المادة كاملة    
لقد ثبت بالنقل وبالعقل أن الله في جهة العلو؛ لذا لم يجز لأحد أن يتوجه إلى الله في غير جهة العلو، ومن قال بغير هذا فإنما هو قول ضال فاسد، ومع أن الأفلاك ومنها السماوات والأرض دائرية، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون الخالق سبحانه مثلها في الشكل لإحاطته بها، كما قاله بعض من فسد دينه، وأصيب بآفة في علقه.
  1. العرش سقف المخلوقات

     المرفق    
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية:
    "فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل، سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع" فكلامه إنما كان من باب التنزل مع من يرون ذلك.
    ثم يقول: "قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات، وهو العالي عليها من جميع الجوانب، وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش -بهذا التقدير- إنما يقصد إلى العلو؛ لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة -يعني الشريعة- مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست؛ بل هو أيضاً يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه، كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من المثل بالقمر -ولله المثل الأعلى- وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر -وهو آية من آيات الله تعالى- فالخالق أعلى وأعظم" هذا الكلام تلخيص لما سبق.
    وعلماء الهيئة -علماء الفلك- مجمعون على أن القمر من أصغر الأجرام السماوية؛ فهو تابع للأرض التي هي تتبع الشمس، وهناك ما هو أكبر منه من توابع الكواكب الأخرى؛ فهو شيء ضئيل جداً من خلق الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنه أعلى من الإنسان، ويستقبله الناس في كل أنحاء الأرض حينما يرونه بوجوههم، ومع ذلك فهو أيضاً فوقهم، والله تعالى أعلى وأعظم وأجل.
    يقول: "وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض".
    قوله: الجهة التي هي وجه الأرض: المقصود بذلك الجهة التي هم عليها في ذلك الزمن؛ لأنهم كانوا يتصورون أن الأرض لها جهتان، فالجهة التي هم فيها هي الجهة المسكونة، وأما الجهة الأخرى، فكان تصورهم لها على أنها بحر خال من البشر، وهذا كان قبل أن تكتشف الأمريكتان، وقد أشار إلى ذلك في كلامه الأول عندما قال: "فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم" ثم قال: "ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض".
    والقصد: أنه إذا كان التوجه إلى العرش في حال افتراض كونه كرياً محيطاً بالمخلوقات إحاطة الأفلاك، فإنه يتبين لنا بالبرهان العقلي والهندسي والجغرافي، أن جهة العلو هي الأقرب، وهي الأنسب فطرة وشرعاً، وكذلك إذا تصورنا الاحتمال الآخر، وهو: أن يكون العرش سقف جميع المخلوقات من غير أن يحيط بها، بل تكون كلها تحته وهو فوقها جميعاً؛ فهذا واضح في أن التوجه إلى ما فوق العرش -أي: إلى الله سبحانه وتعالى- لا يكون إلا إلى جهة العلو.
    يقول: "فقد ظهر أنه -على كل تقدير- لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات -كما يحيط بها إذا كانت في قبضته- أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مبايناً لها".
    وشيخ الإسلام يذكر هذا الكلام؛ حتى لا يقول أهل البدع أن القبضة والإحاطة تقتضي أن يكون الله سبحانه وتعالى على شكل كذا مما تتخيله عقولهم؛ فلكيلا يَرِدَ هذا الإشكال يقول لهم: إن الله -على هذا الافتراض أو ذاك- فوق المخلوقات مباين لها، وقبضه سبحانه وتعالى للمخلوقات هو من صفاته الفعلية سبحانه وتعالى، فهو يقبض متى شاء، والذي ورد في القرآن أنه يقبضها يوم القيامة، في الحالين الله عز وجل هو أعظم منها وأكبر، وهو فوقها، وهي تحته بكل حال وبكل تقدير.
    يقول: "فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق، وعلى هذا التقدير في العرش" أي: على اعتبار العرش بالاعتبارين الماضيين، وعلى اعتبار أنه سبحانه وتعالى قابض أو غير قابض "لا يلزم شيء من المحذور والتناقض"، فلا يمكن أن يحصل أي محذور أو تناقض أبداً "وهذا يزيل كل شبهة" فلا تبقى شبهة لمنكر ولا لمبطل ولا لمعطل ولا لجاحد لصفات الله سبحانه وتعالى.
  2. رد شيخ الإسلام على شبهات المنكرين لعلو الله على عرشه

     المرفق    
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين:
    أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كرياً والله فوقه، وجب أن يكون الله كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً، فيصح التوجه إلى ما هو كري -كالفلك التاسع- من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ أو ضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري -سواء كان هو التاسع أو غيره- لا يجوز أن يظن أنه -سبحانه- مشابه للأفلاك في أشكالها" كما قال جل وعلا: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فهذا من أوهامهم وتخيلاتهم الباطلة الفاسدة، وإلا فالله تبارك وتعالى أعلى وأعظم وأجل من أن يحيط به وهم أو فكر أو خيال؛ إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يدرك حقيقة المخلوقات الغيبية، فلا يستطيع أن يدرك حقيقة العرش أو الكرسي، ولا عذاب القبر، ولا نعيمه، ولا الجنة، ولا النار؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الجنة: {فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام في مخلوق من مخلوقات الله؛ فمهما تخيلت فلا يمكن أن تتخيل حقيقة نعيم الجنة، فكيف بصفات الله سبحانه وتعالى؟! فلا يمكن أبداً أن يدرك الإنسان حقيقتها.
    يقول: "كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها" أي: لا يشبهها في أشكالها كما لا يشبهها في أقدارها "ولا في صفاتها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك" وينبغي أن يعلم أن كلمة الفلك تختلف في عرف الجغرافيا القديمة عما هي عليه اليوم، ففي العرف القديم يعنون بها نفس الأجرام، فمثلاً: السماء الدنيا يعتبرونها الفلك الأول، والسماء الثانية الفلك الثاني، وهكذا؛ فيعدون سبعة أفلاك، والكرسي الثامن، والعرش التاسع -كما يزعمون- فيكون الفلك عندهم جرماً محسوساً.
    أما الفلك في العرف الجغرافي المعاصر: فهو عبارة عن المدار الذي يدور فقط، فليس جرماً حقيقياً، وإنما هو خط وهمي تدور فيه الكواكب أو النجوم؛ ففلكها هو مدارها.
    يقول: بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وأنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا؛ فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة -بل الدرهم والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان، ونحو ذلك- في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك؛ هل يتصور عاقل -إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به- أن يكون الإنسان كالفلك ؟!" أي: هل يلزم من ذلك أن يكون الإنسان كالفلك؟ الجواب: لا يلزم.
    فيبين شيخ الإسلام أن الله سبحانه كذلك لا يلزم أن يكون بهذا الشكل الذي تخيله أولئك، فيقول: "والله -ولله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين: ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67].
    وكذلك اعتقادهم الثاني -وهو أن ما كان فلكاً فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست -وهذا خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.
    كما قد اتضح بالأدلة الهندسية البرهانية أنه لا يمكن أن يقصد إلا من جهة واحدة؛ لأن السطح هو جهة العلو، والسفل هو المركز، فليس هناك جهات ست.
    يقول: "فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو، لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات" فأي تقدير قدر، فهو سبحانه وتعالى لا يجوز أن تتوجه إليه القلوب إلا إلى جهة العلو "سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره؛ سواء كان محيطاً بالفلك كري الشكل، أو كان فوقه من غير أن يكون كرياً؛ سواء كان الخالق سبحانه محيطاً بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا، التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى" فعلى أي افتراض فالله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات، والتوجه إليه يكون إلى جهة العلو.
    يقول: "فعلى أي تقدير فرض، كان كل من مقدمتي السؤال باطلة، وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك"، بل وفطر جميع الخلائق على ذلك، وكل الرسل قالوا ذلك وأخبروا به، فهو ثابت بالعقل وبالفطرة وبالوحي، حتى إن الطاغوت الكبير فرعون لما أراد أن يبين كذب دعوى موسى عليه السلام قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:36-37] يعني: إن كان الله موجوداً فسيكون سبحانه وتعالى في الأعلى.
    بل إن رائد الفضاء السوفييتي جاجارين -وهو أول إنسان صعد إلى الفضاء- ذهل ودهش لما رأى الأرض بهذا الشكل، ورأى شيئاً لم يكن يتخيله ولا يتوقعه، فقال: (لا بد لهذا الكون من خالق)، وبثت وكالات الأنباء هذا الكلام، فأمرت السلطة السوفييتية بتغيير العبارة، فقامت وكالات الأنباء ببث صوته في اليوم الثاني وهو يقول: (إنني صعدت إلى فوق فلم أجد الله) تعالى الله عما يصفون! فاستدلوا على الإلحاد والكفر بأن رائد الفضاء صعد فلم يجد الله؛ أي: لو كان موجوداً لكان في الأعلى.
    يقول: "وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة والله أعلم".
    وبهذا تكون الرسالة العرشية قد تمت.
  3. الكلام على كروية السماء والأرض وذكر الأدلة على ذلك

     المرفق    
    "سئل رحمه الله عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض: هل هما جسمان كريان، فقال أحدهما: كريان، وأنكر الآخر هذه المقالة، وقال: ليس لها أصل، وردها، فما الصواب؟
    فأجاب: السماوات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي، أحد الأعيان الكبار، من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وله نحو أربعمائة مصنف، وحكى الإجماع على ذلك الإمام أبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية، وإن كان قد أقيم على ذلك أيضاً دلائل حسابية، ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك، إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجمين" والمنجمون إنما هم طواغيت أفسدوا أديان الناس ومعاشهم، فقد جعلوا كل الحوادث الأرضية إنما تنشأ بتأثيرات فلكية، وأوهموا الناس أن كل ما هو واقع، فهو بتأثير من النجوم، وهذا افتراء على الله، وقول عليه بغير علم.
    يقول: "فأفسدوا عليهم فاسد مذهبهم في الأحوال والتأثير؛ خلطوا الكلام معهم بالمناظرة في الحساب، وقالوا على سبيل التجويز: يجوز أن تكون مربعة أو مسدسة أو غير ذلك" يعني أنهم قالوا: يجوز أن يكون شكل السماء مربعاً (أربعة أضلاع) أو مسدساً (ستة أضلاع) أو غير ذلك، "ولم ينفوا أن تكون مستديرة، لكن جوزوا ضد ذلك".
    وهذه افتراضات ليس لها أساس؛ لا من عقل ولا من نقل.
    يقول: "وما علمت من قال: إنها غير مستديرة وجزم بذلك، إلا من لا يؤبه له من الجهال" ولقد كانت الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، تتصور أن الأرض قطعة منبسطة، وأن السماء فوقها منبسطة أيضاً، والأطراف بعد ذلك تلتقي، ولهذا أحرقوا وعذبوا من عذبوا من علماء الفلك، الذين هم في الحقيقة إنما تأثروا بعلم الفلك الإسلامي، أو بما صححه المسلمون من نظريات يونانية.
    وقد تكلم في إثبات كروية الأرض الغزالي وابن حزم وغيرهم من قبل شيخ الإسلام رحمة الله عليه.
    1. الأدلة السمعية على كروية السماء

      يقول: "ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[الأنبياء:33]، وقال تعالى: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[يس:40] قال ابن عباس وغيره من السلف : [[ فلكة مثل فلكة المغزل]] وهذا صريح بالاستدارة والدوران".
      وهنا أمران عجيبان كما ذكر الشيخ رحمة الله عليه:
      الأمر الأول: أنها مستديرة وليست على شكل دائري، بل شكلها بيضاوي تقريباً.
      الأمر الثاني: أنها تدور، وهذا هو التصور الذي يقوله الناس اليوم بعدما رصدوه وقاسوه، فهي تجمع بين الاستدارة وبين الحركة والدوران، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله هذا دليل على تبحره رضي الله تعالى عنه في المنقول والمعقول معاً.
      يقول: "وأصل ذلك: أن الفلك في اللغة هو الشيء المستدير، يقال: تفلك ثدي الجارية؛ إذا استدار، ويقال لفلكة المغزل المستديرة: فلكة؛ لاستدارتها، فقد اتفق أهل التفسير واللغة على أن الفلك هو المستدير، والمعرفة لمعاني كتاب الله إنما تؤخذ من هذين الطريقين: من أهل التفسير الموثوق بهم من السلف "، وهو الذي يسمى: التفسير بالمأثور، ومثاله الدر المنثور للسيوطي ثم بين رحمه الله الطريق الثاني فقال: "ومن اللغة التي نزل القرآن بها، وهي لغة العرب".
      ثم ذكر شيخ الإسلام دليلاً آخر، لا يمكن أن ينتبه لمثله إلا من تبحر في العلم ورزق منه حظاً وافراً؛ ثم بين رحمه الله فقال: "وقال تعالى: ((يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ))[الزمر:5]، والتكوير التدوير، يقال: كُوِّرَت العمامة، وكورتها: إذا دورتها، ويقال: للمستدير كارة، وأصله: (كورة) تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ويقال أيضاً: (كرة) وأصله كورة، وإنما حذفت عين الكلمة، كما قيل في ثبة وقلة.
      والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة"، وهذا الكلام لا يمكن أن يُقال في أوروبا في تلك القرون؛ لأن أوروبا كانت تعيش ظلاماً دامساً.
      يقول: "والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة، فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة قائمة بالجسم المتحرك" يعني أن: الحركة ليست ذاتاً قائمة بنفسها، وإنما هي صفة أو حالة للجسم المتحرك، فيكون عندنا جسم مادي فيه حركة، وينتج عن حركة التكوير هذه: الليل والنهار.
      يقول: "فإذا كان الزمان التابع للحركة التابعة للجسم موصوفاً بالاستدارة، كان الجسم أولى بالاستدارة"، فإذا كان الله سبحانه وتعالى وصف هذا الناتج -وهو الليل والنهار- بالتكور، فالجسم الذي نشأت منه الحركة فنشأ عنها الزمان أولى بذلك الوصف.
      ويتابع شيخ الإسلام سرد الأدلة، فيقول: "وقال تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ))[الملك:3] وليس في السماء إلا أجسام ما هو متشابه -فأما التثليث، والتربيع، والتخميس، والتسديس، وغير ذلك؛ ففيها تفاوت واختلاف بالزوايا والأضلاع- لا خلاف فيه ولا تفاوت" وهذا تفسير آخر، فإذا تصورنا أن للسماء أضلاعاً مربعة ومسدسة، فإنه يكون هناك تفاوت في الأضلاع، لكن مع الاستدارة لا يكون هناك أي تفاوت.
      وهنا حقيقة ينبغي للإنسان أن يعرفها، وهي أن الأصل في الموجودات التي حولنا أنها ليست أشكالاً هندسية (مثلث -مربع -مستطيل- مكعب) فلو جمعت ما في الدنيا من حجارة، فإنك تجد أن هذه الحجارة لا يشبه بعضها بعضاً؛ لأن أشكالها غير هندسية.
      العقل الإنساني يحب التبسيط ويميل إليه دائماً، وهذه الأشكال الهندسية تبسط المحسوسات ليتصورها ذهن الإنسان، لكن خلق الله سبحانه فيه من العجائب والغرائب ما تعجز العقول عن تصوره قبل أن تراه، وكون مخلوقات الله تعالى ليست محصورة على الأشكال الهندسية يدل على سعة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه يخلق ما يشاء عز وجل.
      والقصد: أن كون السماء بهذا الشكل (الاستدارة) يمنع أن يكون فيها تفاوت، ولو كان لها أضلاع لكان فيها تفاوت، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى.
      ثم يذكر رحمه الله تعالى الحديث المشهور الذي سبق الكلام عليه وهو حديث القبة.
      ثم يقول: "وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن} والأوسط لا يكون أوسط إلا في المستدير" أي: لو كان الشكل مربعاً أو مسدساً، فإنه لا يمكن أن يكون أوسطه هو في نفس الوقت أعلاه؛ أما إذا كان الشكل مستديراً فإنه يمكن أن يُقال: أوسطه هو أعلاه في نفس الوقت، وهذا من دقائق الاستنباط.
      يقول: "وقد قال إياس بن معاوية : [[السماء على الأرض مثل القبة]]، والآثار في ذلك لا تحتملها الفتوى، وإنما كتبت هذا على عجل".
    2. الأدلة الحسية والعقلية على أن السماء مستديرة

      ثم قال رحمه الله: "والحس مع العقل يدل على ذلك؛ فإنه من تأمل دوران الكواكب القريبة من القطب في مدار ضيق حول القطب الشمالي، ثم دوران الكواكب المتوسطة في السماء في مدار واسع، وكيف يكون في أول الليل وفي آخره، يعلم ذلك" ومعنى هذا أن القطب الشمالي يختلف عن خط الاستواء، ففي القطب الشمالي يسود الليل ستة أشهر، ويسود النهار ستة أشهر بحسب ظهور الشمس، لكن في خط الاستواء وما حوله نجد أن الليل يقصر أو يطول ساعات معينة، فالتفاوت هو نتيجة لذلك، فالكواكب القريبة من القطب يكون مدارها ضيقاً، بينما عند خط الاستواء يكون المدار أكبر وأوسع.
      يقول: "وكذلك من رأى حال الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها في الأوقات الثلاثة على بعد واحد وشكل واحد ممن يكون على ظهر الأرض؛ علم أنها تجري في فلك مستدير، وأنه لو كان مربعاً لكانت وقت الاستواء أقرب إلى من تحاذيه منها وقت الطلوع أو الغروب، ودلائل هذا متعددة".
      يقول: "وأما من ادعى ما يخالف الكتاب والسنة فهو مبطل في ذلك"، يقول شيخ الإسلام : يخالف الكتاب والسنة، ولم يقل: يخالف العقل أو الفلك أو الجغرافيا، ومعنى هذا أن هذا الأمر نجزم به يقيناً.
      وهنا عبرة وفائدة ينبغي أن ننتبه لها وهي: أن الإنسان إذا تفقه في الدين، ورسخ في العلم، وتبحر في المعقول والمنقول؛ يتسع أفقه ونظره، ويستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن يفقه في دين الله، وأن يرد كل شبهة، وأن يستيقن ويطمئن أن هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82]. ولا يمكن أن يصل البشر إلى حقيقة تخالف ما جاء في الكتاب والسنة.
      ثم إذا كان هذا التفكير هو فيما نراه في المحسوسات والمشاهدات والكونيات، وهي التي تقبل النظر، فقد أمرنا الله تعالى أن ننظر ونتدبر فيها في آيات كثيرة، فمهما نظرنا وتدبرنا فلن يصل فكرنا إلى ما يخالف الكتاب والسنة، فكيف بالذي لا نستطيع أن نفكر فيه ولا نستطيع أن نأتي بشيء منه؟! وذلك مثل ما يتعلق بتشريعات الحياة الاجتماعية المتعلقة بأحوال الناس، فهذه أعظم وأعقد من الأفلاك، فالعالم الطبيعي له نواميس وسنن متناسقة، إذا عرفتها فقد عرفت منه أحوالاً كثيرة، لكن العالم البشري الإنساني عالم عجيب جداً.
      يجب على البشر أن يعرفوا قدرهم ولا يجاوزوه، ويجب عليهم أن يكلوا أمر التشريع وتنظيم شئون حياتهم في كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى ما شرع عز وجل، ويكلوا ما هو أعظم من ذلك، مثل الحياة البرزخية والبعث والحشر والنشور والصراط والميزان إليه سبحانه تعالى؛ لأن هذه أخفى وأخفى، وهي أوجب أن يرجع الأمر فيها كله إلى الله سبحانه وتعالى.
      فلا نتحاكم إلى عقول وأهواء، ولا إلى نظريات وآراء، ولا إلى استبيان واستفتاء واستطلاع، فكل ما يخالف شيئاً من دين الله فهو باطل وافتراء، لا يجوز أن نرجع إليه بأي حال من الأحوال؛ فهذه عبرة عظمى نأخذها ونحن نتأمل ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام.
  4. رؤية الهلال ومطالعه

     المرفق    
    ثم ينتقل بعد ذلك إلى مسألة مهمة، وهي ما يتعلق بالهلال ورؤيته وبناء الأهلة على الحساب كما يزعم الزاعمون؛ يقول: "وأما من ادعى ما يخالف الكتاب والسنة، فهو مبطل في ذلك، وإن زعم أن معه دليلاً حسابياً، وهذا كثير في من ينظر في الفلك وأحواله، كدعوى جماعة من الجهال أنه يغلب وقت طلوع الهلال لمعرفة وقت ظهوره بعد استسراره بمعرفة بعده عن الشمس بعد مفارقتها وقت الغروب، وضبطهم قوس الرؤية وهو الخط المعروض مستديراً -قطعة من دائرة- وقت الاستهلال؛ فإن هذه دعوى باطلة؛ اتفق علماء الشريعة الأعلام على تحريم العمل بذلك في الهلال.
    واتفق أهل الحساب العقلاء على أن معرفة ظهور الهلال لا يضبط بالحساب ضبطاً تاماً قط" وهو الواقع؛ فإلى الآن لا يمكن أن يضبط أبداً بالطريقة الحسابية.
    قال: "ولذلك لم يتكلم فيه حذاق الحساب، بل أنكروه، وإنما تكلم فيه قوم من متأخريهم تقريباً" ولهذا لا يوجد هذا الكلام في كتب السنة ولا في شروحها المتقدمة، ولكنه وجد في الشروح المتأخرة.
    يقول: "وذلك ضلال عن دين الله وتغيير له، شبيه بضلال اليهود والنصارى عما أمروا به من الهلال، إلى غاية الشمس وقت اجتماع القرصين، الذي هو الاستسرار، وليس بالشهور الهلالية ونحو ذلك، والنسيء الذي كان في العرب؛ الذي هو زيادة في الكفر؛ الذي يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.. ما ذكر ذلك علماء الحديث والسير والتفسير وغيرهم.
    وقد ثبت في الصحيحين عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب؛ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} فالله تعالى دائماً يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ولو تعبدنا بالحساب والمراصد، لكان ضبط ذلك من أشق العبادات.