات، فنصفها بصفة الكمال الذي لا نقص فيه ولا عيب، وهي الفوقية، فتكون فوق هذه المخلوقات عالية عليها، وإما أن توصف بضد ذلك، والعقلاء وكل من يعرف الله سبحانه وتعالى ويقدره حق قدره يقول: بل الذات المقدسة فوق المخلوقات، فيكون هذا دليلاً واضحاً بالعقل والبديهة على علو الله سبحانه وتعالى.
      يقول المصنف: [ولا ريب أن الله تعالى لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة -تعالى الله عن ذلك- فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته] وفسر الصمد في كلام السلف: بأنه الذي لا جوف له، فالمخلوقات تكون خارجاً عن ذاته -سبحانه وتعالى- بدليل هذه السورة وغيرها، ومعلوم لدى جميع العقلاء وجميع الأديان والفطر أنه سبحانه وتعالى إنما خلق العالم خارج ذاته المقدسة، فإذا كان خلقهم خارج ذاته، فإن الأكمل بالنسبة له سبحانه وتعالى أن تكون ذاته المقدسة فوق جميع مخلوقاته.
    2. نفي العلو يستلزم إثبات ضده

      يقول: [ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك] أي: أنه يتحتم أن يوصف بالفوقية، وإلا لزم أن يوصف بضد ذلك؛ لأننا أقررنا أن له وجوداً حقيقياً، أي: ذاتاً قائمة مستقلة بنفسها، موجودة خارج الذهن، وقلنا: لا يمكن أن يوصف بالعدم المحض بأن ننفي عنه كل الجهات بإطلاق، فنقول: ليس خارج المخلوقات ولا داخلها ولا أمامها ولا خلفها ولا فوقها ولا تحتها، فمن كان بهذه الصفة، فذاته غير موجودة أصلاً أو غير موجودة في الواقع، فلابد من تحديد جهة؛ إما العلو وإما السفل، فالعلو من الكمال، والسفل من النقص. وقولنا: (الجهة) إنما نقصد منه: الجهة بالنسبة للمخلوقات، أي: أن يكون عالياً عليها أو سافلاً عنها. [لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده]. وهذه قاعدة عقلية معروفة، فأي شيء يقبل وصفاً ما، لا يخلو منه أو من ضده، فمثلاً: الإنسان يقبل أن يكون عالماً؛ فلا يخلو أي إنسان من العلم أو من ضده، فإما أن يكون عالماً أو غير عالم، ومستحيل أن تقول: لا هو عالم ولا هو جاهل بقصد رفع النقيضين معاً، لكن إذا قصدت أنه وسط بينهما فهذا شيء آخر؛ أما رفع النقيضين فهو محال عقلاً، ويستلزم رفع النقيضين في مسألتنا هذه -وهما العلو والسفول- أنه لا وجود له تعالى الله عن ذلك. يقول: [فإن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده]. وكذلك الجنة والنار، فالأعلى فيهما الجنة بلا شك؛ لأن سقفها عرش الرحمن، والنار -نعوذ بالله منها- في أسفل سافلين، فأي شيئين يتقابلان نجد أن العلو للأكمل منهما والأشرف، وأن السفول مذموم. فلا يمكن أن تثبت النقيضين معاً أو تنفي النقيضين معاً، ولابد أن تثبت أحدهما وتنفي الآخر، فإن أثبتهما معاً كان هذا من باب إثبات النقيضين وهو محال، وإن نفيتهما معاً كان هذا من باب رفع النقيضين، وهذا محال أيضاً، فتعين أن تثبت له إحداهما، فأيهما تثبت له سبحانه وتعالى؟ تثبت له الصفة التي فيها الكمال اللائق بالله عز وجل، فيتعين إثبات العلو.
  2. شبهات الفلاسفة والمتكلمين في إبطال العلو والرد عليها

     المرفق    
    وهنا يذكر المصنف شبهات الفلاسفة والمتكلمين في إبطال العلو، ويفندها جميعها، فيقول: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، قيل: لولم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها].
    أي أنهم قد يكابرون ويقولون: أنتم ناقشتمونا في قضية عقلية، وهي أن الذات لا تخلو من الشيء أو من ضده، فنحن لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى تلزمونا بثبوت ضدها، فنقول: [إنه لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها]، فالذي لا يقبل الجهات هو شيء غير موجود، وليس له حقيقة، وليس ذاتاً قائمة مستقلة منفصلة عن العالم؛ ثم يقول: [فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج؛ ليس وجوده ذهنياً فقط؛ بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه].
    وللفلاسفة والمتكلمين في ذلك مذهبان: مذهب من يرى رفع النقيضين، فيقول: لا داخل ولا خارج ولا فوق ولا تحت؛ تنزيهاً منه لله بزعمه، فيرفع النقيضين، وهذا محال؛ لأنه لا بد من ثبوت أحدهما، وممن يقول بهذا القول بعض فلاسفة اليونان المتقدمين، ثم أخذها عنهم أهل الكلام، ومنهم الأشاعرة المتفلسفون، ومنهم صاحب المواقف والرازي وغيرهما.
    والطائفة الأخرى قالوا: نحن لا نثبت ذاتاً قائمة مستقلة بنفسها؛ لأننا نقول: وجوده ذهني فقط، وهذا قول فلاسفة اليونان القدماء، ويوجد أيضاً من الفلاسفة المعاصرين من يذهب إلى هذا القول، فهم يقولون: إن الله تعالى مجرد فكرة، ولا وجود له إلا في الأذهان فقط -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وهؤلاء من أكفر طوائف بني آدم، وكل بني آدم وكل العقلاء يكفرونهم، والسبب الذي جعلهم يقولون هذا القول نظرتهم إلى أنهم مضطرون لو أثبتوا أنه تعالى موجود خارج الأذهان في الحقيقة أن يقروا أنه لابد له من صفات، فقالوا: لا يمكن أن يتخيله العقل، ولا أن يتخيل له هذه الصفات، فأنكروا وجود الذات، وجعلوا وجوده مجرد وجود ذهني فقط، وهذا كلام ليس عليه أي دليل؛ لأنه يؤدي إلى أن الذي خلق الموجودات لا يكون موجوداً، وأنه مجرد فكرة تلقاها الناس، ثم كيف تُجمع العقول جميعاً على وجود هذه الفكرة؟! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    وكل العقول السليمة تتفق على أن لها خالقاً قديراً حكيماً عليماً، بحيث إذا سئل الإنسان عن أي شيء من الموجودات، أو عن أي شيء من آثار الموجودات، فبالبداهة يتكلم عن موجد هذه المخلوقات وعن خالقها وعن صانعها، وهو الله سبحانه وتعالى، فالجميع متفقون على موجود كامل الوجود، كامل الصفات، هو الذي أوجد هذه الكائنات، فهذه دلالة على بطلان هذا المذهب الذي لا أساس له، والمفكرون الأورتوبيون المتأخرون لم يقولوا هذا إلا فراراً من سطوة رجال الدين الذين كانوا يعذبونهم ويضطهدونهم، فقالوا: لا يمكن أن ننكر وجود الله؛ لأن العقول والفطر والقلوب كلها تؤمن بالله، فجاء الشيطان فوسوس لهم فقالوا: ننكر وجوده خارج الذهن، فهم من أجل أن يأمنوا من سطوة الكنيسة لم يقولوا: لا يوجد إله؛ لأنهم يخافون من عقوبة الكنيسة، وإن قالوا: هناك إله؛ فليس أمامهم إله، إلا هذا الذي ورد الحديث عنه وعن صفاته في الأناجيل وفي عقيدة الكنيسة الباطلة التي تجعله حالاً في عيسى عليه السلام، والعقل لا يقبل ما قيل في هذه العقيدة؛ فهروباً من ذلك ظهرت النظريات، ومنها الفلسفة المثالية الألمانية التي تقول: إن وجود الإله مطلق ليس له وجود حقيقي، وإنما وجود مطلق داخل الذهن، تبعاً للفلسفة اليونانية القديمة، والذين أظهروا ذلك وتبنوه ونشروه في العالم الإسلامي هم فرقة الباطنية، فيصفونه بوصف الوجود المطلق، بشرط الإطلاق إن وصفوه به، وبعضهم ينفي حتى الوجود المطلق فيقول: لا نقول: موجود ولا غير موجود؛ فلا يوصف بشيء مطلقاً؛ وذلك بسبب إعراضهم عن الوحي وعما شرع الله، فأدى بهم ذلك إلى أن يتخبطوا حتى في البدهيات الواضحة الجلية التي لم يكلفنا الله سبحانه وتعالى أن نبحث فيها، ولم يحوجنا بالنسبة لها إلى تَعَلُّم، بل أوجدها في أنفسنا، فينكرون الفطرة والبداهة، ويأتون بهذه الأباطيل.
    يقول المصنف: [فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك، فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه] فلا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ لأن هناك خالقاً ومخلوقاً، فإذا أثبتنا ذات الخالق سبحانه وتعالى وأنه غير مخالط للعالم وأنه منفصل عنه، وميزنا فقلنا: خالق ومخلوق، فهو خارج هذا العالم.
    يقول: [وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب] أي: أن إنكار هذا الشيء هو إنكار لأمور من أجلى وأظهر الأمور البدهية التي لا تحتاج إلى نقاش عند العقلاء.
    ثم يقول: [فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين] فمهما استدلوا على نفي العلو، فالدليل على مباينة الله -سبحانه وتعالى- للخلق من العقل والفطرة مع ثبوتها بالأدلة النقلية أظهر وأوضح.
    1. اتصاف الله بصفات الكمال يقتضي علوه على خلقه

      ثم يقول رحمه الله: "وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً" فأي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه ولا تستلزم محذوراً، ولا تخالف كتاباً ولا سنة، فالله سبحانه وتعالى أولى بأن تثبت له سبحانه وتعالى، وأي صفة نقص -كالجهل مثلاً فهو نقص حتى في المخلوق- فإنها لا تثبت لله سبحانه وتعالى.
      وإذا كان هناك صفة كمال في المخلوق، لكنها بوجه من الوجوه صفة نقص في الخالق، فإننا لا نثبتها لله عز وجل؛ مثل الزواج؛ فبالنسبة للمخلوق يعتبر صفة كمال، ولو كان عقيماً أو عنيناً لا يتزوج، فإن ذلك نقص في حقه، فإذا كان في الصفة جانب نقص بوجه من الوجوه، فإنها لا تثبت لله تعالى، ولهذا قال تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ))[الإخلاص:1-3] وقال تعالى: ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا))[الجن:3].
      وهذه كلها قواعد عقلية عامة نرد بها على من ينكرون صفات الله سبحانه وتعالى، ثم عند التفصيل ننظر في الصفة.
    2. الإيمان بوجود الله يستلزم الإيمان بعلوه

      ثم ينتقل المصنف رحمه الله إلى الإلزام الآخر يقول: [فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟!] فلا يمكن الإقرار بوجود الله -سبحانه وتعالى- مع نفي علو الله، فالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى يقتضي ويستلزم الإيمان بعلوه، فمن آمن بوجود الله تحتم عليه أن يؤمن بأنه تعالى فوق الموجودات، عالٍ عليها جميعاً.. هذا أمر بدهي في العقول والفطر والأديان.
      ولا تسمعوا لأقوال الجهال، كما قال بعضهم في شريط له: (إذا أنا أطعته فلا يهم أن يكون فوق أو لا يكون فوق، أوله يد أو ليست له يد) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وهذا الكلام أحسن ما يقال في صاحبه أنه جاهل، وإلا فهو مبطل معاند مخادع ماكر، وهو مثل من يقول: (لا يضرني مادمت أعبده أنني لم أعرفه).
      فسبحان الله! تعبد من لا تعرف؟! وما عُبدت الأصنام، وما عبدت الأضرحة والقبور، وما عبد البشر، وما عبدت الأحجار والكواكب، إلا لأن عُبَّادها تخيلوا فيها صفات الكمال.
      فمن يعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- يخلق ويرزق وينفع ويضر ويحيي ويميت، فإنه يعبد الله، ومن يعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات يفعل ذلك، فإنه سوف يعبده من دون الله أو مع الله، ولما اعتقد عباد الشمس والكواكب أن للشمس وللكواكب تأثيراً، عبدوها، ولما رأى عباد النار قوة النار، وتخيلوا لها تأثيراً لضيائها وإحراقها، عبدوها.
      وعلى قدر معرفة المعبود تكون عبادة العابد، وأعظم ما في ديننا وأشرفه معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فيجب على كل مسلم أن يعرف صفاته سبحانه وتعالى، ويعبده وحده حق عبادته بناءً على تلك المعرفة، فالذي لا يعرف الله تعالى حق معرفته ولا يقدره حق قدره، فإنه لن يعبده حق عبادته.
      فقوم نوح عليه السلام -وهم أول من أحدثوا الشرك في دين الله، وعبدوا الأصنام- كانوا لا يعرفون الله ولا يعظمونه؛ لجهلهم بصفاته، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام في خطابه لهم: ((مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا))[نوح:13].
      وكذلك اليهود ما قدروا الله حق قدره، وقالوا في الله ما قالوا؛ قال تعالى عنهم: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام:91].
      بل كل من يعصي الله سبحانه وتعالى، فإنه لم يعرف الله على الحقيقة، ولو كان حقاً يؤمن بالله على الحقيقة، ويعلم أن الله تعالى مطلع على كل شيء، ويؤمن بوعده ووعيده، وأنه سبحانه الرقيب الحفيظ، ما كان له أن يعصيه؛ قال تعالى: (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ))[فاطر:28]^.
      فمن هنا يتضح أن كلام هذا الذي ينتقص العلم بصفات الله هراء لا يحتاج إلى الرد، فإنه لا يمكن الإقرار بوجود الله تعالى إلا بإثبات صفاته، ومن أظهرها وأجلاها إثبات علوه سبحانه وتعالى.
      ونحن حين ندخل في هذه القضايا التي فيها الرد على هؤلاء المتكلمين نجد فيها صعوبة لا يمكن للأذهان أن تحتملها إلا بمشقة، فالإنسان العادي لا يمكن له أن يقرأ في كتب الفلاسفة أو كتب الأشاعرة، ومن أوضح وأبسط كتبهم شروح جوهرة التوحيد في عقيدة الأشاعرة، فإنها تدرس في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فإذا قرأت شيئاً منها، وجدت كلاماً لا يمكن أن يفهم، على عكس ما جاءت به نصوص الشرع من وضوح ويسر.
      ولما كتب علماء السنة الكتب المطولة في الرد على علماء الكلام؛ تعرضوا لتلك المباحث الصعبة التي شحن بها الفلاسفة والمتكلمون كتبهم؛ لأنهم كانوا مضطرين إلى أن يدفعوا شراً قد وجد، كما في كتاب درء تعارض العقل والنقل لـشيخ الإسلام رحمه الله، وأمثال ذلك؛ فهم يكتبونها ويستدلون بهذه الأدلة العقلية لإبطال أقوال المخالفين؛ لأن أقوال هؤلاء المتكلمين عامة ظاهرة منتشرة متلوة مدروسة، لو كان الأمر مقتصراً على فلاسفة اليونان لقلنا: قد بادوا واندثروا وذهبوا، وكذلك لو كان مقتصراً على شذاذ، لقلنا: لا نحتاج إلى الرد عليهم، لكن ونحن في هذا العصر ما زال هناك من ينكر الصفات، ويحتج بحجج أولئك المتكلمين كـالمعتزلة والأشاعرة، وربما لقيك أحدهم فجادلك وقال: كيف تثبت العلو وهو يستلزم الجهة والحيز؟!
      ولذلك كان لابد أن نفقه ونفهم الأدلة وإن كانت عقلية بحتة؛ لأننا نحتاج إليها حين نقرأ كتب هؤلاء أو نقابلهم، وعلى كل حال، فالأدلة العقلية عند أهل السنة والجماعة ظاهرة وواضحة ولله الحمد.
    3. نفي العلو يستلزم تكذيب الرسل عليهم السلام

      إن من لم يثبت علو الله لم يصدق رسل الله وأنبياء الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم جاءوا بإثبات صفات الله، ومن أجلاها وأوضحها إثبات علوه سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن نكون من المؤمنين برسل الله وبالكتب التي أنزلت عليهم، إلا إذا آمنا بما فيها، ومن ذلك العلو؛ خلافاً لمن جعل الأخذ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من أصول الكفر -نعوذ بالله- وقال: (أصول الكفر ستة: ومنها الأخذ بظواهر الكتاب والسنة) وهذه مصيبة كبيرة، وكيف يقال هذا عن الكتاب الذي أنزله الله لهداية العالمين؟! وقد قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ))[الإسراء:9].. ((هُدًى لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة:2]... ((هُدًى وَرَحْمَةً))[الأعراف:52] وكم جاء وصفه بأنه كتاب هداية! فكيف يكون الأخذ بظواهره من أصول الكفر؟!
      إن الإنسان بين أمرين: إما أن يؤمن بعقيدة السلف فيكون مؤمناً بالله، وإما أن يؤمن بضدها ونقيضها، فيكون قد آمن بشيء آخر غير الله، كما ذكر ذلك بعض السلف؛ حين قال له مناظره: إنه لا يؤمن بعلو الله، قال له: أنت تعبد شيئاً آخر فاطلبه! فمن قال: إنه عرف الله وعبده لكنه يزعم أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، وأنه ليس له وجه ولا يد، فقد عبد شيئاً آخر، فليطلبه وليبحث عنه، والمنكرون لصفات الله الذين يزعمون أن هذا الإنكار تنزيه، إنما يعبدون عدماً، والممثلة الذين يشبهون الله بخلقه يعبدون صنماً؛ لأنهم قالوا: إن وجهه كوجه المخلوقات، ويده كيد المخلوقات، وقدمه كقدم المخلوقات، فهؤلاء لا يعبدون الله بل يعبدون صنماً، أما من يعبد الله سبحانه فهو الذي يعرفه حق المعرفة كما جاء في كتابه سبحانه، وكما ذكر ذلك رسله عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بإثبات علوه سبحانه تعالى.
    4. معاضدة الفطرة والعقل السليم للنصوص الشرعية في إثبات العلو

      يقول المصنف موضحا تعاضد العقل والفطرة والنصوص الشرعية على إثبات العلو: [فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المُحْكَمَة على علو الله على خلقه؟!].
      فهذه ثلاثة أدلة متضافرة: العقول، والفطر، والنصوص، ثم أخذ يذكر هذه الأدلة المحكمة المصرحة بعلو الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لا تجد عاقلاً في أي مكان وفي أي ملة إلا وهو يثبت أن الله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات؛ إلا من أُفْسِدَتْ فطرته؛ لأنه كما في الحديث: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه... } فيولد الإنسان على الفطرة، لكن الآباء يجعلونه على أي عقيدة من العقائد الأخرى، فالطفل أول ما يتصور ويتبادر إلى ذهنه بالفطرة والعقل السليم أن الله فوق كل شيء؛ ففطرته لا تثبت أنه في كل مكان، ولذلك يقول: والله العظيم..! ويرفع يده فوق رأسه، ويقول: الله مطلع علينا..! ويرفع يده إلى السماء.
      وقد حدثنا أحد المشايخ المعروفين في مصر أن أباه رحمه الله كان من دعاة التوحيد، ومن الدعاة إلى عقيدة السلف، ومن أنصار السنة، فجاء الصوفية والمخرفون وقالوا: نشكو هذا إلى الشرطة؛ لأنه يفسد عقائد الناس، ويقول: (إن الله فوق المخلوقات)، وحين كان الضابط يكتب الشكوى، قالوا: إنه يفسد العقائد، فكتب ذلك، ثم قال لهم: ماذا يقول؟ قالوا: يقول: إن الله في السماء، فقال الضابط: (أمال هو فين يا شيخ؟!) فهذه الفطرة نطقت.
      وشهادة الفطرة السليمة تكون في الأوقات التي لا يحجب الإنسان فيها حجاب من الحجب المفتعلة، وتظهر وقت الحاجة والفزع، فهذه الفطرة في وقت الحاجة والفزع تظهر عند المشركين الذين خاصموا وكابروا وأنكروا وأشركوا بالله، قال تعالى: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ))[العنكبوت:65] حينها تراهم يتجهون كلهم إلى الله، ويرفعون أبصارهم إلى السماء.
      ولما صدم المنكرون للعلو بهذه الحقيقة، قالوا رداً منهم على هذه الفطرة: إن الشرع جعل السماء قبلةً للدعاء؛ كما جعل الكعبة قبلة للصلاة..!
      وهذا كلام غير مقبول أصلاً، لأن هؤلاء الذين يتوجهون إلى السماء في دعائهم لم يكونوا من المتعبدين بأي شرع، وإنما تحركت الفطرة نفسها بدون إرادة منهم واتجهت إلى الله خالقها سبحانه وتعالى، وفي تلك اللحظة لا يوجد مجال للمكابرة والعناد، ولذلك يتجه الناس حينها إلى الله، ويدعونه الله سبحانه وتعالى بجميع اللغات، وكلهم يتجهون إلى جهة واحدة وهي العلو.
      فالله تعالى عالٍ على جميع المخلوقات، كما تشهد بذلك العقول والفطر السليمة معاضدة للنصوص الشرعية المثبتة لذلك.
  3. خلاصة الدلائل على علو الله تعالى

     المرفق    
    ثم ذكر المصنف رحمه الله النصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه فقال: [أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات؛ كقوله تعالى: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50].
    الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة؛ كقوله: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:61].
    الثالث: التصريح بالعروج إليه؛ نحو: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4]،
    وقوله صلى الله عليه وسلم: {فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم} .
    الرابع: التصريح بالصعود إليه؛ كقوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10].
    الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه؛ كقوله تعالى: ((بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))[النساء:158]. وقوله: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ))[آل عمران:55].
    السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً، وقدراً، وشرفاً؛ كقوله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[البقرة:255].. ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سبأ:23].. ((إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ))[الشورى:51]
    ]. اهـ.
  4. التصريح بالفوقية مقرونة بالأداة

     المرفق    
    تضافرت الأدلة الكثيرة من نصوص الكتاب والسنة على إثبات العلو لله تعالى، فمن ذلك: [التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) مثل قوله تعالى: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]] فهذه الآية تؤكد أن الذات الإلهية فوق هؤلاء الذين يخافونها، ففيها تصريح لا يحتمل التأويل بأن الله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات.
  5. التصريح بالفوقية مجردة عن الأداة

     المرفق    
    [الثاني: ذكرها -أي: الفوقية- مجردة عن الأداة] والشيء إذا جاء بالأداة وبغير الأداة يتضافر على معنى واحد، كما في قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18] وهذه الآية قال فيها المؤولون: إنها تحتمل التأويل، بأن يكون القهر قهر الشرف وقهر المكانة، والصحيح: أن أول ما تدل عليه هو فوقية الذات الإلهية، ثم بعد ذلك يأتي ما ذكروه، وهو لازم للفوقية وتابع لها، فهو سبحانه مع غلبته على خلقه وتصرفه في عباده يكون أيضاً فوقهم، فتكون حقيقة القهر أظهر مع إثبات حقيقة الفوقية، ولا مجاز في أي منهما.
  6. قصة المعراج دليل على العلو

     المرفق    
    [الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))[المعارج:4]] والعروج ما لا يحتمل في لغة العرب الضد، فعندما تقول: (عرج فلان) لا يمكن أن يتصور أنه نزل، فهناك ذوات مخلوقة منها الملائكة والروح تعرج إلى الله سبحانه وتعالى، فتتجه من الأرض إلى السماء.
    ومن ذلك معراج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أظهر الأدلة على علو الله سبحانه وتعالى، وإن كابر من كابر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس، ثم ركب البراق مع جبريل عليه السلام، وعرج به إلى السماء الدنيا فاستفتح، ففتح لهما إلى من فوقها، حتى وصلا إلى السماء السابعة، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى؛ فهذا العروج إليه سبحانه دليل على أن علوه علو حقيقي، ولا يمكن أن يؤول لأنه لا يقبل التأويل بأي حال من الأحوال.
    حتى إن الرازي لما تكلم عن عباد الله والتفاوت بينهم، قال: (إن الله تعالى رفع محمداً صلى الله عليه وسلم حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وخسف بـقارون الأرض) هذا كلام الرازي وهو أبرز من ألف في نقض الصفات، وأقوى من جمع الحجج في ذلك -وقد أبطلها جميعاً شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه نقض التأسيس- فظهر في كلامه إقرار الفطرة بعلو الله سبحانه وتعالى؛ فأخذ يقارن بين حالين؛ بين حال محمد صلى الله عليه وسلم في لحظة التكريم التي لم يحظ بها أي إنسان، وبين حال عدو الله قارون في لحظة الإهانة والخزي.
    ومن ذلك الحديث الصحيح المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله تعالى: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: جئناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون} هؤلاء الملائكة ذوات حقيقية لا يشك في ذلك أيُّ مؤمن، فتعرج وتنتقل من جهة السفل (من الأرض) إلى جهة العلو (إلى الله سبحانه وتعالى) فيسألهم ويخاطبهم.
    وهذا لا يقبل التأويل بأي شكل من الأشكال.
  7. التصريح بصعود الأعمال الصالحة إلى الله سبحانه وتعالى

     المرفق    
    [الرابع: التصريح بالصعود إليه أيضاً؛ كقوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ))[فاطر:10]] والرفع يؤكد الصعود، وتقديم الضمير أو الجار والمجرور أقوى من تأخيره، فقوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5] أقوى مما لو قلت: (نعبدك)، فالمعنى: إليه وحده يصعد الكلم الطيب؛ فهذه دلالة صريحة على أن ذات الله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات.
    والكلم الطيب أعم من مجرد أي كلام يقوله الناس؛ فأصل كل الطاعات الكلام وأصل الإيمان والدين بأكمله: الكلام، ولهذا منَّ الله -سبحانه وتعالى- على الإنسان بأنه علمه البيان، قال تعالى: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ))[الرحمن:1-4] فإن الإنسان إذا جرد من النطق والفهم أصبح كالدابة، ولهذا شبه الله تعالى الكفار بذلك، قال تعالى: ((إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا))[الفرقان:44]؛ وذلك لأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، وهم يعترفون بذلك يوم القيامة، قال تعالى: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10] فمعنى قوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10]: أن كل الأعمال الصالحة تصعد إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يحتمل التأويل.
  8. التصريح برفع بعض المخلوقات إلى الله سبحانه وتعالى

     المرفق    
    [الخامس: التصريح برفع بعض المخلوقات إليه؛ كقوله تعالى: ((بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))[النساء:158] وقوله: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ))[آل عمران:55]] أي أن الله رفع عيسى عليه السلام، وألقى الله تبارك وتعالى شبهه على المجرم الذي يقال: إن اسمه يهوذا الأسخريوطي، وهو الذي دل اليهود على مكان عيسى عليه السلام، فقد كان أحبار اليهود الكبار الذين عندهم التوراة يعلمون صفات عيسى عليه السلام، وأنه رسول وأنهم مأمورون بتصديقه، لكنهم مع ذلك قالوا: نسلمه للحاكم الروماني، ونستريح من وعظه للناس وإنكاره ما نحن عليه من المنكرات؛ يعطون الطاعة والولاء والانقياد لهذا المشرك قيصر، ويقفون ضد هذا الذي هو منهم، وهو رسولهم الذي أرسله الله إليهم..!
    فقال لهم القائد الروماني: هذا من أبناء دينكم تحاكمونه أنتم، فقالوا: إن هذا يريد أن يؤسس ملكاً ضد مولانا قيصر -وكانت الدولة الرومانية تضم عدة أقليات ومجموعة أديان كثيرة- فجاءوا للقبض على عيسى عليه السلام، وقدد لهم على مكانه يهوذا الأسخريوطي، لكنهم أخذوا يهوذا الأسخريوطي الذي ألقي عليه شبه المسيح عليه السلام، وذهبوا به ليحاكموه، وهو يصرخ ويصيح ويقول: لست أنا، فتقول اليهود: لا تصدقوه، فأخذوه وصلبوه وقتلوه، وانتهى الأمر، ورفع الله عيسى عليه السلام إليه، وكان ذلك المجرم أحد تلاميذ عيسى عليه السلام، وكانوا اثني عشر من الحواريين وانضم إليهم، فكان الثالث عشر الذي يسمونه الثالث عشر المشئوم، وما زالوا يتشاءمون من ذلك العدد إلى اليوم.
    فالله تبارك وتعالى قد رفع إليه ذاتاً حقيقية موجودة وهو عيسى عليه السلام، وقد رآه الناس بأعينهم، وتكلم مع البشر وخاطبهم، ولا ينكر ذلك عاقل، وهذا مما لا يحتمل التأويل.
  9. التصريح بالعلو المطلق

     المرفق    
    [السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وشرفاً]. وقد ذكر الشارح مراتب العلو ونص عليها؛ لأن أهل البدع وأهل الضلال يقولون: العلو علو المكانة وعلو الشرف ولا يثبتون علو الذات، فيفرقون بين نوع ونوع، ويتركون ما هو أصرح وأولى، ويذهبون إلى الآخر وإن كان حقاً، فقول الله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[البقرة:255] يدل على أنه سبحانه وتعالى هو العلي قدراً، والعلي شرفاً، والعلي ذاتاً، فكل اسم أو صفة لله تعالى بالعلو، فالمقصود منها علو الذات مع علو المكانة والشرف والقدر..الخ، ولا تعارض بين هذه الأنواع من العلو، فإذا قال المؤولون: علو المكانة أو علو الشرف يستلزم نفي علو الذات، قلنا: لا يلزم ذلك؛ إذ أننا حين نقول: الوزير أعلى من المدير، لا يستلزم ذلك أن يكون الوزير في الدور الأرضي من المبنى والمدير في الدور الأعلى، بل يدل على عكسه حتى يكون العلو ثابتاً بجميع أنواعه، وإن كان ذلك لا يلزم في هذا المثال.
    والمقصود أن إثبات علو القدر لا ينفي علو الذات، وغاية ما في الأمر أنه قد لا يدل عليه، فقوله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[الشورى:4] وقوله: ((هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[الحج:62] ((إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ))[الشورى:51] وغيرها من الأدلة فيها دلالة على ذلك، خلافاً للذين يؤولون ذلك.
    وهذه الأدلة وما سيأتي بعدها يؤولها أهل البدع، ونحن نقول: إذا أولنا هذا الصفات جميعاً وهذه الآيات جميعاً، فما الذي يبقى من كتاب الله سبحانه وتعالى؟!
    ونذكر هنا قاعدة مهمة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة الحموية، في هؤلاء المؤولين؛ قال رحمه الله: لو كان التأويل حقاً، لكان ترك الناس بغير قرآن وسنة أرحم وأرفق بهم؛ لأنهم بمقتضى ذلك قد كلفوا بشيئين: التكليف الأول: أن يعرفوا الله تعالى كما تدل عليه البراهين العقلية لديهم.
    والتكليف الآخر: أن عليهم إذا دعتهم الرسل إلى شيء أن يجهدوا عقولهم وفكرهم حتى يؤولوه ويخرجوه إلى ما يوافق عقولهم، وذلك يقتضي أن لا فائدة في إرسال الرسل، وما أتوا به من آيات كثيرة.
    ولا تكاد تقرأ عدداً من الصفحات في تفسير الرازي إلا وتجد تأويلاً؛ فما فائدة الوحي والقرآن؟! فقد كان بإمكاننا أن نستغني عن القرآن ونستغني عن السنة، ولا يقول ذلك عاقل ولا مؤمن.
    فهذا من أصول الرد عليهم، وهو أنه لو كان التأويل حقاً وما يذهبون إليه من التأويل صحيحاً، لكان ترك الناس بلا قرآن ولا سنة أرحم وأفضل، فكم من الآثار والأدلة في إثبات العلو يحتاجون أن يؤولوها..! ولذلك يؤولون الألوف من الأدلة من أجل أن يصلوا إلى أن الله -تعالى الله عن قولهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ويأتون بتأويلات غريبة؛ كـالغزالي حين تعرض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حتى يضع الجبار فيها قدمه} قال: الجبار اسم ملك يخلقه الله في ذلك الوقت؛ مع أن الحديث واضح وصريح؛ فإذا كان الله عز وجل يريد أن نتعبده على أنه ليس له قدم، ولا يضعها في النار، فما كان هناك من حاجة أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ويجعلنا في حيرة حتى نأتي بهذه التأويلات البعيدة.
    كل ذلك يدل على أنه يجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذه الأدلة الصريحة الصحيحة.