المادة كاملة    
الكرسي والعرش مخلوقان من مخلوقات الله تعالى التي نؤمن بها ونثبتها، وقد اختلف العلماء في معنى الكرسي، فمنهم من يقول: إن الكرسي غير العرش، ومنهم من يقول: إن الكرسي هو العرش، ومنهم من يقول: هو العلم. والراجح أنه موضع قدمي الرب عز وجل، ولا يلزم من إثبات العرش والكرسي أن الله محتاج إليهما، فإن الله تعالى مستغن عن العرش وما دونه.
  1. اختلاف العلماء في معنى الكرسي

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأما الكرسي، فقال تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[البقرة:255] وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[البقرة:255] أنه قال: [[الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى]]، وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس .
    وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش.
    وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض}.
    وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم كما قيل في العرش، وإنما هو كما قال غير واحد من السلف: بين يدي العرش كالمرقاة إليه
    ] اهـ
    الشرح:
    الكرسي مثل العرش في كونه من مخلوقات الله عز وجل التي نؤمن بها ونثبتها كما صح في صفاتها.
    وقد وقع اختلاف في معنى الكرسي: فمن الناس من قال: إن الكرسي هو العرش.
    ومنهم من أوَّله وقال: الكرسي هو العلم.
    والمذهب الوسط الحق هو إثبات الكرسي على الصفات التي سنذكرها إن شاء الله تعالى، وقد ذكر بعضاً منها المصنف رحمه الله تعالى.
    يقول: "وأما الكرسي، فقال تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255" ].
    هذه هي آية الكرسي المعروفة لدى الجميع، وقد سميت بذلك لذكر الكرسي فيها، ولم يذكر الكرسي في كتاب الله تعالى إلا في هذه الآية، كما أن ذكر الكرسي في الأحاديث المرفوعة نادر مع أن أكثرها لم يصح.
    ونحن نثبته بنص الآية، والأحاديث الصحيحة الآتي ذكرها.
    ثم قال: "وقد قيل: هو العرش" وهذا القول ذهب إليه بعض العلماء، وسوف نورد إن شاء الله بعض ما قالوا في مسألة يسمونها الإقعاد -ولا يهمنا من إيراد المسألة سوى أن بعض السلف يرون أن العرش هو الكرسي- إذ بعض الناس يثبتها والبعض الآخر لا يثبتها، وهذه المسألة ذكرها أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد في كتابه السنة، بتحقيق الدكتور محمد بن سعيد القحطاني .
    وأكثر من تكلم في موضوع الكرسي ثلاثة من المؤلفين هم: الإمام الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، والثاني: الإمام عبد الله بن الإمام أحمد، والثالث: الإمام اللالكائي الذي حقق كتابه الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان .
    1. الكلام على مسألة الإقعاد على الكرسي

      حديث الإقعاد على الكرسي وردت فيه رواية ذكرها الإمام عبد الله بن أحمد رقم (587) عن عمر رضي الله عنه قال: [[إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي... قال الإمام عبد الله بن أحمد "فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع " والإمام أحمد يروي هذا الحديث عن وكيع "فغضب وكيع وقال -للرجل الذي اقشعر عند سماع الحديث-: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها]] يعني: فلماذا تقشعر من سماع الحديث؟
      والراجح لدينا أن هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها الإقعاد لا تصح؛ ولو صح فالمقصود به العرش، لكن يحتاج إلى إثبات لفظ القعود ولفظ الجلوس، ولسنا بصدد هذا الآن، وإنما المقصود من إيراد هذا الأثر أن يعلم أنه حجة من يقولون: إن الكرسي هو العرش.
      يقول المصنف: "والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس وغيره روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش والحاكم في مستدركه، وقال: إنه شرط على الشيخين ولم يخرجاه".
    2. الكلام على تضعيف حديث أبي ذر في صفة الكرسي

      ذكر ابن أبي شيبة حديث أبي ذر رضي الله عنه -وهو حديث ضعيف نذكره للفائدة- قال: {دخلت المسجد الحرام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فجلست إليه فقلت: يا رسول الله! أيما آية أنزلت عليك أفضل؟ -يعني: ما هي أفضل آية أنزلت عليك؟- قال: آية الكرسي، ثم قال: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة} ولعل الشيخ الألباني صححه باعتبار الطرق الأخرى.
      "حدثنا أبي عن جرير بن عبد الحميد عن ليث عن مجاهد قال: [[ما السماوات والأرض إلا كحلقة ملقاة بالفلاة، وما أخذت من الكرسي إلا كما أخذت تلك الحلقة من الأرض]] "، وهذا موقوف على مجاهد ولعل الشيخ الألباني صححه بمجموع الطرق.
      ثم الحديث الآخر: حديث أبي موسى قال: [[الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل]] وقد سبق أن ذكرنا قول الإمام الذهبي أنه لا يصح في الأطيط حديث مرفوع.
      ثم ذكر بسند آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255] قال: [[الكرسي موضع القدمين، ولا يقدر أحد قدره ]] أي: لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره من عظمته ومن سعته، وإسناد هذا الأثر عن ابن عباس حسن.
    3. ترجيح أن الكرسي غير العرش

      يتضح من هذه الطرق إثبات الكرسي وأنه موضع القدمين، وأنه غير العرش؛ ورد كذلك عن أربعة من السلف : عن أبي موسى، وابن عباس، وأبي مالك، ووهب بن منبه.
      فما ورد عن ابن عباس وعن وهب بن منبه صحيح، وما ورد عن أبي موسى لم يثبت، وما ورد عن أبي مالك شيخ السدي - لم يثبت أيضاً؛ لكن ما ورد عن ابن عباس وصح يكفي في الاعتماد عليه؛ لأن هذا مما له حكم الرفع ومما لا يقال بالرأي.
      والإمام الحافظ ابن أبي شيبة وكذلك اللالكائي قد ذكرا رواية أبي مالك ورواية أبي موسى، وأما رواية ابن عباس ورواية وهب بن منبه فلم يذكراها لكن هي التي ثبتت.
      ونذكر من كتاب السنة رواية أبي موسى قال: [[الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل]]. وهو نفس الحديث السابق.
      ثم ذكر أثراً آخر بعده وهو عن السدي عن أبي مالك [[في قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255] قال: إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق، على أرجائها أربعة من الملائكة، لكل ملك منهم أربعة وجوه: وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه ثور؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرض والسماوات، ورءوسهم تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، قال: وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي]]، وهذا من جملة التفسيرات التي نقلت، لكن سبق أن قلنا: إنها لا تصح فقد قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أبي نا رجل ..؛ وهذا مبهم.
      وأما الرواية الأخرى -وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما -فقد ذكرها أيضاً الإمام عبد الله بن أحمد بسنده إلى أن قال: {إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع قدميه، وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه} وفيه زيادة أخرى قال: {وإن السماوات في خلق الرحمن جلَّ وعز مثل قبة في صحراء} يعني: ما السماوات بالنسبة إلى العرش والكرسي إلا مثل قبة في صحراء؛ ثم قال عبد الله بن أحمد بعد ذلك: عن سفيان عن ليث عن مجاهد قال: [[ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة]] ثم ذكر بعد ذلك رواية عبد الله بن خليفة التي فيها ذكر الأطيط أيضاً، وقد سبق أن نقلنا كلام الإمام الذهبي رحمه الله في ذلك.
      والشيخ ناصر هنا ذكر بعضه في مختصر العلو الحديث (85) صفحة (123)؛ قال الذهبي رحمه الله: "حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: [[الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل]] أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات، وليس للأطيط مدخل في الصفات أبداً، بل هو كاهتزاز العرش لموت سعد، وكتفطر السماء يوم القيامة.. ونحو ذلك، ومعاذ الله أن نعده صفة لله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت من نص ثابت" انتهى كلام الذهبي.
      ثم قال الشيخ ناصر : "قلت: وإسناده موقوفاً صحيح" ثم أحال التخريج إلى "عبد الله في السنة، وأبو جعفر بن أبي شيبة في العرش، ورجاله كلهم ثقات معروفون، وأعله الكوثري المعروف بانحرافه عن أهل السنة في تعليقه على الأسماء والصفات بأن في إسناده عمارة بن عمير ذكره البخاري في الضعفاء".
      قال الشيخ ناصر: "قلت: كذا قال، وهو خطأ محض، ولست أدري أوقع ذلك منه سهواً أم عمداً، فالرجل قد بلونا منه المغالطة التي تشبه الكذب، بل الكذب نفسه، كما بين ذلك العلامة اليماني في رده العظيم عليه المسمى بـالتنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل.
      أقول هذا؛ لأن عمارة بن عمير تابعي ثقة اتفاقاً، وقد أخرج له الشيخان في صحيحيهما، وقال الحافظ: ثقة ثبت، ومثله لا يمكن أن يخفى على مثل الكوثري، وليس هو في ضعفاء البخاري كما زعم، وإنما فيه عمارة بن جوين وهذا متروك! فغفرانك اللهم" انتهى كلام الشيخ ناصر.
      والكوثري له اطلاع واسع لا يفطن لتلبيساته إلا العالم المتمكن في علم الرجال.
      ونخلص من هذا إلى أن الكرسي حق وأنه أصغر من العرش وأنه موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى.
      ثم قال المصنف بعد ذكره حديث ابن عباس: "وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس .
      وقال السدي : السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش" وهذا أيضاً مما يدل على أن العرش غير الكرسي.
      وقال أيضاً: "وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض} وقيل: كرسيه علمه" وهذا القول ذكره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى واختاره، أي: أن الكرسي هو العلم، وهذا خطأ منه رحمه الله وغفر لنا وله، وهذا من الأخطاء التي قد يقع فيها العلماء، ولكن لا يُقرون على خطئهم مع علو مكانتهم وقدرتهم.
      يقول المصنف: {وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة} وقد رواه أيضاً الحاكم والبيهقي "كما تقدم، ومن قال غير ذلك" أي من قال: إنه ليس كما ذكر ابن عباس "فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم" يعني: قد يكون في كلام العالم الجليل من أهل السنة شيء منقول عن أهل الكلام المذموم -وإن لم يشعر هو بذلك- وهذا يرجحه المصنف رحمه الله تحرزاً؛ لأن أهل الكلام بثوا سمومهم في معظم الكتب؛ في شروح السنة وفي التفاسير وفي غيرها.
      يقول: "كما قيل في العرش، وإنما هو كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه" يرجح القول الذي هو منقول عن الصحابة مثل قول ابن عباس رضي الله عنه، والذي هو الصحيح في عقيدة أهل السنة والجماعة، وأما ما قاله الإمام أبو جعفر بن جرير أو من تبعه ممن قبله أو بعده، فإن كان القائل من أهل السنة، فهذا قد وقع في شيء من كلام أهل الكلام المذموم.
      ولو أننا أخذنا في نقاش هذا القول نقاشاً عقلياً بالمعنى والفهم والاستنباط، لتبين لنا أنه لا يصح أن يفسر الكرسي بالعلم؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))[البقرة:255] فإن قلنا: وسع علمه السموات والأرض لم يصح ذلك؛ لأن علم الله أحاط بكل شيء، وعلمه ليس فقط في السموات والأرض، فلا معنى لأن يقال: إن علم الله وسع السموات والأرض، فكلام الله تعالى ينزه عن أن يكون لا معنى له أو لا يتسم بالذروة في البلاغة، أما إذا فسر الكرسي بأنه مخلوق عظيم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وأنه أكبر من السماوات والأرض وما هي منه إلا كما ذكر في الآثار، فهذا هو الحق.
  2. استغناء الله عن العرش

     المرفق    
    قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله:
    [وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    أما قوله: "وهو مستغن عن العرش وما دونه" فقال تعالى: ((فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97] وقال تعالى: ((وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا؛ لأنه لما ذكر العرش والكرسي، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش، ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي، محيطاً به، حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه؛ فانظر إلى السماء، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها.
    فالرب تعالى أعظم شأناً، وأجلُّ من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
    ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصَّلوا هذا التفصيل، لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلُّوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: {الاستواء معلوم، والكيف مجهول}. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم
    ] اهـ
    الشرح:
    يعلل المصنف رحمه الله قول الإمام أبي جعفر: وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه" فيقول: "وإنما قال الشيخ رحمه هذا الكلام هنا؛ لأنه لمَّا ذكر العرش والكرسي، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش، وما دون العرش، ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه" لأن أهل التأويل والمخالفين لـأهل السنة والجماعة في الصفات وفي أمور الغيب يقولون في أي صفة من الصفات: يلزم من ذلك كذا، ويلزم من ذلك كذا؛ فلإبطال هذه اللوازم وغيرها جاء المصنف رحمه الله بهذه الفقرة.
    وتفصيلها أن يقال: لا يلزم من إثبات العرش لله ومن استوائه عليه أنه محتاج إليه، فالله تعالى يخلق ما يشاء، وله عز وجلَّ الحكمة البالغة في ذلك كله.
    1. انتفاء اللوازم الباطلة من إثبات العلو

      يقول: "وكون العالي فوق السافل، لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي، محيطاً به، حاملاً له ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه" وهذا دفع للازم افتقار العالي للسافل كما زعمه أهل الأهواء الضاربين في الأوهام والخيالات ولم يثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه مع اعتقاد أنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] ولو آمنوا بذلك ما تاهوا في هذه الخيالات والظنون.
      وقوله: "فانظر إلى السماء" مثال حسي مشاهد "فهي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟" فليست الأرض حاملة للسماء، ولا محيطة بها ولا تحويها، ولا تفتقر إليها السماء، ومع ذلك فالسماء فوق الأرض، فإذا كان هذا في حق مخلوق من مخلوقات الله يرى وتدركه الأبصار، فكيف بالله تعالى الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وله المثل الأعلى، والذي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] سبحانه وتعالى؟! فهذا -والحمد لله- يبين صحة مذهب أهل السنة والجماعة من جهة النظر والعقل السليم، والتفكر الصحيح، كما هو موافق لنصوص الوحي.
      يقول: "فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك" تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    2. لوازم العلو الخاصة بالله تعالى

      "بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حملُهُ بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل".
      هذه اللوازم هي لوازم علو الله أيضاً، فهي من خصائصه عز وجل: (( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ))[فاطر:41]، فهو الذي يحمل بقدرته العرش وما دونه، فالله هو الذي يمسك العرش ويمسك كل مخلوقاته بقدرته عز وجل، فهي التي تحتاج وتفتقر إليه، وهو الغني عنها الكبير المتعال الذي لا يحتاج إليها أبداً، وهو المحيط عز وجل بكل شيء كما سبق إيضاح ذلك من النقل والعقل "فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته" فالعرش، وحملة العرش، والكرسي، والسماوات، والأرض وسائر المخلوقات يمسكها الله عز وجل ويحملها بقدرته، قال: "وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له" ذكر كل هذا الكلام؛ ليدفع لوازم أهل الأهواء التي هي محض تقول على الله تعالى، ولو جئنا ببعض ما قاله أهل الكلام لرأينا العجب، ولأصابنا الملل من الكلام السمح الذي يقولونه مما لا يليق بالله تعالى.
      ومن أقرب الأمثلة على ذلك كتاب التفسير الكبير للفخر الرازي حيث تجدون من هذه الأقاويل الشيء الكثير، وكما قال ابن القيم رحمه الله لما ذكر قوله في رسالة آدم في قوله: "لعل آدم وحواء فهما من قوله تعالى: ((وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ))[البقرة:35] أن النهي هو للاجتماع لا للافتراق، يعني: لا تأكلا معاً، لكن لو أكل كل واحد منكما وحده لكان جائزاً؛ فأكلا" يقول ابن القيم : " وا أسفاه على المحابر والصحف التي يسود فيها مثل هذا الكلام!" يعني: هذا الكلام لا يساوي الحبر والصحيفة التي كتب عليها.
      وتجدون كذلك بعض هذه الأقاويل في الشروحات المتأخرة على كتاب المواقف وكتاب النسفية، فيأتون بلوازم وخيالات باطلة يتحاشى اللسان عن ذكرها.
    3. لا منافاة بين العقل والنقل في إثبات العلو

      يقول: "ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل، لهدوا إلى سواء السبيل" هذه من العبارات الجيدة للمصنف، فلو أن أهل التعطيل -الذين عطلوا الله عن صفاته ونفوا علوه فوق خلقه- فصلوا هذا التفصيل؛ كما هو واضح من الحجج الدامغة والبراهين الجلية نقلاً وعقلاً؛ "لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل" وهو الوحي؛ لأنه لا يمكن أن يتعارضا أو أن يختلفا أو يتناقضا -أعني النقل الصحيح والعقل الصريح- كما بين ذلك شيخ الإسلام في مؤلفه الفريد درء تعارض العقل والنقل، لكنهم أتوا بأوهام باطلة، وأخذوا ينقلون النقول الباطلة مما أوقعهم في الأوهام.
      ومما ينبغي أن يشار إليه أن مما أوقعهم في هذه الأوهام أنهم وجدوا روايات موضوعة وباطلة فيها أشياء لا يصدقها العقل، ولو أنهم أخذوا العلوم من أهلها، وأتوا البيوت من أبوابها، وقالوا: يا أهل الحديث، ويا علماء الرجال، ويا علماء النقد! بينوا لنا هذا الحديث ودرجته؛ لبينوا لهم -وقد بينوا ذلك رضي الله عنهم- لكن القوم لديهم أوهام فلسفية، وظنون وتخرصات أخذوها عن اليونان والهنود وأمثالهم، ثم جاءت شبهات نقلية من الإسرائيليات من كلام أهل الكتاب، أو عن طريق نقلة ليسوا بأثبات ولا ثقات، فلما وجدوا ذلك الخليط المتمازج بنوا عليه إنكار الحق الواضح الصريح الذي ينكر هذا الخليط من فلسفة أو كذب أو نحوه.
      مثلاً: ما ورد في بعض الاسرائيليات من أن الأرض على قرن ثور، والثور على حوت... إلخ، وهذا ليس له أصل ولم يصح وليس من ديننا أبداً، فلما وجد أهل الأهواء وأهل الكلام هذا الخبر الباطل الذي لا يصح عقلاً؛ قالوا: من يثبت العلو يعتمد على هذا ويعتقده، إذاً: ننفي العلو.
      والعلماء الأثبات -كما سبق في الرسالة العرشية- أبطلوا هذه الروايات وردوها، وأما ما صح فقد بينوه بياناً شافياً، وبينوا أنه الحق وأنه لا يعارض العقل أبداً.
      ولا يجوز أن نعمل العقول في مخالفة ما صح وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الواجب في ذلك الإيمان والتسليم دون معارضة ولا منازعة ولا مدافعة، وهذا هو المتحتم على كل مؤمن، وإلا فليس هو بمؤمن.
      وثمة مسألة مهمة جداً ينبغي تذكرها وهي:
      لو أن إنسان من أهل الجاهلية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد! قد سمعت قولك ووعيت ما قلت عن ربك، ويظهر لي أنه الحق لكن لن أصدق به ولن أعتقده حتى أعرضه على شيخ قبيلتنا... فهل يعد مثل هذا الإنسان مؤمناً مسلماً؟!
      إن هذا ليس بمسلم، ولا يعد مؤمناً..
      وهكذا فعل بعض الوفود -كما في السيرة- فبنو تميم ذهبوا إلى أكثم بن صيفي يسألونه!
      ولذلك فالذين لا يؤمنون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعرضوه على أي شيء كائناً ما كان؛ ليسوا بمؤمنين.
      فإذا جاء أهل الكلام وقالوا: لا نؤمن بهذه الأدلة -كأدلة علو الله- وأدلة صفاته مثلاً -بمجرد ثبوت إسنادها وفق قواعد المحدثين- بل لا بد أن نعرضها على عقولنا وعلى البراهين والقواطع العقلية؛ فنقول: أنتم إلى الآن لم تؤمنوا؛ لأنكم إذا آمنتم بعد العرض على عقولكم -كما تزعمون- لم تؤمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بما جاء به العقل، ولو جاء حديث صحيح لا تقبله عقولكم -كحديث النزول مثلاً- لقلتم: لا نقبله لأنه لم يوافق العقل..
      إذاً: هم آمنوا بعقلهم لا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
      إن الإيمان الحقيقي هو التسليم والإذعان لجميع الشرع وهذا حال المؤمنين دائماً.
  3. الكلام على الروايات التي تذكر الاستواء

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "ونفاة العلو أهل التعطيل، لو فصلوا هذا التفصيل، لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل، فضلوا عن سواء السبيل.
    والأمر في ذلك، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54] كيف استوى؟ فقال: [[الاستواء معلوم، والكيف مجهول]] ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
    لا يصح ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام مالك، وقد ورد عن أم سلمة، وعن ربيعة شيخ مالك الذي يقال له: ربيعة الرأي، وهذه قاعدة جليلة مذكورة بالتفصيل في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، فقد ذكر الروايات عن مالك وعن ربيعة، كما أن الرواية عن أم سلمة مذكورة ومعروفه، فهذا الكلام سواء استقاه مالك رحمه الله من أم سلمة رضي الله عنها أو من شيخه أو قاله من عنده، فالأمر واحد، فهو بهذه الكلمة قد وضع قاعدة جليلة في جميع الصفات، وفي كل ما اختلف فيه من صفات الله تعالى.
    وذلك أن رجلاً جاء إلى الإمام مالك فقال: كيف استوى؟! فعلته الرحضاء -أي تصبب الإمام مالك عرقاً لمقالته؛ لأنه لا يتحمل أن أحداً من المؤمنين يسأل في حق الله تعالى هذا السؤال -ثم قال: [[الاستواء معلوم، والكيف غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة]] ثم أمر به فأخرج من الحلقة.
    وإذا سئلت: كيف صفاته؟ فقل: كيف ذاته؟! لأن الصفات فرع عن الذات كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
    وقول مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم) ليس تفويضاً كما يقولون، بل هو مذهب السلف . فالاستواء معلوم في كلام العرب، ومعلوم لمن يقرأ القرآن، وكما ورد عن أبي العالية أن (استوى) بمعنى: علا وارتفع، فالاستواء في كلام العرب يطلق على العلو والارتفاع، وهذا وارد في القرآن وفي السنة، ولعلنا إن شاء الله نفصله فيما بعد، وليس المقصود شرح هذا الكلام، وإنما بيان هذه القاعدة العظيمة: (الاستواء معلوم والكيف غير معقول) ومعنى (غير معقول) أي: لا تصل العقول إليه، فإن كان سؤالك عن الاستواء وعن معناه فهو معلوم، أما إن كان سؤالك عن كيفيته، فهذا غير معقول، والعقول لا تصل إلى ذلك.
    (والإيمان به واجب) أي: يجب علينا أن نؤمن باستواء الله تعالى استواءً يليق بجلاله وعظمته، لا كما نتوهم ونتخيل؛ لأن الله تعالى ذكره في كتابه، وهو من أمور الغيب التي نؤمن بها ونسلم.
    (والسؤال عنه بدعة) لأن السؤال عن أي صفة من صفات الله بـ(كيف) بدعة، بل هو سؤال يذم ويعاب قائله، ولا يسأل عن كيفية صفات الله عز وجل إلا من كان مريض القلب، أو جاهلاً لا يفقه من دين الله شيئاً.
    ثم أمر به فأخرج من الحلقة.
    ولو طبقت هذه القاعدة العظيمة على الهدي القويم، لأخرج كل ما يخالف هذه العقيدة، سواء كان المخالف من أهل الأهواء، أو كانت كتباً، أو كانت آراء في كتب عظيمة، فإنها تنقح ويخرج منها ما يخالف العقيدة.
    فيجب أن يعلم الناس الحق كما أنزله الله تعالى، وأن يطرد ويبعد كل قول من هذه الأقوال، إما بالرد عليه ودحضه ودمغه، أو إن أمكن أن يبعد بذاته فليبعد، ولا نقول كما يقول بعض الناس: نفتح الرأي والفكر للجميع، وعلى الناس أن تختار ما تشاء، كيف يفتح للناس مجال الضلال والإلحاد والكفر؛ فيتجهم من يتجهم ويترفض من يترفض؛ ثم نقول: هذه حرية الفكر وكل يعتقد ما يشاء؟!
    فليس هذا الذي أنزله الله تعالى، ولو أن الأمر كذلك ما شرع الجهاد، ولم توضع أبواب في كتب السنة في استتابة المرتدين وقتالهم وقتال الخوارج، وقتال أهل البدع والضلال.
    نعوذ بالله من مثل هذه الآراء الخبيثة..! وما جاءتنا هذه الأفكار إلا من جراء الاحتكاك بالغرب، ولذلك لا يرددها إلا من تأثر وتشبع بأفكارهم وآرائهم، ولذلك ينبغي أن نسد باب الشبهات والضلالات.