فهذا هو تصديق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} ثُمَّ تلا ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً))[الزخرف:58] الآية، والذي ضربوه جدلاً هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:57، 58] الآية، ولما ذهب ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى الخوارج ليناظرهم وليقيم عليهم الحجة قالوا: لا تسمعوا لكلام ابن عباس فإنه من قريش وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) وهذه حقيقة؛ لأن قريشاً أُوتوا الجدل، ولهذا جادلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالاً طويلاً، لكنهم في الإسلام أصبحوا قوة للدعوة، وإلزاماً للخصم بهذا الدين.
وهَؤُلاءِ القوم الذين اصطفاهم الله بأن جعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وجعل لغتهم هي اللغة التي نزل بها القرآن، وكفار قريش يعلمون أنه لا مقارنة، ولا وجهة للنسبة بين عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- وبين آلهتهم، ولكنهم يجادلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)) [الأنبياء:98]
ويقولون: إن عيسى لا يدخل النار؛ إذاً آلهتنا لا تدخل النار، فهذا من الجدل بغير الحق، ومعروف أن عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- لم يعبد وهو راض بالعبادة، بل دعاهم إِلَى عبادة الله وحدة لا شريك له حتى مات، ويَوْمَ القِيَامَةِ يقول عنه الله: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ))[المائدة:116-117] أي: وهو حي -عَلَيْهِ السَّلام- ((َلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم)) [المائدة:117] إِلَى آخر الآيات، فكان وهو حي يتبرأ من شركهم ومن عبادتهم في حياته، لأنه دعاهم إِلَى عبادة الله وحده، أما معبودات الْمُشْرِكِينَ وكل من عبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة، فإنه يحشر معهم، كما هو حال فرعون ومن معه الذين يجعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أئمة يدعون إِلَى النار، والعياذ بالله.
كما قال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ))[هود:98]، لأنهم كانوا يعبدونه، وكان يدعوهم إِلَى عبادة نفسه، وكان راضياً بذلك، ويقول: إنه ربهم الأعلى، وأن له ملك مصر، والأنهار التي تجري من كذا وكذا، فيَوْمَ القِيَامَةِ يقدم قومه فيوردهم النَّار وبئس الورد المورود عافانا الله وإياكم من ذلك.
فهذا هو المقصود بهذه الآية: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)) أنه عيسى عَلَيْهِ السَّلام.

وفي حديث عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم} فيه أن النَّاس نوعان: نوع كريم متسامح خلوق، وهذا ينطبق عليه وصف هذا الرجل الذي يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بين يدي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكان تاجراً يتعامل مع الناس، فكان كل ما بقي بينه وبين أحد من النَّاس -كما يقال- قليل من الحساب: تجاوز عنه راضياً بالأمر الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: {سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا باع} فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول له: {قد تجاوزنَّ عنك بما كنت تتجاوز عن النَّاس} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجزاء من جنس العمل، وهذا التجاوز: لا يعني الضعف والخور والجبن، عن الموقف الحق، لكنها الرقة والرفق والحكمة مع قول الحق كاملاً.
أما النوع الآخر: فهو الألد الخصم المعاند فتحتاج حتى تقنعه أن تبذل الجهد الجهيد في أمر بسيط، وتخاف إن قلت له كلمة أن يماطلك ويجادلك ويتهمك، ويذكرك بأخطاء سابقة، فهذا لا تحب أن تجالسه ولا تعرض عليه أي قضية، فإذا كَانَ هذا هو حاله في التعامل في أمور الدنيا، فكيف بالتعامل مع الله، وبالوقوف في مواقف الخصومة والعناد من الشرع؟!
كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-:((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ)) [البقرة:204] أي: إذا تكلم ((وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ))وإن قَالَ: الله يعلم أني لم أقصد إلا الحق والخير وكذا ((وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) هذا هو الذي نهى عنه الله ورسوله، لأن هذا الدين حنيفية سمحة،
وعلى الإِنسَان أن يأخذه بالإيمان والتسليم والإذعان، وباليسر، وعلينا أن نجتنب التكلف والتشدد، حتى في طريقة أخذنا لهذا الدين، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيها الناس! حجوا إن الله قد كتب عليكم الحج، فَقَالَ رجل: أفي كل عام يارَسُول الله؟ فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قلت نعم لو جبت، إنما هلك من كَانَ قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم}.