المادة كاملة    
إن الله سبحانه وتعالى عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، وهذا معلوم بالعقل والفطر السليمة، وقد دلت على ذلك الأدلة الشرعية، وهو ما يثبته أهل السنة والجماعة. أما أهل الضلال من الجهمية ومن حذا حذوهم من الأشاعرة فقد أنكروا علو الله تعالى؛ وقالوا: إنه يلزم من ذلك إثبات الجهة، مع أن ذلك ليس بلازم، ثم انقسموا إلى فريقين: فمنهم من قال: إن الله في كل مكان، ومنهم من قال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه... ولازم قولهم هذا إنكار وجود الله تعالى.
  1. إثبات الفوقية والعلو لله تعالى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18]، ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: {والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله}، وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرّه على ما قال وضحك منه، {وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله:
    شهدت بإذن الله أن محمداً            رسول الذي فوق السماوات من علُ
    وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما            له عمل من ربه متقبلُ
    وأن الذي عادى اليهود ابن مريم            رسول أتى من عند ذي العرش مرسلُ
    وأن أخا الأحقاف إذْ قام فيهـم            يجاهد في ذات الإله ويعدل
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد
    }.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي}، وفي رواية: {تغلب غضبي} رواه البخاري وغيره.
    وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه، قال: {بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نورٌ، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: ((سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ))[يس:58]، فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه}]
    اهـ.
    الشرح:
    ذكر المصنف رحمه الله تعالى ما يدل على إثبات الفوقية لله تعالى، وأنه فوق العالمين أجمعين، ودلائل الفوقية هي من الشواهد والدلائل على علو الله سبحانه وتعالى، فإن الوصف بالفوقية هو إثبات لعلوه سبحانه وتعالى، وسيأتي إثبات الاستواء وإثبات النزول وغير ذلك، وكلها تدل على أنه سبحانه وتعالى متصف بصفة العلو، وأنه فوق المخلوقات جميعاً.
    والعلو: هو الصفة الشاملة التي يدركها كل أحد، فإن كون الله سبحانه وتعالى فوق العالم عالٍ عليه، أمر يدركه كل ذي عقل، فهو معلوم بالعقل والفطرة، وستأتي الأدلة السمعية على ذلك مفصلة، فمنها ما فيه التصريح بالعلو، ومنها ما فيه التصريح بالفوقية، ومنها ما فيه التصريح بغير ذلك، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الأدلة على علو الله تعالى تعد بالمئات بل بالآلاف، ومع ذلك فقد كابر فيها من كابر من الذين أعمى الله تبارك وتعالى بصائرهم عن الحق فأنكروا ما دلت عليه تلك الأدلة.
    1. الرد على الجهمية في إنكارهم للعلو وبيان من تأثر بهم

      وأول من أنكر علو الله تعالى وأنه فوق العرش هم الجهمية، وهي الفرقة المنسوبة إلى جهم بن صفوان، وتكاد تكون منقرضة، فلا توجد اليوم فرقة تنتسب إلى جهم في كل ما قاله وتسمي نفسها الجهمية، بل كل الفرق تتبرأ من جهم، لكننا إذا تأملنا كلام جهم، فإننا نجد أن بعض الفرق التي تدعي منابذته وعداوته والبراءة منه، هي متفقة معه في أصول كلامه مع تعديل وتحوير في مضمون كلامه، ولذلك فلا غرابة أن يؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب بيان تلبيس الجهمية، ويرد عليهم في كثير من كتبه كـالفتاوى وغيرها، وممن رد عليهم ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية والإمام الذهبي في كتابه العلو وغيرهم، فمن يقصدون بـالجهمية؟
      إن الفرقة التي أخذت عن الجهمية أصولها ومبادئها، وإن كانت قد حورت وعدلت وغيرت واستنبطت أدلة جديدة، وظنت أن هذا هو المنهج الحق، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وأن الأدلة العقلية والنقلية تؤيده -هي فرقة الأشعرية .
      وكتاب شيخ الإسلام بيان تلبيس الجهمية له اسم آخر وهو نقض التأسيس، فهو رد على كتاب تأسيس التقديس الذي ألفه الفخر الرازي، وقد كان الرازي إمام الأشعرية في زمانه، وله مؤلفات في الأصول والتفسير وعلم الكلام والفلسفة، وقد كان يكتب ويؤلف بغزارة كما في كتابه التفسير الكبير واسمه: مفاتيح الغيب، وكان يعتمد في تأليفه على قريحته وفكره، لكنه ضعيف للغاية في علوم الحديث والسنة، حتى إن كلامه في التأسيس كلام غريب مريب، يدل على جهل شديد بعلم السنة، وهذا دأب كل من ضل عن الطريق القويم.
      إذاً: الفخر الرازي -كمثال- ورث هذا القول -وهو إنكار علو الله تعالى- عن الجهمية وأورثه للأشعرية من بعده، ومن قبله كانوا يقولون بذلك أيضاً كما في رسالة أبي محمد الجويني الأب رحمه الله، الذي رجع عن هذا القول، وكتب رسالته الثمينة القيمة التي طبعت بعنوان: النصيحة في صفات الله عز وجل .
    2. أثر الفخر الرازي على المذهب الأشعري

      لقد كان ظهور الرازي مرحلة جديدة من مراحل المذهب الأشعري، انصرف بعدها المذهب إلى التجريدات الفلسفية العميقة، بعد أن لم يكن كذلك، كما نجد مثلاً في كلام أبي المعالي الجويني الابن، ففيه شيء من الوضوح وشيء من الدلائل العقلية مع الدلائل النقلية، وما أشبه ذلك، أما بعد أن جاء الرازي فإنه أوغل بالقوم في المسائل العقلية والأمور الفلسفية، وكانت المشكلة الكبرى التي أحدثها كتاب التأسيس وما بعده أن آل الأمر بـالأشعرية والماتريدية وبمن تأثر بـالفخر الرازي إلى أن يبحثوا عن مسألة: هل الذين يثبتون علو الله، وأنه فوق المخلوقات؛ هم كفار أو مسلمون؟ وهل يعذرون بالجهل لأنهم أخذوا بظواهر الأدلة أم لا يعذرون؟
      بل صرح بعضهم بأن أكثر العامة كفار؛ لأنهم يثبتون علو الله، وأنه فوق مخلوقاته، قالوا: لأن هذا إثبات للجهة والمكان، وهو دليل على الجهل، والجهل في العقيدة لا يجوز، فكفروا بذلك عامة المسلمين - نسأل الله العفو والعافية-.
      وإن مما يكفي لنقض كلام الرازي ومن اتبعه: ما حدث للرازي نفسه قبل وفاته، فإنه صرح بهذه المسألة كمثال للمسائل التي يجب على الإنسان أن يرجع فيها إلى الحق ويترك الباطل، فقد قال قبل موته: (لقد تأملت المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أن أفضل الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، واقرأ في النفي قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11]).
      فهذا كلام واضح وصريح في أنه قد رجع إلى المذهب الحق في آخر حياته؛ بل إنه دعا الله وهو على فراش الموت أن يغفر له خوضه في علم الكلام؛ فقد صرح بأن كل تلك الطرق والمناهج لا خير فيها ولا حق، وإنما فيها الضلال والشر، وأن طريقة القرآن هي الحق، وذكر مثالاً في الإثبات قوله تعالى: : ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، وهو ما نقضه نقضاً طويلاً في تفسيره في سورة الأعراف آية (54) كما سيأتي.
  2. استدلال الرازي على نفي الاستواء والرد عليه

     المرفق    
    يقول الرازي في تفسير سورة الأعراف: "أما قوله تعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))[الأعراف:54] فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقراً على العرش، ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية".
    الآية ليس فيها كلمة (استقر) أصلاً، إنما فيها (استوى)، ثم إنه حين ذكر كلمة (استقر) حملها على المعاني واللوازم الباطلة المذمومة، التي تستلزم التشبيه أو التمثيل؟!
    1. الأدلة العقلية التي ذكرها الرازي لنفي حقيقة الاستواء والرد عليها

      يقول: "ويدل على فساده -أي على أنه ليس استقراراً وليس استواء حقيقياً- وجوه عقلية ووجوه نقلية".
      أقول: أما من الناحية العقلية فلا نعجب، لأننا نعلم أنهم يخوضون فيما يظنون أنه العقل خوضاً بعيداً، لكن العجب من قوله: ووجوه نقلية؛ ولذلك فسنهتم بها أكثر، لنعلم تناقضهم وتخبطهم.
      وسنذكر بعض الوجوه العقلية التي ذكرها، فمن ذلك قوله: "لو ثبت كونه تعالى في حيز، لكان: إما أن يكون أعظم من العرش، أو مساوياً له، أو أصغر منه" تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
      لقد أتى بكلمة (حيز) وهذه الكلمة لم يذكرها الله تعالى ولا نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرها أهل السنة، بل إنه يفترض من عند نفسه أن ما ذكره الله تعالى أو نبيه صلى الله عليه وسلم أو أثبته أهل السنة يعني الحيز، فقد تبادر ذلك إلى ذهنه ثم بنى عليه الاحتمالات الفاسدة، ثم قال: "فإن كان الأول كان منقسماً؛ لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل عن العرش" تعالى الله عن ذلك!
      ثم تكلم عن الجهة فقال: "إن العالم كرة، وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق!" ومن حججه يقول: "لو كان إله العالم فوق العرش، لكان إما مماساً للعرش، أو مبايناً له لبعدٍ متناهٍ أو بعدٍ غير متناهٍ، والأقسام الثلاثة باطلة، فالقول بكونه فوق العرش باطل".. سبحان الله! لقد ذكر الله تعالى أنه فوق العرش وأنه مستو عليه، وهو يقول: إن هذا باطل!!
    2. الأدلة النقلية التي ذكرها الرازي لنفي حقيقة الاستواء لله تعالى والرد عليها

      ثم ذكر بعد ذلك الدلائل النقلية التي تدل -كما زعم- على أن الله تعالى ليس مستوياً على عرشه، وليس فوق المخلوقات. يقول: "وأما الدلائل السمعية فكثيرة، أولها: قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))[الإخلاص:1]، فوصف نفسه بكونه أحداً، والأحد مبالغة في كونه واحداً، والذي يمتلئ منه العرش، ويفضل عن العرش، يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحداً".
      لقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وضرب بهذا الكلام مثالاً لتناقضهم وبعدهم عن فهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن من يرد قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] بقوله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))[الإخلاص:1]، لا يفقه في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله شيئاً، وإنما هي تمحلات عقلية باطلة.
      وكلام الرازي هذا لا يقوله عاقل، ويلزم منه ألا يكون الله سبحانه وتعالى شيئاً، أو يكون -كما هو في مذهبهم- الجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ أبداً، كما يقولون: إن الأشياء تنتهي إلى جزء لا يتجزأ أبداً، فيكون هو الرب! تعالى الله عن ذلك! لكن إذا افترضنا أنه أكبر من ذلك -وهو سبحانه وتعالى العلي الكبير وهو أكبر من كل شيء- بطل كلامهم هذا.
      والذي دفعهم إلى هذا الاستدلال هو قياسهم للخالق عز وجل الذي ليس كمثله شيء بالمخلوقات، وهو استدلال لا يقره العقل أبداً.
      ثم يذكر الرازي: دليلاً آخر، فيقول: "ثانيها: أنه تعالى قال: (( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] فلو كان إله العالم في العرش؛ لكان حامل العرش حاملاً للإله".
      الله تعالى يقول: (( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ))[الحاقة:17] ولم يقل: ويحمل ربك.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!! فالعرش هو المحمول، أما الله تعالى فإنه مستغن عن العرش وما دونه، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وهو الذي تقوم المخلوقات وتثبت بحكمته وبصنعته المتقنة سبحانه وتعالى، وليس هو المحتاج إليها.
      فمن يرد قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أو قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]، بقوله: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]، فلا شك أنه يضرب كلام الله بعضه ببعض بلا حجة ولا برهان من عقل سليم.
      ثم يأتي بدليل عجيب فيقول: "وثالثها: أنه تعالى قال: ((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ))[محمد:38]، فحكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة".
      ويقال له: من الذي أثبت له المكان والجهة؟ نحن إنما قلنا: إنه استوى، فهو ينفي شيئاً لم يقله من أثبت الاستواء، والآية ليس فيها إثبات للمكان أو الجهة، فهو إنما أتى من قبل فهمه الخاطئ القاصر للآية. ثم إن كونه تعالى غنياً أيجعلنا ذلك نرد استواءه على العرش، وأنه عالٍ على المخلوقات، وأنه العلي الكبير، فنضرب صفة بصفة وكلاماً لله تعالى بكلام، ودليلاً بدليل ؟ هذا هو التناقض والهوى.
      يقول: "ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام، لم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23] ففي المرة الأولى قال: ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ))[الشعراء:24] وفي الثانية قال: (( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] وفي المرة الثالثة قال: ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ))[الشعراء:28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية".
      ومعنى ذلك: أن موسى عليه السلام لما سأله فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين؟ كأنه حاد عن الجواب! وكأن القوم يصححون حجة فرعون على موسى عليه السلام؛ قال يقولون: لأن (ما) يسأل بها عن الماهية، وهي حقيقة الشيء التي يختص بها عن غيره، فقد سأل فرعون عن ذلك، فعدل موسى عن الجواب ولم يجبه عن سؤال: ما هو رب العالمين؟ وإنما قال: ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ))[الشعراء:24].
      وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن قول فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ كان منه على سبيل الإنكار، بدليل قوله تعالى عنه: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38]، فقوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ يعني: ليس هناك إله مطلقاً، ولم يكن على سبيل الاستفهام عن الماهية كما يزعمون، فالخطأ أنهم لم يفهموا كلام الله تعالى ولم يفهموا لغة العرب، فإن اصطلاح وضعه المناطقة في القرن الثالث والرابع وما بعده، أما موسى عليه السلام وفرعون فلم يكونوا يعرفون المنطق ولا الماهية، وكل العالم متفقون على أن الله سبحانه وتعالى لا تعلم ذاته وإنما تعلم صفاته، حتى المنكرون الجاحدون من الجهمية والفلاسفة يجزمون على أن ذات الله تعالى لا تعلم، إذاً ليس المقام مقام سؤال وجواب عنها.
      فقول موسى عليه السلام: ((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] .. ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا))[الشعراء:28] هو تعريف لله تعالى بصفته، وكأنه يقول: كيف تنكره وتستبعده وتجحده وهو الذي خلقك وخلق أولئك المخاطبين الذين معك؟ ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[الطور:35-36]، فالذي خلقكم هو الذي أدعو إليه. فكان كلام فرعون للإنكار، وكان جواب موسى عليه السلام للإلزام والإقرار والإفحام، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أعطى الرسل جميعاً من قوة الحجة والإلزام ما يفحمون ويلزمون به كل من ناظرهم، كما ناظر إبراهيم الخليل عليه السلام ذلك الملك، فغلبه وأفحمه وقطع حجته، قال تعالى: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))[البقرة:258]، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم وصالح وشعيب وهود، وكل الرسل أعطاهم الله تبارك وتعالى قوة الحجة والبرهان فلا يُغلبون أبداً.
      وقد سأل موسى عليه السلام ذلك أول ما أوحى الله تبارك وتعالى إليه، فقد دعا الله عز وجل أن يشرح له صدره وييسر له أمره، وقال: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))[طه:27-28] أي: لتكون كلمتي قوية وحجتي ساطعة ونيرة، وكان له ذلك بلا ريب، ولذلك لجأ فرعون إلى الاستعانة بالسحرة وقال: لعل في ذلك مخرجاً، لأنه رأى أمامه آيات بينات لا يملك معها إلا أن يستعمل السحر.
      يقول: "وأما فرعون لعنه الله فإنه قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى))[غافر:36-37]، فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة هو دين موسى وسائر جميع الأنبياء، وأن وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة".
      هذا هو استدلال هؤلاء الأئمة الكبار الذين لهم مؤلفات في علوم كبيرة!! لكن هذه هي عاقبة العقول التي لم تهتد بنور الله ولم تتبع الوحي الذي أنزله.
      يقول: يتبين لنا من هذه المناظرة أن وصف الله تعالى بكونه الخالق فقط دون إثبات العلو والاستواء هو دين الرسل، وأن إثبات أنه تعالى فوق العالم عالٍ على المخلوقات هو دين فرعون ودين الكفرة! وما هو الدليل؟ قال: لأن فرعون قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى))[غافر:36-37]، فما دام فرعون يريد أن يبني صرحاً فيطلع إلى ما فوق السماء، فهو يعتقد أن الله تعالى في السماء، فمن يعتقد ذلك فهو على دين فرعون وإخوانه الكفرة.
      مع أن فرعون قال بعد ذلك: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:37]، فدل ذلك على أن موسى قال له: إن الله في السماء، فقال: يا هامان ابن لي صرحاً، ثم قال: لا تفعل؛ لأنه كذاب، ففرعون هو الذي ينكر العلو، وإنكاره للعلو إنما هو بلسانه وإلا فإنه في الحقيقة يؤمن بالله: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14]. لقد قال موسى عليه السلام لفرعون: إن الله سبحانه وتعالى هو: ((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26]، وقد يكون صرح له بالعلو أو لم يصرح، فإن هذا لا يقتضيه؛ لأن كل من يدعو إلى الله فهو يدعو إلى الذي تعلمه الفطر والقلوب والعقول السليمة، وهو الله سبحانه وتعالى الذي هو فوق العالم، العالي على جميع المخلوقات، وغير ذلك لا يسمى الله أبداً.
      فأراد فرعون أن يرد عليه وأن يبطله، فقال: يا هامان! اجمع الناس واؤمرهم أن يبنوا صرحاً؛ حتى نصل إلى السماء ونتأكد من وجود الإله الذي يزعم موسى.
      ثم قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:37] فلا حاجة للبناء..
      إذاً: يتضح لنا أن دين موسى عليه السلام ودين جميع الرسل هو إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، ومن ينفي علو الله تعالى وينفي استواءه وأنه في السماء، فهو على دين فرعون.
      يقول: "وخامسها -أي الأدلة النقلية- أنه تعالى قال في هذه الآية: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]، وكلمة (ثم) للتراخي، وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السماوات والأرض، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار؛ لزم أن يقال: إنه ما كان مستقراً على العرش بل كان معوجَّاً مضطرباً، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة والسكون".
      وهذا كلام باطل؛ لأننا لا نثبت لله تعالى الحركة؛ بل نثبت له -مثلاً- النزول، فإن قالوا: النزول يلزم منه الحركة، قلنا: هذه اللوازم باطلة، ونحن إنما نصفه كما أخبر وكما قال، ومن ألزمنا بشيء فإنما يُلزم بذلك المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى، كما أجاب محمود الغزنوي فاتح الهند على ابن فورك عندما سأله: أين الله؟ قال: في السماء، فقال: إنه يلزمك من ذلك أن يكون الله في جهة، وأن يكون محصوراً... إلخ. فقال له: أنا أقول عن الله كما أخبر عن نفسه، فإن لزم من هذا الكلام شيء فإنما يلزم القائل، فسكت ابن فورك، ولم يحر جواباً وكذلك فإنه إذا سأل الله تعالى العبد يوم القيامة: ماذا تعتقد فيَّ؟ فقال: أعتقد فيك ما قلت، فإن هذا أقرب للنجاة ممن يقول: يا رب، إن ما قلت يلزم منه كذا وكذا، وأنا أرده وأعتقد ما قاله فلان وفلان!
  3. تأثر الأشعرية بالرازي وإنكارهم للعلو

     المرفق    
    وقد تأثر بـالرازي كثير من المتأخرين وساروا على نهجه، وكتبهم في هذا الباب كثيرة، فمثلاً: الصفات التي يثبتها الأشاعرة لله سبحانه وتعالى أو ينفونها عنه مجموعة في عشرين صفة، كما في أم البراهين، ومن هذه الصفات: مخالفته تعالى للحوادث، يقول السنوسي صاحب أم البراهين في المتن: (ومخالفته تعالى للحوادث)، ويشرح ذلك الدسوقي صاحب الحاشية فيقول: "فإن قلت: أي فائدة في الإتيان بقوله: (تعالى) حتى توصل له بما ذكر؟ قلت: فائدته الرد على المجسمة والجهوية -أي: الذين يثبتون الجهة- فإن قلت: لم أتى به -أي بقوله: (تعالى)- في هذه الصفة والتي بعدها دون بقية الصفات؟" أي: أنه لم يأت بكلمة (تعالى) إلا في مخالفته للحوادث. يقول: "قلت: إنما أتى به مع هاتين الصفتين دون بقية الصفات؛ لأنه لم يصرح أحدٌ من العقلاء باتصافه تعالى بنقائض تلك الصفات، ما عدا نقيض المخالفة -فإن المجسمة صرحوا بأنه جسم، والجهوية صرحوا بالجهة، وقالوا: إنه تعالى في جهة العلو- ونقيض القيام بالنفس، فإن النصارى صرحوا به، وقالوا: إنه تعالى قائم بذات عيسى.. فإن قلت: لو كان السر ما ذكر، لأتى بذلك -أي بقوله: (تعالى)- مع الوحدانية رداً على الثنوية الذين صرحوا بالتعدد في الإله".
    فهو يريد هنا أن يذكر السبب الذي لأجله ذكر السنوسي كلمة (تعالى) عند كلامه عن هاتين الصفتين فقط، وهما: مخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه.
    فيقول: إن المتن موجز ومختصر وبليغ، وهو إنما أتى بكلمة (تعالى) ليرد بها على أناس أتوا بشيء غريب في هاتين الصفتين لا تصدقه العقول.
    فأما الصفة الأولى وهي: قيامه بنفسه، فقد شذ النصارى في ذلك وخالفوا جميع العقلاء، فقالوا: إنه قائم بالمسيح، وقد زاد الصوفية على النصارى ما لا حصر له، فإن النصارى قالوا: إن الله حل في المسيح، وهو رسول، لكن الصوفية قالوا -والعياذ بالله-:
    وما الكلب والخنزير إلا إلهنا            وما الله إلا راهب في كنيسة
    فلعظم فساد هذه العقيدة الخبيثة، أفردها بقوله: (تعالى)، فتعالى أن يكون قائماً بغيره كما تقول النصارى.
    الصفة الثانية: مخالفته للحوادث، فقد قال فيها: (تعالى) لأنه يوجد أناس يثبتون العلو لله تعالى، وهذه مصيبة كبيرة، فنتيجة لذلك أفردها بقوله: (تعالى).
    فقد جعلوا القول بالعلو مثل قول الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ثم قال: لماذا لا يرد بمثل ذلك على الثنوية ؟ وذلك لأن أكفر الكفار عندهم ثلاثة: الذين قالوا: إن الله اثنان، والذين قالوا: إن الله تعالى يحل في ذات، كما قالت النصارى في عيسى، والثالث: الذي يقول: إن الله تعالى في العلو، أي: الذي يثبت العلو لله تعالى، فجعلوا القول بالعلو لله تعالى مثل القول بأن الله هو المسيح، عياذاً بالله تعالى من هذا الضلال المبين!
    1. الرد على قول الأشاعرة: إنه يلزم من إثبات العلو إثبات الجهة

      ثم يقول في موضع آخر: "إنه يستحيل أن يكون له تعالى جهة".
      هل قال الله تعالى: لي جهة؟! وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لله جهة؟! وهل قال أهل السنة : إن لله جهة، بهذا اللفظ؟!
      نحن نثبت لله تعالى العلو والفوقية، وأما قولهم: إنه يلزم من هذا إثبات الجهة، فنقول: نحن لا نقول بهذا، بل أنتم الذين ترون أن هذا من لوازم العلو.
      يقول: "يستحيل أن يكون له تعالى جهة، بأن يكون له يمين أو شمال، أو فوق أو تحت، أو خلف أو أمام؛ لأن الجهات الست من عوارض الجسم، ففوق من عوارض عضو الرأس، وتحت من عوارض عضو الرجل، ويمين وشمال من عوارض الجنب الأيمن والأيسر، وأمام وخلف من عوارض البطن والظهر، ومن استحال عليه أن يكون جرماً استحال عليه أن يتصف بهذه الأعضاء ولوازمها. قال في شرح الوسطى : وعندنا جرم ليس في جهة ولا له جهة، وهو كرة العالم، والآخر جرم ليس له جهة، وهو في جهة لغيره، وهو الحيوان الذي لا يعقل، فإذا قلت: على يمين الفرس، فبالنظر للواقف في محلها"، يعني: أن الحيوانات ليس لها جهات، فإذا قلت: على يمين الفرس، أو على شمال الثور، فذلك كما لو كان مكان الفرس آدمي واقف، أما الفرس فليس له يمين ولا شمال. لماذا ؟! لا ندري!!
      قال: "وجرم في جهة وله هو جهة، وهو الإنسان فقط. فعلم من هذا أن الجهات خاصة بمن يعقل"، أي: أن الذي لا يعقل ليس له جهة، قال: "فإذا أضيفت الجهات لغير العاقل كان ذلك بالنظر للعاقل، فإذا قيل: يمين المحراب أو شماله فباعتبار المصلي فيه... إذا علمت هذا، فاعلم أن قوله: هو جهة، عطف على ما قبله" إلى أن يقول: "أو يتقيد بمكان بأن يحل فيه على الدوام، وكذا يستحيل عليه" أي: يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يكون في جهة بناءً على هذا الكلام العقلي المقنع في نظره.
      يقول: "يستحيل عليه الحلول في المكان لا على الدوام، بأن يكون فوق العرش أو في السماء" إن القول بأن الله سبحانه فوق العرش وفي السماء هو كلامه تعالى، إذاً هم يردون كلام الله تعالى!
      قال: "والمكان عند أهل السنة -كما تقدم- الفراغ الذي يحل فيه الجرم، فهو موهوم".
      قد يقول قائل: هل أصحاب هذه الأقوال هم جميع الأشعرية أم غلاتهم فقط؟
      فنقول: قوله: (والمكان عند أهل السنة ) يعطي شيئاً من الجواب، مع أنهم يرون أنفسهم أهل السنة وأهل الحق، فـالأشاعرة كلهم الغلاة منهم وغير الغلاة، المتقدمون منهم والمتأخرون، لا يثبتون علو الله سبحانه وتعالى، ولا يثبتون أنه تعالى فوق المخلوقات، وكثيراً ما نسمع من يقول: إن مناقشة هذا الأمر وإثارته إنما هي إشارة لأمر قد عفا عليه الزمن، وانقرض؛ فليس هناك فائدة من الكلام فيه.
      فنقول: إن هذه العقائد هي التي تدرس في الجامعة الأزهرية، وفي المعاهد الأزهرية، وفي المعاهد الدينية والعلمية في الهند، وفي أندونيسيا، وفي ماليزيا، وفي غيرها من دول أفريقيا وآسيا، وفي معظم المدارس إلا ما كان منها لـأهل الحديث وأنصار السنة وما أشبه ذلك، فهذه العقائد هي التي تحفظ متونها، وتدرس شروحها، وهذا هو ما يعتقدونه تماماً، ويقررونه، ويردون على من خالفه؛ بل ويكفرونه.
    2. تكفير الأشاعرة لمثبتي العلو

      ولذلك يقول صاحب الحاشية تعليقاً على قول السنوسي: (بخلاف الجهل بما يجب لله وما يستحيل عليه فإنه كفر): "قوله: (فإنه كفر) ومن عاشر العوام وعاين جهلهم، لا يسعه إلا القول بكفرهم؛ لجهلهم بالضروري"، أي: لأنهم يجهلون ما يجب لله وما يستحيل عليه، ومن ذلك أنهم يثبتون أن الله تعالى في السماء، وهذا دليل على أن هؤلاء العوام يجهلون ما لله، إذاً هم كفار، فكل من يقول: إن الله في السماء فهو كافر.
      ويقول في موضع آخر: "فيه قولان، والمعتمد عدم تكفيرهم" أي: الذين يثبتون العلو لله تعالى؛ ففي حكمهم عند الأشاعرة قولان:
      القول الأول: من اعتقد أن الله تعالى في السماء أو فوق العرش كما أخبر الله في كتابه، فهو كافر؛ لأنه صرح بنقيض ما يستحيل على الله، والعقيدة عندهم هي: ما يجب لله، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، فمن أثبت لله شيئاً مما يستحيل عليه، أو نفى عنه شيئاً مما يجب له؛ فهو كافر.
      القول الثاني: أنهم ليسوا كفاراً، لكنهم عصاة ضلال.. وهو الذي اعتمده.
      وبعض الشراح قالوا: لأن لديهم شبهات نقلية، ويقصدون بها أدلة العلو، كقوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16]، وقالوا: فلا نكفر أحداً قال بشيء في القرآن، وكذلك حديث الجارية.. فهذه الأدلة وغيرها هي التي جعلتهم يتوقفون في تكفير من يثبت العلو لله تعالى؛ لأنها عندهم بمثابة شبهات، وقد ردوا حديث الجارية لأنه حديث آحاد، مع أنه قد رواه مسلم، فقالوا: لا بد أن يكون متواتراً، ولو كان متواتراً لأوَّلوه؛ لأنهم قد أولوا القرآن الكريم.
      ومنها: أن هذه هي عقيدة العرب في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون أن الله تعالى في السماء، كما قال عنترة :
      يا عبل أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
      والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الجارية أجابت بعقيدة العرب في الجاهلية.
      فيقال لهم: وهل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة الجاهلية، بقوله: {أعتقها} وفي رواية: {فإنها مؤمنة} ؟!
    3. خلاصة مذهب نفاة العلو

      ومذهب نفاة العلو يتلخص في قولين:
      الأول: قولهم: إنه في كل مكان. فقد هربوا من إثبات العلو فأثبتوا أنه في كل مكان.
      الثاني: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا أمامه ولا خلفه، وهذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: لو أراد أحد أن يصف العدم بشيء لم يصفه بأكثر من هذا، فإن الذي يصفونه بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت؛ هذا ليس موجوداً، ومعنى ذلك أنهم يقولون: لا يوجد لهذا الكون إله، وليس لهذا العالم خالق. أما القول بأنه في كل مكان، فلهم فيه شبهات قد تؤثر على بعض الناس، وذلك كاستدلالهم بقوله تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ))[الزخرف:84]، وقوله تعالى: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ))[الحديد:4]، وغير ذلك.
      ومن المعلوم أن الله تعالى في كل مكان ومع كل أحد بعلمه، لكنه عز وجل بذاته فوق العرش وفوق العالم، لا يخالط هذا الكون ولا يمازجه.
      إذاً: هو تعالى فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه منا خافية، (( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ))[طه:7].
    4. تأويلهم للآيات الدالة على الفوقية

      قال المصنف رحمه الله: [وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)[الأنعام:18]^، ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]^].
      وهذه الآيات قد أولها المؤولون، فقالوا: المراد بذلك فوقية المكانة لا فوقية المكان، وفوقية القهر والغلبة لا فوقية الذات، فنقول: وما المانع أن يكون المراد فوقيته بذاته؛ فإنها أوضح في العقول وأقرب، ويلزم منها فوقية المكانة والغلبة؟!
      لكنهم يؤولون الصفة ويفسرونها ببعض لوازمها، ويفرون من حقيقتها التي وضعت لها، والتي يفهمها منها كل عربي.
      ومما قالوه: إن هذا كما إذا قلت: الملك فوق الوزير، أي: أعلى منه درجة، فيقال لهم: وهل يلزم من ذلك أن الملك ليس فوق الوزير مكاناً؟! فكون الملك فوقه من حيث المكانة والمنزلة لا ينفي أن يكون فوقه في المكان، ونحن نثبت لله تعالى فوقية المكان وفوقية المكانة، ولا تعارض بينهما.
      إن هؤلاء المؤولة كلما ذكرت لهم الأدلة على علو الله تعالى أولوا تلك الأدلة؛ فيفسرون الفوقية ببعض لوازمها، وهي في الحقيقة صفة ثابتة لله تعالى، فهو فوق العالم حقيقة، ومن لوازم ذلك الغلبة والقهر والظهور.