المادة كاملة    
مسألة إثبات العرش من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الإسلامية، ومن أنكر العرش أو أوله فإن قوله ناتج عن تحريف العلو والاستواء، وأهل السنة يثبتون العرش لله كما أثبتته النصوص، ويردون على غيرهم بالأدلة العقلية والنقلية الظاهرة في ذلك.
  1. أدلة ثبوت العرش

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وقوله: [والعرش والكرسي حق]. كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:15]... ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ))[غافر:15]... ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]... ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54] في غير ما آية من القرآن: ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ))[المؤمنون:116] ... ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))[النمل:26]... ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ))[غافر:7]... ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]... ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[الزمر:75].
    وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم} .
    وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش وبين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء} ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة .
    وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن عرشه على سماواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة} الحديث.
    وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن} يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.
    وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور}.
    والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: ((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ))[النمل: 23]، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت:
    مجدوا الله فهو للمجد أهل            ربنا في السماء أمسى كبيرا
    بالبناء العالي الذي بهر النَّا            س وسوَّى فوق السماءِ سريرا
    شرجعاً لا يناله بصر العيـ            ـن ترى حوله الملائك صورا
    الصُّور هنا جمع أصور، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة.
    ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي عَرَّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
    شهدت بأن وعد الله حق            وأن النار مثوى الكافرينا
    وأن العرش فوق الماء طاف            وفوق العرش رب العالمينا
    وتحمله ملائكة شداد            ملائكة الإله مسوَّمينا
    ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة.
    وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أذن لي أن أُحدِّث عن ملكٍ من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام} ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: {مخفق الطير سبعمائة عام}.
    وأما من حرَّف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] وقوله: ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7]؟! أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء؟! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!)]
    اهـ.
    الشرح:
    استدل المصنف رحمه الله على وجود العرش بهذه الآي من كتاب الله تعالى، ثم عقب على ذلك ببعض الأحاديث، فأما الآيات فصريحة أن لله تبارك وتعالى مخلوقاً عظيماً هو العرش، وأن الله تبارك وتعالى استوى عليه كما هو معلوم في مذهب أهل السنة والجماعة في الاستواء، فيوصف الله بالعلو كما يوصف بالاستواء؛ كما ورد في هذه الآيات.
    فالعرش -إذاً- حق؛ وقد فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم ذلك من هذه الآيات، وأن ذلك المخلوق الذي ورد في كتاب الله تعالى حق يجب الإيمان به، ولم يخوضوا كما خاض المؤولون والمبطلون ممن تقدمت الإشارة إليهم، وليس في هذه الآيات -والحمد لله- إشكال.
    1. الأصل في العقيدة الاستدلال بالحديث الصحيح

      لما أراد المصنف رحمه الله الاستدلال على إثبات العرش لله تعالى، ذكر أحاديث منها الضعيف ومنها الصحيح، وقد ذكر شيخ الإسلام في الرسالة العرشية أحاديث أكثر مما هنا وأكثرها صحيح وذكر بعض الأحاديث الضعيفة منبهاً عليها، وكان جديراً بالمصنف أن يأتي بالأحاديث الصحيحة فقط، وهو في غنى عما جاء في هذين الحديثين الضعيفين، حديث (الأوعال) وحديث (الأطيط).
      أما الحديث الأول: وهو دعاء الكرب، فهو حديث صحيح -لا شك في صحته- متفق عليه، وفيه إثبات العرش كما ذكره الله في القرآن، ويجب أن نعلم أن ما صح من الأحاديث في أبواب العقيدة، فيه الغنية والكفاية عما لم يصح، ولكن لعل في ذكرها فائدة وهو التنبيه على ما فيها، وأيضاً التنبيه والإجابة على إشكالات قد تقال عند هذه الأحاديث، لا سيما وأهل البدع في القديم والحديث يشنعون على أهل السنة لإيرادهم هذه الأحاديث ويقولون: إنها ضعيفة، وباطلة، ومخالفة للعقل... إلى آخر ما قالوا!
      ونحن لو صحت عندنا فإننا نؤمن بها، كحديث الأوعال أو حديث الأطيط -على أن الأطيط للعرش، لا كما يظن أولئك أن أهل السنة يجعلونه من صفات الله- أما وهي لم تصح فلا مجال ومكان لما يشغبون به ويشهرون به على أهل الإثبات والحق.
    2. حديث الأوعال

      حديث الأوعال رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، ويُذْكَر فيه (ثم فوق ذلك) أي: السماوات السبع، أي: فوق البحر الذي فوق السماوات: {ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش} إلى آخر ما ذكر في هذا الحديث.
      فيفهم منه أن حملة العرش الذين ورد ذكرهم في كتاب الله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] هم هؤلاء الثمانية الأوعال -إن صح الحديث- وهنا ينشأ الإشكال.
      والجواب على ذلك:
      أولاً: أن حديث الأوعال لم يصح، وهي إجابة لأي إشكال يذكر حول الحديث.
      ثانياً: أن محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه العرش ذكر رواية عن العباس بن عبد المطلب في قوله عز وجل: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ))[الحاقة:17] قال: [ثمانية أملاك في صورة الأوعال].
      فلو صح حديث الأوعال وهذا الأثر، لكان معناه: ثمانية أملاك في صورة أوعال، وهذا جواب عن تعارض الآية مع هذا الحديث على فرض صحته، وأثر العباس المذكور آنفاً أيضاً ضعيف، فسقط الاحتجاج به وبحديث الأوعال المتقدم.
      ثالثاً: أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حملة العرش ملائكة.
      ومما يدل على أنهم ملائكة: الحديث الذي ثبت وصح في قوله صلى الله عليه وسلم: {أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش}، ثم وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف العظيم، قال: {ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة -أو عاتقه مخفق الطير- سبعمائة سنة} وهذا خلق عظيم، وهو ملك من حملة العرش، وهذا مقدار ما بين شحمة أذنه وعاتقه فقط! فكيف يُظن ببقية هذا المخلوق العظيم؟ ثم كيف يكون حال بقية الملائكة؟ ثم كيف يكون العرش؟ وهذه كلها من مخلوقات الله تعالى.
      والشاهد أن حملة العرش ملائكة، وإذ لم يثبت أنهم في شكل أوعال، فيبقى أنهم -والله أعلم- في شكل آخر؛ لأنه ذكر الأذن والعاتق، وهو شكل يقرب من شكل الإنسان، والله تعالى أعلم.
      لكن نقول بظاهر ما ورد هنا، وهذا الحديث صحيح كما صحح إسناده ابن كثير رحمه الله عند آية الحاقة: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]، وكذلك صححه الذهبي رحمه الله في كتابه العلو، وكذلك محمد ناصر الدين الألباني، فهو -إذاً- حديث صحيح لاشك في صحته إن شاء الله.
    3. عدد حملة العرش

      حين ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله حملة العرش في قوله تعالى في سورة غافر: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[غافر:7] أورد إشكالاً -بعد أن ساق حديثاً عن ابن عباس - قال: [وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية؛ كما قال تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]. ]
      ثم ذكر رحمه الله إشكالاً آخر فقال: [وهنا سؤال، وهو أن يقال: ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ودلالة هذا الحديث! وبين الحديث] -وذكر حديث الأوعال- قال: [وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية...] فكأن الإشكال وقع عند الحافظ ابن كثير من جهة العدد: هل الذي يسبحون أربعة أم ثمانية؟! ومن الممكن حل الإشكال -الذي لم يجب عنه رحمه الله- بما يلي:
      أولاً: استبعاد حديث الأوعال لضعفه.
      ثانياً: الآية ليس فيها ما يدل على أن التسبيح خاص بالأربعة، لا سيما وأن بعض السلف ذكر أن أربعة من الملائكة تسبح وأربعة تجيب، إذاً كلٌ يسبح بغض النظر عما ورد من لفظ التسبيح، وذلك لا ينافي أن يكونوا ثمانية، فقد يسبح كل أربعة منهم وحدهم أو الثمانية معاً.
      هناك إشكال آخر: وهو أنه ورد عن بعض السلف منهم سعيد بن جبير في قوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] أن حملة العرش ثمانية صفوف من الملائكة، وقد أثر هذا عن غيره من المفسرين من السلف، قال: لكن هذا القول أيضاً يعارض الحديث الذي ذكرنا.
      يترجح لدينا بالنسبة لما يتعلق بحملة العرش أنهم ثمانية، وأنهم من الملائكة، وأن الواحد منهم على الصفة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من عظم الخلقة.
      أما كونهم يسبحون فهذا صريح القرآن.
  2. صفة العرش

     المرفق    
    للعرش قوائم سبق ذكرها في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة العظمى وفيه: {فأقوم فإذا موسى آخذ بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقته}.
    والعرش سبق أن قلنا: إنه مخلوق على الحقيقة، ويدل على ذلك أنه سقف للجنة، وهذا الكلام ذكره المصنف هنا، وذكره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرنا.
    1. الكلام على حديث الأطيط

      وأما شكله، وهل العرش كالقبة أم هو مستدير؟ وهذا سبق أن تعرضنا له عند شرح حديث الأطيط وقد ذكره المصنف هنا حيث قال: [وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط -الذي أوله قول الأعرابي : {إنا نستشفع بك على الله ونستشفع على الله بك} أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل: القبة} الحديث].
      هذا الحديث -حديث الأطيط- قلنا: إن شيخ الإسلام رحمه الله أشار إلى ضعفه، ولكنه قال: لو ثبت فلا إشكال في إثبات علو الله تعالى، ولكنه لم يصح على أية حال، والحافظ الذهبي رحمه الله ذكر أنه لم يصح، وذكر رواية أبي موسى وفيه: [[الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل]] أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات (2/297).
    2. الأطيط ليس صفة من صفات الله

      قال الذهبي: "وليس للأطيط مدخل في الصفات أبداً"، يعني: ليس الأطيط من صفات الله تعالى أصلاً، قال: "بل هو كاهتزاز العرش لموت سعد، وكتفطر السماء يوم القيامة".
      أي: هذا فعل يقع في المخلوقات وليس من صفات الله تعالى ويقول: "ومعاذ الله أن نجعله صفة لله عز وجل" ثم عقب بهذه الجملة فقال: "ولفظ الأطيط لم يأت من نص ثابت" فكلام الذهبي يؤكد كلام ابن الجوزي رحمه الله في العلل المتناهية، وما ذكره ابن عساكر في رسالته في بيان ضعف حديث الأطيط، وما ذكره غيره من العلماء في هذا الشأن، وخلاصته أن حديث الأطيط ضعيف وإن صح حديث الأطيط فهو ليس من صفات الله، وإنما صفة للعرش.
      ثم ذكر المصنف بعد ذلك الحديث الصحيح فقال: [وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن} ويروى (وفوقه) بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه] تعرب كلمة (فوقه) في الحديث ظرفاً، والظرف دائماً منصوب، والتقدير: عرش الرحمن فوقه. (عرش): مبتدأ، (فوق): ظرف، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم، تقديره: كائن أو موجود، وعلى رواية الرفع يكون قوله: (وفوقه عرش الرحمن) مبتدأً وخبراً.
  3. اختلاف الناس في معنى العرش

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة] وهذا هو الاحتمال الذي ذكره شيخ الإسلام في الرسالة العرشية .
    وقال المصنف: [وربما سموه الفلك الأطلس] أي: (المحيط العام)، ويقال: إن أطلس عند اليونان هو إله الكون المحيط به، أو حامل الكون، أو ما أشبه ذلك، ولهذا تسمى الكتب التي تتحدث عن الجغرافيا (أطلس).
    قال: [والفلك التاسع]، وهذا عند الذين يريدون أن يوفقوا بين الشرع وبين الفلسفة، قالوا: السماوات السبع هي الأفلاك السبعة، والكرسي الفلك الثامن، والعرش هو الفلك التاسع، هكذا خيلت لهم عقولهم السقيمة.
    يقول رحمه الله: [وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة] وشيخ الإسلام رحمه الله أجاب عن افتراض أن العرش فلك مستدير يحيط بجميع المخلوقات، وقال: وعلى هذا الفرض فلا تنافي بين هذا وبين علو الله عز وجل وأن أقرب جهة يدعى بها الله تعالى هي جهة العلو، وهذا على فرض أنه كذلك.
    والواقع أنه ليس فلكاً مستديراً ثم يقول: [لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم] كما في حديث موسى عليه السلام.
    ثم قال: (تحمله الملائكة): أي أن الملائكة تحمل قوائمه كما جاء في صريح القرآن: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[غافر:7].
    كما قال صلى الله عليه وسلم: {فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور} فهذا الحديث يدل على أن العرش مخلوق حقيقي وأن له قوائم.
    إذاً: ليس فلكاً مستديراً كما تصوره أولئك.
    1. العرش في اللغة

      قال رحمه الله: [العرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي لِلمَلك كما قال تعالى عن بلقيس : ((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ))[النمل:23] وليس هو فلكاً] فظاهر النصوص لا تدل على أن العرش فلك مستدير، ثم يستدل من جهة اللغة فيقول: [العرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي هو لِلمَلِك]، أو هو سرير المُلْك، فإذا قيل: جلس فلان على عرش المملكة، فهذا يفهم منه أنه تولى الملك، وبعض الدول يحتفلون بعيد يسمى عيد العرش أو عيد الجلوس، أي: عيد تولي الملك للحكم، ويجعلون ذلك عيداً أسوة بالأعياد الجاهلية، وجاء ذلك في القرآن كما قال تعالى عن بلقيس : ((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ))[النمل:23].
      يقول: [وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك] أي: لا تفهم العرب من كلمة العرش أنه فلك، [القرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة]، فهو يريد أن يثبت أن ما قالته الفلاسفة باطل، وكذلك أمثالهم الذين يقولون: إنه فلك، أو الذين يقولون: إنه كناية عن سلطان الله وعن قدرة الله وعن سعة ملك الله، وهؤلاء لا يثبتون العلو، فلا يوجد عندهم مخلوق يسمى العرش، فيرد عليهم بما سبق ذكره.
      ثم يقول: [وهو كالقبة على العالم] وهذا لم يصح، وما ورد في صفاته يكفينا.
      قال: [وهو سقف المخلوقات] أي: أعلاها؛ لأن أعلى شيء في الجنة هو الفردوس، وفوقها أو سقفها عرش الرحمن.
    2. شرح أبيات أمية بن أبي الصلت عن العرش

      قوله: [فمن شعر أمية بن أبي الصلت] يستشهد المصنف على معنى العرش في اللغة، وأن العرب كانوا يؤمنون به في الجاهلية؛ بشعر أمية الذي كان من أهل الكتاب ولديه علم من الكتاب فيقول:
      [مجدوا الله فهو للمجد أهل            ربنا في السماء أمسى كَبِيرا
      بالبناء العالي الذي بهر الناس            وسوى فوق السماء سَرِيرا
      شَرْجَعَاً لا يناله بصر العـ            ـين تُرَى حوله الملائِك صُورا
      الصور هنا: جمع أصور: وهو المائل العنق لنظره إلى العلو.
      والشرجع: هو العالي المنيف.
      والسرير: هو العرش في اللغة].
      أمية بن أبي الصلت شاعر جاهلي له أشعار كثيرة تدل على علمه بما في الكتب السابقة، وفي شعره شيء من الحق؛ لأن ما عند أهل الكتاب فيه حق وفيه باطل، لكن من جهة اللغة لا شك أنه يحتج به، إذ هو شاعر عربي، والنصارى يعظمون الله تعالى بصفة المجد كما يقولون: إن الملائكة قالوا حين ولد عيسى عليه السلام: (المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة) ولو تتبعت إذاعة الإنجيل لوجدتم العبارات تدور حول المجد لا الحمد، وعلى وصف الله بالربوبية لا على وصفه بالألوهية، فنحن نقول: الحمد لله وهم يقولون: مجدوا الرب أو المجد للرب؛ فأكثر ما يصفون الله به بأنه (الرب) وهو رب العالمين لا شك في ذلك؛ لكن نحن نصفه بالألوهية.
      وأقول هذا الكلام؛ لأنه لوحظ أن كثيراً من وسائل الإعلام وغيرها تطلق عبارات من كلام النصارى، وأهل الكتاب، ولا يستشعرون الدلالات الحقيقية لها وإنما يقولونها على سبيل التبعية، ومن ذلك النشيد الذي يردده الطلاب في الصباح كل يوم: "مجدي لخالق السماء" فإننا نجد هذه اللمسة، وهي التأثر بالأشعار وبالأناشيد الدينية النصرانية، والمقصود أنهم يذكرون الله بالتمجيد وبالمجد وليس بالحمد، وهذا خلاف ما هو شعار هذه الأمة المحمدية الحمادة.
      يقول:
      مجدوا الله فهو للمجد أهل            ربنا في السماء أمسى كبيرا
      وهذه عبارات نصرانية واضحة، وقد أثبت أمية أن الله تعالى في السماء، كما هو مستقر في الفطر جميعها؛ من غير أن يرد النقل أو تنزل الكتب لتثبت ذلك، لأن الإنسان يعلم بفطرته أن الله تعالى حق، وأنه هو وحده خالق هذا الوجود، وأنه في جهة العلو، وأنه في السماء.
      يقول:
      بالبناء العالي الذي بهر النا            س وسوى فوق السماء سريرا
      شرجعاً لا يناله بصر العيـ            ـن ترى حوله الملائك صورا
      وصف السرير الذي هو العرش بأنه شرجع أي: طويل لا يناله بصر العين.
      وقوله: "ترى حوله الملائك صورا" أي: أنك لو نظرت ترى حوله الملائكة مائلين بأعناقهم ينظرون إليه وأمية هذا له شعر آخر يثبت فيه صفة العلو لله تعالى، ويثبت العرش، يقول فيها:
      رجل وليث تحت رِجل يمينه            والنسر للأخرى وليث مرصد
      رواه أحمد في المسند، وقال ابن كثير: إسناده جيد، لكن ينبغي التأكد من صحته.
    3. شرح أبيات ابن رواحة عن العرش

      يقول: [ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرَّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
      شهدت بأن وعد الله حق            وأن النار مثوى الكافرينا
      وأن العرش فوق الماء طافٍ            وفوق العرش ربُّ العالمينا
      وتحمله ملائكة شداد            ملائكة الإله مسومينا
      ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة]
      وهذا الأثر أورده المصنف هنا على سبيل الاستشهاد اللغوي لا الشرعي، واللغة يتسامح في إثبات ألفاظها بينما يجب أن يتأكد من الدلالات الشرعية قال الأرنؤوط : "قال أبو عمر بن عبد البر في ترجمة عبد الله بن رواحة في الاستيعاب (2/287) وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة رويناها من وجوه صحاح، إلا أن الذهبي تعقبه في العلو (ص:106) بقوله: (روي من وجوه مرسلة)، ثم ذكرها".
      وهذا الأثر ذكره أيضاً ابن الجوزي رحمه الله في كتاب الأذكياء وغيره، فهو من حيث الاستدلال اللغوي سائغ أن نستدل به في اللغة، فإذا صحت هذه الوجوه المرسلة أو تضافرت، فهو صالح ليستشهد به على أن هذا الصحابي كان يؤمن بهذه الصفة كما فهمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لدينا شك أن جميع الصحابة الكرام، بل وجميع السلف الصالح وكل المسلمين الذين يقرءون كتاب الله عز وجل، مؤمنون بالعرش وباستواء الله عليه، لأن ذلك صريح القرآن.
      ومعنى قوله: [عرَّض به عن القراءة لامرأته] وذلك أن امرأته رأته وهو فوق جاريته، فأخذتها الغيرة المعروفة عند النساء، فقالت له: لم فعلت هذا؟ فأنكر ذلك رضي الله عنه، فأرادت أن تعرف أصدق أم كذب؛ فقالت: اقرأ القرآن إن كنت صادقاً، لأنها علمت أنه لو كان جنباً فلن يقرأ القرآن، فقال:
      شهدت بأن وعد الله حق            وأن النار مثوى الكافرينا
      وأن العرش فوق الماء طافٍ            وفوق العرش ربُّ العالمينا
      وتحمله ملائكة شداد            ملائكة الإله مسومينا
      قالت: آمنت بالله وكذبت عيني؛ وظنت أنه صادق.
      وهو لم يكذب في قوله: (شهدت بأن وعدالله حق)؛ لأنه لم يقل: قال الله تعالى، أو أنا سأقرأ القرآن.
      والرواية إن صحت فهي تدل على أنها لم تكن رضي الله عنها تميز الآيات من غيرها. والله أعلم.
      فالشاهد من هذه الأبيات أن الدلالة اللغوية واردة وهي قوله:
      وأن العرش فوق الماء طافٍ            وفوق العرش ربُّ العالمينا
      فالعرش حقيقة لغوية كما هو حقيقة في الشرع ولا مجال لتأويله أو إنكاره.
    4. وصف حملة العرش

      قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام..}، رواه ابن أبي حاتم، ولفظه: {مخفق الطير سبعمائة عام} ] سبحان الله! ما أعظم الله! وما أعظم ملكه وقدرته وسلطانه جل وعلا! وكم لله من ملائكة عظام! ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ))[المدثر:31] ونحن تكل وتعجز أبصارنا عن هذا الكون المشهود الذي نراه، بل لا نستطيع أن نرى من الأرض إلا جزءاً محدوداً، وإذا نظرنا إلى السماء يرجع ويرتد البصر خاسئاً حسيراً مما يرى في ملكوت الله تعالى، وإذا نظرت إلى البحر تجد العجب العجاب، فأينما نظرت تجد خلق الله تعالى الذي تعجز العقول عن إدراكه، وإن نظرت في كبير أو صغير في حدود استطاعتك وعلى قدر ثقافتك وعلمك تجد أن لله سبحانه وتعالى له في كل شيء حكمة وآية:
      ولله في كل تحريكة            وفي كل تسكينة شاهد
      وفي كل شيء له آية            تدل على أنه الواحد
      فهي دالة على أن الله هو الخالق المدبر سبحانه وتعالى، وأنه عظيم كبير متعال، والإنسان تختلف ثقافته، ولكن العبرة قائمة، فكل ينظر بحسب علمه، وعلى قدر عقله وفهمه يكون حظه من النظر في ملكوت الله، فأي إنسان ترى وتتأمل وتتفكر في سمعه وبصره وشفتيه وكلامه؛ فإنك تجد آية من آيات الله تعالى، وإذا تفكرت في الكون بسمائه وأرضه وأجرامه، وكل شيء تجده ناطقاً بلسان الحال -إن لم تسمعه بالمقال- بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وبأن الله حق، ووعده حق. والحجة قائمة وإن اختلفت مستويات البشر العلمية؛ ولهذا فإن من حكمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الآيات مبثوثة في كل شيء، ويراها كل أحد، ولا تخفى على ذي بصيرة أبداً، وإلا لكانت الحجة قائمة على العلماء فقط، أو على النُّظار أو المفكرين أو الكونيين الفيزيائيين، أو الجغرافيين أو ما أشبه ذلك، ولذا فكل إنسان يرى هذه الآيات -مهما كان دنو درجته من العلم والثقافة- فإنه إذا تأمل في ملكوت الله فسيرى من آياته العظيمة ما يدل أن الله تعالى حق، وما هذا الحديث إلا جزء من عالم الغيب الذي يؤمن به المؤمنون دون أي سؤال عن الكيفية، وليس لنا إلا أن نؤمن ونسلم بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذكره الله في كتابه على حقيقته، دون أن نعترض كما اعترض المبطلون.
    5. الرد على من أول العرش

      قال: [وأما من حرف كلام الله] أي: أوله، وسبق أن ذكرنا أن ما يسميه أهل البدع تأويلاً؛ هو في حقيقته تحريف، وإلا فكيف يقول تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5] وهم يقولون: استولى؟! هذا صريح التحريف للكلم عن مواضعه!! فعبر رحمه الله عن فعلهم بالتحريف وإن سموه تأويلاً، ولذا فنحن نقول: نؤمن بصفات الله تعالى ونثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل.
      فإن قيل: أين التأويل؟ ولماذا لم يذكر؟ قلنا بأن التأويل هو التحريف.
      أمَّا كلمة التأويل -التي جاءت في القرآن وفي لغة العرب- فلها عدة معانٍ؛ منها: التفسير، ومنها: ما تئول إليه حقيقة الشيء.
      قال رحمه الله: [وأما من حرف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع -وكان ينبغي أن يقول: فكيف يصنع؛ لأن الفاء هنا واجبة- بقوله تعالى : ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]؟ وقوله: ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:47]؟ أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟] أي: إذا كان العرش هو الملك كما يقولون، فالسماوات والأرض والمخلوقات والمحشر، وكل ما في المحشر خلق الله، وملك لله، فكيف نقول: إنه يحمل ملك الله ثمانية؟!!
      قال: [وكان ملكه على الماء؟!] أي: إذا كان معنى العرش: الملك فهل يصح أن نقول: معنى قوله تعالى: ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:47] هو: وكان ملكه على الماء؟! فالماء من ملكه، فهذا دليل على أن التأويل الذي يذكره أهل البدع لا يمكن أن يتفق مع النصوص، ولا مع العقل، ولا مع اللغة أيضاً.
      قال رحمه الله: [ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فأكون أنا أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش} فإذا لم يكن العرش حقيقياً، فكيف يقول عاقل: إن موسى آخذ بقائمة من قوائم الملك؟! فملك الله لا يوصف بأن له قوائم، فالعقل السليم والنظر السليم في لغة العرب، والفهم السليم لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ينفي ذلك، ولا يثبته، ثم يقول رحمه الله: [هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!] لا. أبداً؛ لا يقوله عاقل.
    6. حقيقة الخلاف مع مؤولة العرش

      وقد اختصر رحمه الله مسألة الذين ينكرون أو يؤولون العرش؛ لأن حقيقة الخلاف معهم ليست في إثبات العرش وإنكاره، وإنما الخلاف الحقيقي معهم هو في إثبات العلو والاستواء لله تعالى، فجرَّهم تأويل العلو والاستواء بعد ذلك إلى تأويل العرش والكرسي، والخلاف المحتدم هو في موضوع الاستواء، وهو ما سيأتي في شرح قول الإمام الطحاوي : [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه] ويذكر رحمه الله بعضاً مما قاله شيخ الإسلام رحمه الله ومما ذكرناه سابقاً في مسألة إثبات العلو، ويذكر كلاماً طويلاً في ذلك، وأما هنا فأوجز رحمه الله؛ لأن المراد هنا إثبات أن العرش حقيقة، وهذا أمر ظاهر وجلي والنزاع فيه هين، والخطب فيه يسير، وسرعان ما تنهزم فلول المؤولين ويولون الدبر.
      وفي الحقيقة فإن من يثبت العلو لله تعالى، فإنه يثبت تبعاً لذلك الاستواء، ويثبت النزول والمجيء أو الإتيان للحساب يوم القيامة وما أشبه ذلك، فمسألة العلو وإن كانت من الصفات؛ لكنها أخذت حيزاً مهماً في أبواب العقيدة ومباحثها، نتيجة لإنكار المنكرين ومكابرتهم في إثباتها، ولزعمهم أن ذلك يتضمن الحيز أو الجهة أو المكان أو ما أشبه ذلك، ولأن الرد عليهم فيها أيضاً واضح جلي؛ لأن كل ذي عقل وفطرة، يؤمن بعلو الله سبحانه وتعالى كما رأينا في أشعار الجاهليين، كما يقول أمية:
      مجدوا الله فهو للمجد أهل
      وقول عنترة :
      يا عبل أين من المنية مهربي            إن كان ربي في السماء قضاها
      وهكذا فرعون قال: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ))[غافر:36-37]
      وهكذا في كل العصور، إثبات العلو يقر به كل ذي عقل وكل ذي فطرة سليمة.
      ولوضوح هذه المسألة من جهة ولكثرة الكلام فيها من جهة أخرى، أفردت بالبحث.