قد أجاد
ابن القيم الرد على من زعموا أنه (استوى) بمعنى (استولى) مستدلين بذلك البيت السابق؛ قال رحمه الله: "الوجه السادس عشر أن هذا البيت محرف، وإنما هو هكذا:
بشر قد استولى على العراق
فالذين عكسوا البيت أولوا ذلك متعمدين، فقالوا: (إن استوى بمعنى استولى).
يقول: "هكذا لو كان معروفاً من قائل معروف، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها؟!"، أي: حتى إلى هذا النصراني لم يثبت أنه قاله، وإنما نسب إليه، فاختطفوه وغيّروه وحرفوه، وبنوا عليه دينهم وعقيدتهم، سبحان الله! كيف يلقى الله يوم القيامة من يقول بمثل هذا القول؟! كيف يلقى ربه يوم القيامة معتقداً هذا الاعتقاد مستنداً إلى بيت منسوب محرف؟!
وهذا الكلام ليس عن فراغ وليس استطراداً، فكثير من المسلمين اليوم في معاهد علمية وفي كليات جامعية، ابتداءً من الأزهر، إلى كليات الشريعة في كثير من البلدان، وكذلك المعاهد والكتاتيب في المساجد، في أكثر بلاد العالم الإسلامي، إذا مرت بهم هذه الكلمة (استوى)، قالوا: معناها (استولى).
فلا تظنوا أن هذا مجرد رد على فرقة بائدة قديمة، نشأت قبل مئات السنين ثم انقرضت، أو فرق وهمية كما يظن بعض الناس، بل هذا موجود ومقرر ومعتمد عليه في أكثر المعمورة؛ لأنهم لا يثبتون أن الله سبحانه وتعالى استوى كما أخبر، وقد نبتلى بمثل هؤلاء، ويكونون ممن يدرس عندنا، ويكونون أئمة يصلون بنا.
ومن هنا نقول: إنه يجب علينا ضرورة أن نفقه الأدلة والحجج البالغة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لغة العرب؛ لرد الناس إلى طريق الصواب والهدى، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم قال
ابن القيم رحمه الله: "الوجه السابع عشر: أنه لو صح هذا البيت وصح أنه غير محرف، لم يكن فيه حجة، بل هو حجة عليهم، وهو على حقيقة الاستواء، فإن
بشراً هذا كان أخا
عبد الملك بن مروان، وكان أميراً على
العراق، فاستوى على سريرها كما هو عادة الملوك ونوابها، أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، كقوله تعالى: ((
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13]" لو فرضنا أنه جاء كما ذكروه فليس فيه إشكال؛ لأنه بالمعنى اللغوي مثل قوله تعالى: ((
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] فمعنى: استوى على
العراق، استوى على سرير الملك، وكما هو معلوم أنه إلى اليوم يسمى عند بعض الناس عيد الجلوس على العرش؛ لأنه كناية عن ملك البلاد، ومثله: تربع على عرش البلاد؛ أي: تولي الحكم.
يقول رحمه الله: "وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة، كقوله تعالى: ((
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] وقوله: ((
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]، وقوله: ((
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ))[الفتح:29] وفي الصحيح {
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر ملبياً}، وقال
علي : {
أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الغرز، قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها، قال: الحمد لله} فهل تجد في هذه المواضع موضعاً واحداً أنه بمعنى الاستيلاء والقهر؟" لاتجد ذلك أبداً، وإنما هو بمعنى العلو والارتفاع والصعود والاستقرار.
وكلمة (استقر) نقلت عن بعض المفسرين، فإنه نقل عن أبي العالية أنه قال: (علا)، وعن مجاهد قال: (ارتفع) وعن مقاتل والكلبي أنهما قالا: (استقر)، لكن الذهبي رحمه الله قال: (لا تعجبني كلمة استقر).
ففي مختصر العلو (ص 266، 280) بتعليق الشيخ الألباني (266-280) نقل الذهبي رحمه الله عن أبي عبيدة اللغوي الإمام المعروف، أن معنى استوى: (علا وصعد)، كما ورد عن مجاهد وأبي العالية: علا وارتفع، وكلامهما ذكـره البخاري -رحمه الله- في كتاب التوحيد (3/403) مع الفتح، والإمام الذهبي رحمه الله ذكر أن البغوي في تفسيره نقل كلام هؤلاء، وهو أن استوى بمعنى: (صعد وعلا)، وكلام مقاتل والكلبي أنها بمعنى: (استقر)، لكن قال الذهبي -رحمه الله- عقب ذلك: (ولا يعجبني قوله: استقر).
وعلى كل حال فالمسألة ليست بكبيرة، فالذي يهمنا أن نعرف أن استوى بمعنى: علا وارتفع وصعد، والمعاني كلها متقاربة إن شاء الله.
وأريد أن أنبه إلى أن أهل البدع ومن تأثر بهم يرون أن (استقر) توهم معنى المماسة أو الملامسة، أو ما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة التي يقولونها.
فنقول: إن ما صح من تفسير عن السلف، فإنه لا يوهم ذلك، وإن كان في أذهان الناس أنه قد يوهم.
ولا يلزم من إثبات الاستقرار -لو صح- المماسة ولا الملامسة، وما أشبه ذلك.
وهنا لابد أن نشير إلى أمر وهو: أن الشيخ الألباني -رحمه الله- ذكر في مختصر العلو قول صاحب بدء الأمالي في عقيدة الماتريدية :
بلا وصف التمكن واتصال
فقال: "فهؤلاء يثبتون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش، بلا تمكن ولا اتصال" وأيضاً ذكر الشيخ جزاه الله خيراً في جواب له في بعض أشرطته هذا البيت الشعري السابق، وقال: "إن هذا دليل على أن هذه هي العقيدة الصحيحة، لكن المتأخرين من الماتريدية لم يوافقوها؛ بل خرجوا عنها وأولوا".
ونحب أن ننبه إلى أن هذا قد يحدث لبساً، فقد يظن أن أهل السنة يقولون: علا أو ارتفع بلا مماسة وبغير استقرار ولا اتصال ولا ملامسة، ولا كذا ولا كذا.
وهذه الألفاظ من الألفاظ المجملة التي تحتمل معاني، وإن كان ظاهرها التنزيه، لكن أهل السنة لا يثبتونها، وإن كان المراد بها نفي المماثلة.
إن أهل السنة يقولون: ليس كمثله شيء، لكنهم لا يقولون: إنه علا وارتفع بلا مماسة ولا ملامسة ولا استقرار، لأن هذه الزيادات من البدع المحدثة.
ولأنه إذا أردنا بالقول بها نفي اللوازم الباطلة التي ذكرها بعض أهل البدع قديماً؛ فمن سيأتي من أهل البدع ربما يذكر لوازم أخرى، فإذا كانت الزيادات السابقة ترد على الأولين ما ذكروه من لوازم باطلة، فمن يرد على الآخرين ما قد يذكرونه من لوازم؟!
إن المؤمن لا يورد هذه الزيادات، بل يقول: استوى، علا، ارتفع، صعد، استوى استواء يليق بجلاله ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وهذا هو منهج أهل السنة سواء في كلمة استوى أو في غيرها، يثبتون الصفة دون أن يأتوا بهذه القيود المبتدعة.
وقد نبهت على ذلك؛ لأن كلمة الشيخ أثابه الله -لكونه إماماً يقتدى به- قد توهم أنه يزكي هذا القول بإطلاق، وهو لا يقول ذلك فيما يظهر لي من كلامه.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "الوجه الثامن عشر: أن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه، كما قال تعالى في السفينة: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]" ثبتت واستقرت، وتمكنت بعد أن كانت تضطرب وتميد فوق الموج؛ أي: رست عليه واستقرت على ظهره، "وقال تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ))[الزخرف:13] وقال في الزرع: ((فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ))[الفتح:29]، فإنه قبل ذلك يكون فيه ميل واعوجاج لأجل ضعف سوقه، وإذا استغلظ الساق، واشتدت السنبلة، استقرت.
ومنه:
قد استوى بشر على العراق
فإنه يتضمن استقراره وثباته عليها ودخوله دخول مستقر ثابت غير مزلزل، وهذا يستلزم الاستيلاء أو يتضمنه، فالاستيلاء لازم معنى الاستواء، لا في كل موضع، بل في الموضع الذي يقتضيه، ولا يصلح الاستيلاء في كل موضع يصلح فيه الاستواء، بل هذا له موضع، وهذا له موضع ولهذا لا يصلح أن يقال: استولت السنبلة على ساقها، ولا استولت السفينة على الجبل، ولا استولى الرجل على السطح إذا ارتفع فوقه.
الوجه التاسع عشر: أنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك، لكان المستوي على العراق عبد الملك بن مروان لا أخوه بشر، فإن بشراً لم يكن ينازع أخاه عبد الملك ولم يكن ملكاً مثله، وإنما كان نائباً له عليها ووالياً من جهته، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر، بخلاف الاستواء الحقيقي وهو الاستقرار فيها والجلوس على سريرها، فإن نواب الملوك تفعل هذا بإذن الملوك.
الوجه العشرون: أنه لا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بل بينه وبينها بعد كثير: أنه قد استوى عليها، فلا يقال: استوى أبو بكر على الشام ولا استوى عمر على مصر والعراق، ولا قال أحد قط: استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، مع أنه استولى عليها واستولى خلفاؤه على هذه البلاد، ولم يزل الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات، ويتوسعون في نظمهم واستعاراتهم، فلم يسمع عن قديم منهم -جاهلي ولا إسلامي- ولا محدث أنه مدح أحداً قط أنه استوى على البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه، فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة".