لما ضل النَّاس عن الهدى وقعوا في هذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} يستعيضون عن الإيمان واليقين الذي محله القلب بالاقتناع العقلي الذي هو من أعمال الذهن، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم الاقتناع الذهني العقلي مقام اليقين القلبي أبداً، وهذا مما يجب أن نتنبه له!
ولا بد أن نعرف أننا عندما ندعو النَّاس لا ندعوهم إِلَى الاقتناع والتسليم العقلي، أو إِلَى نظريات عقلية مجردة، بل ندعوهم إِلَى اليقين والإيمان الذي يتبعه الانقياد والإذعان العملي، أما الاقتناع النظري فلا يترتب عليه إيمان ولا انقياد، ولا إذعان لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
أما إذا أردنا أن نقنع النَّاس بأن الإسلام، لا يتعارض مع العلم، ولا مع الحضارة نعقد مؤتمراً -مثلاً- ونقرأ عليهم أحكام الإسلام فيجدون أنها تطابق وتوافق الحضارة فهذا ممكن ولا يناقش منهم أحد، وإن ناقش أحد أقنعناه وجادلناه بالعقل فيسكت، لكن هذا لن يؤدي الثمرة التي نريد؛ كأن نقنع الإِنسَان بضرورة أن يؤمن بالله وحده، وأنه لا خلاص له ولا نجاة من عذاب الله، ولا سعادة له في الدنيا إلا بأن يؤمن بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمسألة فيها دقة وهذا من لوازم هذا؛
ولكن هدف الدعوة ليس الاقتناع الذهني، وإنما هو الاقتناع اليقيني القلبي.
فهَؤُلاءِ المتكلمون، حولوا الأمر إِلَى قضايا نظرية، فَقَالُوا: لا بد أن نقنع الفلاسفة بأن عذاب القبر حق، فتجادلوا، فظهرت طائفة: تنكر عذاب القبر وقالت: نَحْنُ لا نستطيع إثباته بالعقل؛ لأن الفلاسفة يلزموننا، فلا نجد إلا أن نؤول النصوص، وأولوا الصفات بحجة أنهم لا يستطيعون أن يقنعوا الفلاسفة أن هذه الصفات حقيقية، وهكذا أتوا إِلَى كثير من الأحكام، فحرفوها لتوافق عقول المجادلين من الفلاسفة وأمثالهم، بينما هم يريدون الدفاع عن الدين وإثبات حقائقه.