المادة كاملة    
إثبات الاستواء أخص من إثبات العلو، فليس كل من يثبت العلو يثبت الاستواء.. وقد ثبت الاستواء لله تعالى بالكتاب والسنة وكلام السلف الصالح رحمهم الله، وأئمة اللغة العربية، فيجب إثباته لله تعالى بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.. وقد ضلت الجهمية ومن وافقهم في هذا الباب، وقالوا: إنه مجاز؛ وكلامهم ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من كلام السلف، ولا من اللغة العربية.
  1. كلام الأئمة في إثبات الاستواء

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))[الأعراف:54]: كيف استوى؟! فقال: [[الاستواء معلوم والكيف مجهول]]، ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
    الشرح:
    ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- موضوع العلو في الفقرة السابقة، وذكر فيه أوجهاً تأتي بإذن الله تبارك وتعالى فيما بعد في موضوع العلو، ونحب أن نذكر شيئاً من التفصيل في موضوع الاستواء بالذات، فإنه من المعلوم أن إثبات الاستواء أخص من إثبات العلو، إذ ليس كل من يثبت العلو يثبت الاستواء، فإن العلو معلوم بالفطرة، ومعروف لدى العرب في الجاهلية ولدى الأمم السابقة، ولكن الاستواء لا يعلم إلا بالدليل الذي دل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا أثبتنا الاستواء وأبطلنا الشبه الواردة عليه، نكون قد أثبتنا العلو ضرورة، ولم تبق أية شبهة، بل إن كثيراً من الناس لم ينكروا العلو إلا لما انقدح في خيالهم الفاسد من أوهام إذا أثبتوا الاستواء.
    وقد ذكرنا تلك العبارة العظيمة المنقولة عن الإمام مالك رحمه الله: [[الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة]]، وقلنا: إن هذه قاعدة ذهبية من قواعد السلف الصالح في باب الأسماء والصفات، فيقاس على الاستواء كل صفة من صفات الله تبارك وتعالى جاءت في القرآن، أو صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
    والروايات التي أشار إليها رحمه الله بقوله: "ويروي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً"، وقد أشرنا سابقاً أن ذلك روي عن ربيعة شيخ مالك، وقد ذكر هذه الروايات جميعاً الحافظ اللالكائي رحمه الله تعالى، في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة المجلد الثاني الأثر رقم ( 662) ورقم (668 ) (ص:397-400).
    فقد روى رحمه الله بسنده عن بشر بن عمر قال: (سمعت غير واحد من المفسرين يقولــون: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قال: على العرش استوى: ارتفع).
    وروى بسند آخر إلى أبي عمير الحنفي عن قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قولـــه: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قالت: [الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر].
    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه المسمى شرح حديث النزول، وهو موجود ضمن مجموع الفتاوى ( (5/365) يقول -بعد أن ذكر أن ما أجاب به الإمام مالك رحمه الله تعالى قد أجاب به غيره من أئمة السنة، ونص على أنه من قول مالك- يقول: "ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك " اهـ بمعناه.
    قد يكون الإمام مالك رحمه الله أتى به من عند نفسه ابتداءً، فطابق كلامه كلام شيخه ربيعة، ولا مانع من ذلك؛ لأن الحق يتطابق ويتشابه، والكل يخرج من مشكاة واحدة.
    ويمكن أن يكون مما أخذه وحفظه من شيخه ربيعة رحمهما الله تعالى، ثم علّم به ذلك الرجل الذي تأتي قصة سؤاله قريباً.
    1. حكم شيخ الإسلام على حديث الاستواء المروي عن أم سلمة

      قال شيخ الإسلام : "وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً وموقوفاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه لا مرفوعاً ولا موقوفاً".
      نقول قطعاً وجزماً بالنسبة للمرفوع: لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، أو غير معقول، أو أياً من هذه العبارات، ولم يثبت ذلك عنه، فمن نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك خطأ بيقين.
      وكذلك نسبته إلى أم سلمة قوياً؛ فإن إسناده لا يعتمد عليه، أي ليس موقوفاً عليها -من قولها- رضي الله تعالى عنها، وهذا هو الإسناد الذي ذكره اللالكائي هنا، وأشار إليه أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب التوحيد (13/406)؛ لأنه هناك أطال رحمه الله في هذه المسألة، ونقل النقول في شرح كتاب التوحيد آخر كتاب من صحيح البخاري، وذكر كلام مجاهد، وكلام أبي العالية وغيرهم.
      والشيخ عبد الله الغنيمان أثابه الله شرح كتاب التوحيد، من صحيح البخاري شرحاً مستقلاً.
      وهذا الشرح ينبغي أن يقتنى؛ لأنه مفيد، وفيه تبسيط وإضافات وفوائد لا توجد في غيره وقد علق على هذه الآثار، ونقل نقولاً طيبة جديرة أن تراجع.
    2. جواب الإمام مالك عن معنى الاستواء

      ذكر اللالكائي رحمه الله الأثر الذي بعده بسنده عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له: يا أبا عبد الله! ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] كيف استوى؟...
      الرجل لم يسأل عن معنى الاستواء، وإنما سأل عن الكيفية، وهذا الذي نهى عنه السلف، وهذا الذي ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تكييف، فمقصود السلف من نهيهم عن التعرض لأدلة الصفات النهي عن قول: (كيف؟) وألا نقر من يسأل في صفات الله تعالى بالكيف، فيقول: كيف استوى؟ كيف يده؟ كيف وجهه؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ ونحو ذلك، لأننا لا نعلم ذاته سبحانه وتعالى، فكيف نعلم صفاته؟!
      فمعرفة كيفية الصفات فرع عن معرفة الذات، ولا إشكال في هذا، فهذا شيء معهود معقول، لا ينكره أحد؛ لأنه من الأمور العادية المعروفة، فإذا سألتك عن كيفية صفة من صفاته، فقلت لي: أنا لا أعلم الكيفية لأني لم أره، فسيكون جوابك سليماً، لأنك ما دمت لا تعرفه، فلن تتكلم في كيفية أية صفة من صفاته.
      يقول الراوي: (فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته)، يعني: تأثر تأثراً شديداً رحمه الله ورضي عنه (وعلته الرحضاء) يعني: تغشاه العرق (كأنه محموم)، أي كأنما أصابته حمى بسبب هذا السؤال الذي لم يعهد مثله، ولم يسمعه أحد قبله من السلف الصالح، لا من سأل ولا من سئل، فكأنه رأى أن هذا شيء غريب، كعادة أهل الحق وأهل العلم والإيمان، إذا جيء بأمر مستغرب مستحدث في الدين، فإن الإنسان يقشعر جلده من هذا القول المبتدع المحدث.
      ويشبه هذا سؤال أحد التابعين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت]] وذلك يدل على أن الإنسان إذا فوجئ بشيء مستغرب -وخاصة فيما يتعلق بالله عز وجل- فإنه يستنكره.
      ظهرت علامات وأمارات الاستنكار في هيئة الإمام مالك رحمه الله، وهو ذلك الرجل الرزين الوقور، المشهور بوقاره وسكينته، لكن هذا أمر لم يستطع أن يتمالك نفسه له، فتغشاه العرق، ووجد موجدة عظيمة، يقول الراوي: (وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه) فالكل ينتظرون ما سيجيب به الإمام على هذا السؤال المبتدع -أو سؤال المبتدع- قال: (فسري عن مالك ) أي: لما سري عنه وتمالك نفسه قال: [[الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً.. وأمر به فأخرج]] أي أن ما يتعلق بالكيف الذي سألت عنه غير معقول؛ أي: لا يدخل في دائرة الإدراك العقلي البشري على الإطلاق، فهو أمر فوق ما تدركه العقول، لأنه من أمر الغيب بالكلية، (والاستواء منه غير مجهول)، يقول: أما الاستواء فمعناه غير مجهول، فكل من يعرف لغة العرب يعرف معنى الاستواء، لكن كيفيته -فيما يتعلق باتصاف الله سبحانه وتعالى به- شيء آخر تتقاصر دونه العقول، ولا يمكن أن تدركه.
      قال: (والإيمان به واجب)؛ لأن الله تبارك وتعالى ذكره في كتابه.
      قال: (والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء.
      ليس التفويض هو مذهب السلف الصالح كما يقال، وأنهم لا يسألون عن المعنى، فإنهم إذا قالوا: لا نسأل عن المعنى، أو لا نفسر، فالمقصود (لا نكيف).
      وقولهم: (أمِروّها كما جاءت بلا تفسير)، يعني: أمروها كما جاءت بلا كيف.
      أما المعنى اللغوي فهو معروف، لكن الكيفية هي المجهولة (غير المعقولة)، وهي التي يكون السؤال عنها بدعة، قال مالك : (وإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج) أي: أن هذا الرجل قد يكون مستعلماً مستفهماً يريد أن يعرف الحق، وقد يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً عن الله، ولا يقدر الله تعالى حق قدره، وقد يكون من أهل الضلال، ومن أهل البدع، ممن نزغ الشيطان وألقى في قلوبهم الشبهات والضلالات، ليضل بها كثيراً؛ إذ أنه قد ظهرت ضلالات في تلك الآونة في زمن الإمام مالك رحمه الله، وكان الجعد بن درهم قد ظهر قبل ذلك في أوائل القرن الثاني، وممن سمعنا عنهم في العراق : الجعد والجهم ومن والاهم، كل أولئك كانوا قبل ذلك الزمن.
    3. جواب الإمام ربيعة عن معنى الاستواء

      ثم ذكر الإمام اللالكائي رحمه الله بعد هذه الآثار أثراً عن ربيعة، قال: (حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن آدم عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة ).
      سفيان بن عيينة -وهو الإمام الثقة الثبت المشهور الذي لا يخفى فضله ومكانته على أحد في هذه الأمة- يقول: سئل ربيعة -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك -عن قوله : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، كيف استوى؟ قال: [[الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق]].
      (الاستواء غير مجهول) أي: أن كل أحد يعرف معناه ممن يفقه لغة العرب.
      (والكيف غير معقول) أي: لا يدخل ضمن إدراك العقول.
      قال: (ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق) هذه قاعدة عظيمة جليلة في كل أمر، وهي جديرة أن تحفظ لتضمنها معاني عظيمة، فالله تبارك وتعالى عرفنا بنفسه عز وجل، وجعل هذا الأمر واضحاً جلياً بمقدار ما تستطيع عقولنا أن تحتمل وأن تطيق، فالراسخون في العلم يفهمون ذلك، وكذلك من دونهم ممن يفهمون خطاب الشريعة، والرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ، كما نص الله تعالى على ذلك في كتابه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه، وكل ما أوحى ربُّه إليه فقد بلغه إلينا كاملاً، فما أخبرنا به عن الله عز وجل فيجب علينا التصديق به، وكما أنه من المحال أن يكتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أمره ربه بتبليغه، وأوحاه إليه، فكذلك لا يجوز ولا يحق لنا بأي حال ألا نصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
      وهذه القاعدة العظيمة تفيدنا كثيراً جداً، وذلك عندما ننظر إلى الضلالات والبدع التي أثارها الذين عطلوا صفات الله سبحانه وتعالى، واعترضوا على أحكامه، وعلى صفاته.
      فمثلاً: الباطنية اعترضوا على الصفات وعلى الأحكام جميعاً، فأولوا الصلاة والصيام والحج والزكاة، وكذلك النصيرية والدروز الملحدون الكفرة، اعترضوا وأوّلوا، وردوا كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً، ولم يثبتوا منه شيئاً إلا مجرد اللفظ؛ والرافضة ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه، ونفاة الصفات أيضاً يقولون: إن إثبات العلو -مثلاً- يلزم منه التحيز والجسمية...إلخ.
      فنقول: لا يخلو الأمر من حالين: إما أنكم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا محال، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم هذه الأمور، ولم تخطر له ببال، ولا لأحد من أصحابه، ولا من التابعين، فهم أعلم الخلق بالله، ولستم أعلم منهم بلا ريب أفلا يسعكم ما وسعهم؟!
      والاحتمال الآخر: أن تقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الاستواء لابد أن يؤوَّل ويُقال: استوى بمعنى استولى، وأن اليد لابد أن تؤوَّل بمعنى القدرة، وأن الله لابد أن ينزه فتصرف هذه المعاني عن ظواهرها.
      والمبتدعة قد يكفرون من أخذ بظاهر الأدلة: فمن الأشعرية من يرى أن من اعتقد العلو وأن الله في السماء فهو كافر.
      فنقول: سبحان الله! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تَنزِل عليه هذه الآيات، ويذكر تلك الأحاديث، ولم يؤثر عنه -ولو مرة واحدة- أنه قال: يا أصحابي انتبهوا! أو يا أيها المسلمون انتبهوا، ونبهوا من خلفكم! أن هذه الألفاظ ليست على ظاهرها فيجب أن تؤولوها، لم يقل ذلك -ولو مرة واحدة- إذاً: لازم كلامهم أنهم يتهمونه صلى الله عليه وسلم بأنه كتم ذلك، فيقولون: لم نقل: إنه كتم؛ إذاً: فهل لم يعلم؟! وهل أنتم أعلم وأكثر تنزيهاً لله، أو أحرص على تنزيه الله منه صلى الله عليه وسلم؟ هذا باطل وذاك باطل، فيلزم من ذلك تصديقه صلى الله عليه وسلم كما قال ربيعة رحمه الله تعالى : (وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق).
    4. قول ابن الأعرابي في معنى الاستواء لغة

      قال الإمام اللالكائي رحمه الله: "أخبرنا محمد بن جعفر النحوي إجازة، حدثنا أبو عبد الله نفطويه قال: حدثني أبو سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي ...) -وميزة الإمام اللالكائي رحمه الله أنه يذكر الأثر بالسند، وهذا الكلام نجده أيضاً مذكوراً في كثير من الكتب، مثل مختصر الصواعق، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي كتاب العلو للذهبي - يقول: (كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، فقال: (هو على عرشه كما أخبر عز وجل) -يعني: أنا لا أعلم الكيفية، فكوني إماماً أو لغوياً أعرف لغة العرب، لا يعني أنني أعرف كيفيات صفات رب العالمين، لكنه على عرشه كما أخبر، يكفينا أن نثبت علوه عز وجل واستواءه على عرشه، فهذا جواب أهل اللغة، وجواب أهل الإيمان والأثر- قال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى. قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! -أي: ما يدريك؟! ما أنت وكلام العرب؟! ليس هذا شأنك ولا هو فنك ولا علمك، نحن الذين نعلم كلام العرب ولغتهم -قال: (اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى".
      يقول ابن الأعرابي : لا تقول العرب (استوى)؛ بمعنى: (استولى) على الشيء، إلا إذا وجد له مضاد منازع منافس مغالب، فغَالَبه فغَلَبه، فنقول: استولى عليه، أما غير ذلك فلا، فإذا تنازع اثنان أو أكثر على مال أو ملك، فغلب أحدهما، واستحوذ على ما اختلفا عليه، نقول: استولى عليه فلان، يعني غالبه على شيء وانتزعه منه، وليس لله عز وجل منافس ولا مغالب، أخذ العرش منه، ثم نازعه الله تعالى فأخذه منه تعالى الله عما يصفون.
      وهذا أحد الوجوه العقلية التي أطال الكلام فيها الإمام العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى عليه حين رد على نفاة العلو، كما سنشير إليه إن شاء الله فيما بعد.
      قال: أما سمعت النابغة :
      ألا لمثلك أو من أنت سابقه            سبق الجواد إذا استولى على الأمد
      أي إذا قطعه وغالبه.
      فهذا دليل على أن استوى في كلام العرب ليست بمعنى استولى، وإنما هذه فيها نوع مغالبة ومنازعة.
      وبسند آخر إلى أبي بكر محمد بن أحمد بن النضر وهو ابن بنت معاوية بن عمرو : (قال: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل) أي: في علم وعبادة وزهد وورع.
      وأئمة اللغة الأثبات الثقات كـالخليل بن أحمد والنضر بن شميل، وسيبويه، والكسائي وابن الأعرابي، هؤلاء كانوا أئمة علم ودين وقراءة وفقه، وفيهم الخير والصلاح، ولم يكونوا في شيء من البدع، فـالأصمعي الإمام الجليل المشهور لم يكن فيه شيء من البدع، بل كان ينكر على أهل البدع وأهل التأويل والضلالات، وجميع الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، وهذا من فضل الله تعالى، وهكذا صان الله لغة العرب وإنما وقعت البدع في القرون والأجيال المتأخرة.
      يقول: (وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله -ولعله ابن أبي دؤاد - قال: أتعرف في اللغة استوى بمعنى: استولى؟ فقال: لا أعرف).
      سبحان الله! هؤلاء -من حرصهم على الابتداع- يبحثون عن أي شيء يقوي بدعتهم، لو قال: نعم أعرف ذلك؛ لتهالكوا وتهافتوا عليه، وتركوا المعاني الأخرى الواضحة، إذ قد يكون في الكلمة معنيان، فلِم التهالك والتهافت على أحدهما؟! إنه الهوى، أما الإنسان الذي يأخذ الأمور من غير هوى ولا تعصب، فالمعنيان يستويان عنده، وقد يستوي المعنيان في اللغة، فإذا تأملنا كلام السلف، ووجدناهم رجحوا أحد المعنيين، أخذنا بكلام السلف .
    5. معنى الاستواء في اللغة (من كلام أبي العباس ثعلب)

      قال الإمام اللالكائي : "وجدت بخط أبي الحسن الدارقطني رحمه الله عن إسحاق الهادي قال: سمعت أبا العباس ثعلب يقول:
      استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً.
      (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ))[البقرة:29]: أقبل.
      ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]: علا.
      واستوى وجهه: اتصل.
      واستوى القمر: امتلأ.
      واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما، وإن لم تتشابه شخوصهما.
      هذا الذي يعرف من كلام العرب"، في معاني الاستواء.
  2. رد ابن القيم على المنكرين للاستواء

     المرفق    
    ننتقل الآن إلى ما سطره الشيخ الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله، حيث ذكر في (2/126) من مختصر الصواعق المرسلة، رده على القائلين بالمجاز، ومن ضمن ذلك قال: "المثال الثالث: قوله: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] في سبع آيات من القرآن، حقيقة عند جميع فرق الأمة إلا الجهمية ومن وافقهم" يعني بذلك: المؤولين من الماتريدية والأشعرية، قال: "فإنهم قالوا: هو مجاز، ثم اختلفوا في مجازه والمشهور عنهم ما حكاه الأشعري عنهم، وبدعهم وضللهم فيه، أنه بمعنى: استولى أي ملك وقهر"، والأشعري رحمه الله ذكر في كتابه المقالات ذكر أن تفسير (استوى) بـ(استولى) من كلام أهل البدع والضلال، نص على ذلك ونسبه إلى أولئك الجهمية ومن اتبعهم.
    يقول: وقالت فرقة منهم: بل معنى قصد وأقبل على خلق العرش"، سبحان الله! وهذا منعكس؛ لأن العرش مخلوق قبل السماوات والأرض قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7] أي: قبل أن يخلق السماوات والأرض، {وكتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} ثم بعد الخمسين ألف سنة خلق السماوات والأرض، ثم لما خلقهما استوى على العرش؛ وهذا الترتيب معلوم واضح لدى من فقهه الله، فقولهم: (إنه قصد وأقبل على خلق العرش) هذا من أبطل الباطل.
    يقول: "وقالت فرقة أخرى: بل هو مجمل في مجازاته" أي بعضهم تفنن فقال: هذا مجازاته كثيرة مجملة فلا نستطيع التعيين، قال: "يحتمل خمسة عشر وجهاً، كلها لا يُعلم أيها المراد" سبحان الله! يتركون الشيء الواضح الذي قالته العرب، وذكره السلف، ويبحثون عن المجهولات والمعميات، وكأنها ألغاز لا تفقه.
    يقول: "لا يعلم أيها المراد، إلا أنا نعلم انتفاء الحقيقة عنه بالعقل".
    ثم قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا الذي قالوه باطل من اثنين وأربعين وجهاً" وهذا يدل على سعة علمه وفقهه، حيث أبطل قولهم: بأن الاستواء مجاز، وليس حقيقة، من اثنين وأربعين وجهاً، الواحد منها يكفي ويشفي ويغني، وهذا من قوة الحجة التي أعطاها الله تبارك وتعالى بفضله ومنه وكرمه أهل السنة فالعامي من أهل السنة يغلب ألفاً من المشركين، كما ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ والعامي الموحد يرد على الفئام من المتكلمين ويغلبهم؛ لأنه يرى أن العلو أمر فطري بدهي لا يحتاج إلى استدلال، والمتعلم منهم: يستطيع أن يرد بثلاثة أوجه أو أربعة أوجه، أما العالم المتبحر المتعمق فيرد بأربعين وجهاً أو بخمسين أو بمائة وجه، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد رد على الأشعرية -في قولهم: إن القرآن ليس كلام الله، بل هو كلام لفظي نفسي، وتقسيمه إلى نفسي ولفظي- رد عليهم في الرسالة التسعينية من تسعين وجهاً.
    وهذه من حجة الله التي أعطاها أهل السنة .
    والرسالة التسعينية موجودة في المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى .
    1. معاني الاستواء عند ابن القيم

      نأخذ الوجه الأول؛ لأن المهم عندنا هو معرفة معنى الاستواء في لغة العرب، وإذا فقهناه فما بعده فهو واضح، يقول ابن القيم رحمه الله: "أحدها: أن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم، وأنزل بها كلامه نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف" أي: لا يتعدى بحرف (إلى) ولا (على) ولا أي حرف من الحروف المتعدى بها.
      يقول: "مثل قولـه تعالى: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى))[القصص:14] وهذا معناه كمل وتمَّ، يقال: استوى النبات واستوى الطعام" بمعنى: نضج، فاستوى بمعنى: تمَّ وكمل ونضج، هذا المطلق.
      قال: "وأما المقيد فثلاثة أضرب" أي: بحسب الحرف الذي يتعدى به فعل (استوى).
      "أحدها: مقيد بـ(إلى)، كقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ))[فصلت:11]، واستوى فلان إلى السطح، وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه هذا المعدى بـ(إلى) في موضعين من كتابه: في البقرة في قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ))[البقرة:29]، والثاني في سورة السجدة قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11]".
      ومقصوده رحمه الله سورة فصلت، وقال: في سورة السجدة؛ لأن فيها سجدة، فهو من باب تعدد أسماء السور، فإذا قيل: (الم السجدة) فهي تلك المعروفة عندنا بسورة السجدة، أما إذا قيل: (حم السجدة) فهي (فصلت).
      يقول: "وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف، كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله.
      والثاني: مقيد بـ(على)، كقوله تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] وقوله: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44] وقوله: ((فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ))[الفتح:29] وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة.
      الثالث: المقرون بواو (مع)، التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: (استوى الماء والخشبة)، بمعنى: ساواها" واستوى زيد وعبد الله، أي: تساويا، إما في العلم، أو في العمر، أو وصلا إلى غاية السباق سواء، ونقول: استوى زيد وعبد الله، أي: تماثلا وتشابها كما تقدم في كلام ابن الأعرابي .
    2. انتفاء ورود (استوى) بمعنى (استولى)

      يقول: "وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها معنى (استولى) ألبتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية. "
      نقل الشيخ الغنيمان في كتاب التوحيد، عن الإمام الطبري : أن استوى جاءت في لغة العرب على أربعة معان، وذكر منها: (استولى)، وذكر ذلك غيره من المفسرين.
      وسبب ذلك: أنهم يذكرون كل ما ورد سواء صح أو لم يصح، فإذا كان أئمة اللغة الثقات المعتد بهم لم ينقل عن أحد منهم ذلك فلا يؤخذ به، كما في كلام ابن الأعرابي وثعلب فقد نفيا أن يعلم في كلام العرب هذا المعنى.
    3. الرد على استدلال أهل الأهواء ببيت الأخطل

      من عجائب أهل البدع أنهم يتركون كلام الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين في مسألتين عظيمتين من مسائل العقيدة، وهي مسألة القرآن وصفة الكلام، ومسألة الاستواء والعلو، وأخذوا فيهما ببيتين نسبا إلى شاعر نصراني، سكِّير عربيد، لا يؤخذ بقوله في دين، وإن قيل: إنه يحتج به في اللغة.
      البيت الأول: هو ما يكررونه ويذكرونه في معنى كلام الله عز وجل، وهو قول الأخطل :
      إن الكلام لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
      قالوا: الكلام له معنيان: لفظي ونفسي، وكلام الله نفسي، أما ما في المصاحف فمخلوق، فتركوا كل ما صح وما قيل وأثر حتى في القرآن نفسه مما جاء صريحاً، بأن هذا القرآن كلام الله عز وجل، وأخذوا بقول هذا الشاعر النصراني الأخطل، إن صح أنه قاله؛ فقد روي عنه في البيت هكذا:
      إن البيان لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
      وليس: إن الكلام.
      والبيت الثاني: هو ما يذكرونه في معنى الاستواء:
      قد استوى بشر على العراق            من غير سيف أو دم مهراق
      قالوا: (استوى) هنا بمعنى (استولى)، ثم زعموا أنه هو المعنى المراد في قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
      قال ابن القيم رحمه الله رداً على البيت الشعري السابق: "الوجه الثاني: أن الذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلاً، فإنه مجاهرة بالكذب، وإنما قالوه استنباطاً منهم وحملاً للفظة (استوى) على (استولى)، واستدلوا بقول الشاعر:
      قد استوى بشر على العراق            من غير سيف أو دم مهراق
      وهذا البيت ليس من شعر العرب أصلاً كما سيأتي بيانه" وقد أجـاد وأفاد رحمه الله في الوجه السادس عشر.
    4. عدم ثبوت البيت المنسوب إلى الأخطل

      يقول: "الوجه الثالث: أن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب" أي: أن أهل اللغة أنكروا على من يقول: إن (استوى) بمعنى (استولى)، قالوا: لا تعرف العرب ذلك.
      قال ابن القيم رحمه الله: "قال ابن الأعرابي، وقد سئل هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ فقال: لا تعرف العرب ذلك، وهذا هو من أكبر أئمة اللغة".
    5. رد ابن القيم على البيت المنسوب إلى الأخطل

      قد أجاد ابن القيم الرد على من زعموا أنه (استوى) بمعنى (استولى) مستدلين بذلك البيت السابق؛ قال رحمه الله: "الوجه السادس عشر أن هذا البيت محرف، وإنما هو هكذا:
      بشر قد استولى على العراق
      فالذين عكسوا البيت أولوا ذلك متعمدين، فقالوا: (إن استوى بمعنى استولى).
      يقول: "هكذا لو كان معروفاً من قائل معروف، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها؟!"، أي: حتى إلى هذا النصراني لم يثبت أنه قاله، وإنما نسب إليه، فاختطفوه وغيّروه وحرفوه، وبنوا عليه دينهم وعقيدتهم، سبحان الله! كيف يلقى الله يوم القيامة من يقول بمثل هذا القول؟! كيف يلقى ربه يوم القيامة معتقداً هذا الاعتقاد مستنداً إلى بيت منسوب محرف؟!
      وهذا الكلام ليس عن فراغ وليس استطراداً، فكثير من المسلمين اليوم في معاهد علمية وفي كليات جامعية، ابتداءً من الأزهر، إلى كليات الشريعة في كثير من البلدان، وكذلك المعاهد والكتاتيب في المساجد، في أكثر بلاد العالم الإسلامي، إذا مرت بهم هذه الكلمة (استوى)، قالوا: معناها (استولى).
      فلا تظنوا أن هذا مجرد رد على فرقة بائدة قديمة، نشأت قبل مئات السنين ثم انقرضت، أو فرق وهمية كما يظن بعض الناس، بل هذا موجود ومقرر ومعتمد عليه في أكثر المعمورة؛ لأنهم لا يثبتون أن الله سبحانه وتعالى استوى كما أخبر، وقد نبتلى بمثل هؤلاء، ويكونون ممن يدرس عندنا، ويكونون أئمة يصلون بنا.
      ومن هنا نقول: إنه يجب علينا ضرورة أن نفقه الأدلة والحجج البالغة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لغة العرب؛ لرد الناس إلى طريق الصواب والهدى، وما ذلك على الله بعزيز.
      ثم قال ابن القيم رحمه الله: "الوجه السابع عشر: أنه لو صح هذا البيت وصح أنه غير محرف، لم يكن فيه حجة، بل هو حجة عليهم، وهو على حقيقة الاستواء، فإن بشراً هذا كان أخا عبد الملك بن مروان، وكان أميراً على العراق، فاستوى على سريرها كما هو عادة الملوك ونوابها، أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، كقوله تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13]" لو فرضنا أنه جاء كما ذكروه فليس فيه إشكال؛ لأنه بالمعنى اللغوي مثل قوله تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] فمعنى: استوى على العراق، استوى على سرير الملك، وكما هو معلوم أنه إلى اليوم يسمى عند بعض الناس عيد الجلوس على العرش؛ لأنه كناية عن ملك البلاد، ومثله: تربع على عرش البلاد؛ أي: تولي الحكم.
      يقول رحمه الله: "وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، كقوله تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] وقوله: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]، وقوله: ((فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ))[الفتح:29] وفي الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر ملبياً}، وقال علي : {أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الغرز، قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها، قال: الحمد لله} فهل تجد في هذه المواضع موضعاً واحداً أنه بمعنى الاستيلاء والقهر؟" لاتجد ذلك أبداً، وإنما هو بمعنى العلو والارتفاع والصعود والاستقرار.
      وكلمة (استقر) نقلت عن بعض المفسرين، فإنه نقل عن أبي العالية أنه قال: (علا)، وعن مجاهد قال: (ارتفع) وعن مقاتل والكلبي أنهما قالا: (استقر)، لكن الذهبي رحمه الله قال: (لا تعجبني كلمة استقر).
      ففي مختصر العلو (ص 266، 280) بتعليق الشيخ الألباني (266-280) نقل الذهبي رحمه الله عن أبي عبيدة اللغوي الإمام المعروف، أن معنى استوى: (علا وصعد)، كما ورد عن مجاهد وأبي العالية: علا وارتفع، وكلامهما ذكـره البخاري -رحمه الله- في كتاب التوحيد (3/403) مع الفتح، والإمام الذهبي رحمه الله ذكر أن البغوي في تفسيره نقل كلام هؤلاء، وهو أن استوى بمعنى: (صعد وعلا)، وكلام مقاتل والكلبي أنها بمعنى: (استقر)، لكن قال الذهبي -رحمه الله- عقب ذلك: (ولا يعجبني قوله: استقر).
      وعلى كل حال فالمسألة ليست بكبيرة، فالذي يهمنا أن نعرف أن استوى بمعنى: علا وارتفع وصعد، والمعاني كلها متقاربة إن شاء الله.
      وأريد أن أنبه إلى أن أهل البدع ومن تأثر بهم يرون أن (استقر) توهم معنى المماسة أو الملامسة، أو ما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة التي يقولونها.
      فنقول: إن ما صح من تفسير عن السلف، فإنه لا يوهم ذلك، وإن كان في أذهان الناس أنه قد يوهم.
      ولا يلزم من إثبات الاستقرار -لو صح- المماسة ولا الملامسة، وما أشبه ذلك.
      وهنا لابد أن نشير إلى أمر وهو: أن الشيخ الألباني -رحمه الله- ذكر في مختصر العلو قول صاحب بدء الأمالي في عقيدة الماتريدية :
      بلا وصف التمكن واتصال
      فقال: "فهؤلاء يثبتون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش، بلا تمكن ولا اتصال" وأيضاً ذكر الشيخ جزاه الله خيراً في جواب له في بعض أشرطته هذا البيت الشعري السابق، وقال: "إن هذا دليل على أن هذه هي العقيدة الصحيحة، لكن المتأخرين من الماتريدية لم يوافقوها؛ بل خرجوا عنها وأولوا".
      ونحب أن ننبه إلى أن هذا قد يحدث لبساً، فقد يظن أن أهل السنة يقولون: علا أو ارتفع بلا مماسة وبغير استقرار ولا اتصال ولا ملامسة، ولا كذا ولا كذا.
      وهذه الألفاظ من الألفاظ المجملة التي تحتمل معاني، وإن كان ظاهرها التنزيه، لكن أهل السنة لا يثبتونها، وإن كان المراد بها نفي المماثلة.
      إن أهل السنة يقولون: ليس كمثله شيء، لكنهم لا يقولون: إنه علا وارتفع بلا مماسة ولا ملامسة ولا استقرار، لأن هذه الزيادات من البدع المحدثة.
      ولأنه إذا أردنا بالقول بها نفي اللوازم الباطلة التي ذكرها بعض أهل البدع قديماً؛ فمن سيأتي من أهل البدع ربما يذكر لوازم أخرى، فإذا كانت الزيادات السابقة ترد على الأولين ما ذكروه من لوازم باطلة، فمن يرد على الآخرين ما قد يذكرونه من لوازم؟!
      إن المؤمن لا يورد هذه الزيادات، بل يقول: استوى، علا، ارتفع، صعد، استوى استواء يليق بجلاله ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وهذا هو منهج أهل السنة سواء في كلمة استوى أو في غيرها، يثبتون الصفة دون أن يأتوا بهذه القيود المبتدعة.
      وقد نبهت على ذلك؛ لأن كلمة الشيخ أثابه الله -لكونه إماماً يقتدى به- قد توهم أنه يزكي هذا القول بإطلاق، وهو لا يقول ذلك فيما يظهر لي من كلامه.
      ثم قال ابن القيم رحمه الله: "الوجه الثامن عشر: أن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه، كما قال تعالى في السفينة: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]" ثبتت واستقرت، وتمكنت بعد أن كانت تضطرب وتميد فوق الموج؛ أي: رست عليه واستقرت على ظهره، "وقال تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] وقال في الزرع: ((فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ))[الفتح:29]، فإنه قبل ذلك يكون فيه ميل واعوجاج لأجل ضعف سوقه، وإذا استغلظ الساق، واشتدت السنبلة، استقرت.
      ومنه:
      قد استوى بشر على العراق
      فإنه يتضمن استقراره وثباته عليها ودخوله دخول مستقر ثابت غير مزلزل، وهذا يستلزم الاستيلاء أو يتضمنه، فالاستيلاء لازم معنى الاستواء، لا في كل موضع، بل في الموضع الذي يقتضيه، ولا يصلح الاستيلاء في كل موضع يصلح فيه الاستواء، بل هذا له موضع، وهذا له موضع ولهذا لا يصلح أن يقال: استولت السنبلة على ساقها، ولا استولت السفينة على الجبل، ولا استولى الرجل على السطح إذا ارتفع فوقه.
      الوجه التاسع عشر: أنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك، لكان المستوي على العراق عبد الملك بن مروان لا أخوه بشر، فإن بشراً لم يكن ينازع أخاه عبد الملك ولم يكن ملكاً مثله، وإنما كان نائباً له عليها ووالياً من جهته، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر، بخلاف الاستواء الحقيقي وهو الاستقرار فيها والجلوس على سريرها، فإن نواب الملوك تفعل هذا بإذن الملوك.
      الوجه العشرون: أنه لا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بل بينه وبينها بعد كثير: أنه قد استوى عليها، فلا يقال: استوى أبو بكر على الشام ولا استوى عمر على مصر والعراق، ولا قال أحد قط: استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، مع أنه استولى عليها واستولى خلفاؤه على هذه البلاد، ولم يزل الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات، ويتوسعون في نظمهم واستعاراتهم، فلم يسمع عن قديم منهم -جاهلي ولا إسلامي- ولا محدث أنه مدح أحداً قط أنه استوى على البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه، فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة".