ومن ناحية أخرى بعض العلماء يجعل التوحيد قسمين:
1- توحيد المرسِل.
2-وتوحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسورة الفاتحة يجب أن ننتبه لها، وأن نعلم أن هذه السورة ليست مجرد عبارات نكررها حتى تعود كأنها ألفاظ روتينية عادية، وإنما لا بد أن نعي ونتدبر معاني هذه السورة العظيمة.
((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] (هذا إثبات لتوحيد الربوبية)، ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين))[الفاتحة:3، 4] إثبات لتوحيد الأسماء والصفات وقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] توحيد الألوهية وقوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6] هذا توحيد من النوع الآخر وهو توحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالصراط المستقيم هو الذي أوصى به الله عَزَّ وَجَلَّ، وهو الوصية العاشرة من الوصايا العشر التي لا يدخلها التغيير ولا يدخلها النسخ مهما تغيرت الشرائع ((َأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ))[الأنعام:153] فلما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خط خطاً واحداً مستقيماً وخط خطوطاً معوجة فقرأ هذه الآية}.
والخط المستقيم هو: الصراط المستقيم الذي نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ وندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة، ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) وهو السنة الصحيحة التي كَانَ عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومهما اختلفت الأقوال في تفسيره فقيل: القُرْآن أو الإسلام أو السنة أو طريق أبِي بَكْرٍ وعُمَر فمعناها واحد، وهو من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فهذا توحيد متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك البدع.
وقوله تعالى: (((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين)))[الفاتحة:7] أي: غير من غلى ومن جفا ومن فرط ومن أفرط وهكذا فاليهود والنَّصَارَى هم قمة في الاتجاهين.
فـالخوارج والصوفية غلوهم يشبه غلو النَّصَارَى، وأيضا المرجئة تفريطهم يشبه تفريط اليهود، وكذا أهل الكلام -مثلا- مجادلتهم في دين الله عَزَّ وَجَلَّ تشبه مجادلات ومماحكات اليهود مع أممهم ومع كتبهم.
وإن قلنا إن التوحيد نوعان: فتكون ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))هذا توحيد المعرفة والإثبات، و((ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) إِلَى آخرها توحيد الإرادة والطلب؛ لأن الإرادة والطلب لا تكون إلا بعبادة الله وحده، والاستعانة بالله وحده، واتباع طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده الذي هو الصراط المستقيم، فتكون السورة نصفين عَلَى هذا الأساس أي: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والإرادة والقصد.
وكما يقول المُصنِّف -رحمه الله تعالى-: إن القُرْآن أفصح عن النوع الأول - توحيد المعرفة- كل الإفصاح، وقد سبق أن شرحنا معنى (المعرفة).
ومعرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إثبات ما أثبته لنفسه تَعَالَى أو أثبته رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يتعلق بمعرفته، ولا يستلزم منا -عملاً- إلا الإيمان به والإقرار به، وإن كَانَ له أثره عَلَى جوارحنا وعلى أعمالنا.
وتوحيد الألوهية: هي أوامره علينا، فيأمرنا الله عَزَّ وَجَلَّ أن نصلي له وحده، وأن نذبح له وحده، وأن ننذر له وحده، وكذلك الخوف والرجاء والمحبة وبقية أنواع العبادة، هذا جانب توحيد الألوهية.
وأما توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد الأسماء والصفات، فإنما يستلزم أو يتطلب منا أن نعرفه، ونؤمن به، ونستيقن، ولا يشترط أن يترتب عليه في ذاته أمر لنا إلا الاعتقاد، فلم يكلفنا نَحْنُ بعمل، لكن كلفنا أن نعتقد أن لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يدين وأن له عينين، وأنه ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فنؤمن ونعتقد بها، ونؤجر عَلَى الإيمان بها واعتقادها.
أما توحيد الألوهية الذي هو توحيد الإرادة والطلب فإنه أعمال؛ ولذلك قلنا التوحيد العملي وذاك التوحيد الاعتقادي، فهذا إيضاح لسبب هذه القسمة، ولذلك ذكر المُصنِّف -هنا- أمثلة كما في أول سورة "الحديد"، وسورة "طه"، وآخر سورة "الحشر"، وسورة "السجدة"، وآخر سورة "آل عمران" وسورة "الإخلاص"، وآية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ.
وآية الكرسي: هي من أعظم الأدلة عَلَى توحيد المعرفة والإثبات، وكذلك تضمنت توحيد الألوهية أو توحيد الطلب والإرادة؛ وهي آية قصيرة أو صغيرة وقد لا يدرك المرء معانيها ولكنها في الحقيقة لم تكن أعظم آية من كتاب الله إلا لحكم عظيمة لو تأملها المسلم لو عرف شيئاً كثيراً منها.
فآية الكرسي: عبارة عن عَشْر جُمل، كل جملة من هذه الجمل تشتمل عَلَى أصل عظيم، وقاعدة عظيمة فيما يتعلق بمعرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو أن أحداً فهم هذه الآية حق الفهم، وأدرك معانيها حق الإدراك، لعرف حقيقتها وعرف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- معرفة عظيمة بآية واحدة في جمل معدودة، وهذا من عجائب القُرْآن وعظمته، حيث أودع فيه من العجائب ما لا تدركه أكثر الأفهام، مهما نهلت منه ومهما أخذت منه.
فهذه السور في التوحيد الطلبي والقرآن كله متضمن لنوعي التوحيد:
توحيد المعرفة والإثبات، كالآيات التي جاءت في الاستواء، والتي جاءت في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل: آخر سورة "السجدة" وأول "الحديد".
وسورة "الإخلاص"كلها كما قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى، ولذلك صح الحديث {
بأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن} لاشتمالها عَلَى نوع من أنواع التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات.
فالإِنسَان يقرأ سورة:
((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون))[الكافرون:1] و
((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد))[الإخلاص:1] في ركعتي الفجر، وفي سنة المغرب والوتر وكذلك ركعتي الطواف ونحو ذلك، حيث تضمنت هذه السورة توحيد المعرفة والإثبات، وتضمنت سورة:
((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) توحيد الطلب والإرادة.
فهناك حكمة في فضل هاتين السورتين، وتكرر قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهما فيما ذكرنا.
أما التوحيد الثاني الذي ذكره المُصنِّفُ فهو: توحيد الطلب والقصد ودليله مثل قوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) و((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ))الآية [آل عمران:64] التي كتبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أعظم الملوك في الأرض في زمانه وهو هرقل عظيم الروم، وهو الذي كَانَ يمثل قمة وزعامة أرباب أوروبا النصرانية التي تدين بالدين المعروف الذي ينسبونه إِلَى المسيح عَلَيْهِ السَّلام.
فهذه الآية من الأدلة عَلَى التوحيد العملي وتوحيد الألوهية،وكذلك أيضاً أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عن أهل الكتاب أنفسهم في سورة التوبة حين قَالَ: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه))[التوبة:31] وهنا يقول:
((وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))آل عمران:64]، فهذه الآية دالة عَلَى أن أهل الكتاب وخاصة النَّصَارَى أعظم ما أضلوا فيه أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فالبابوات والكردينلات والأساقفة والقساوسة والبطاريق يشرعون لهم العبادات من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيطيعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولذلك نزلت هذه الآية في حقهم.
ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في حق أهل الكتاب:
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] فإن أهل الكتاب أتاهم الشيطان من هذا الجانب فعبدوا المسيح بن مريم واتخذوه وأمه إلهين، وعبدوا الأحبار والرهبان.
وكذلك أول سورة:
((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ))[الزمر:1] ((فإنها تكرر فيها ذكر الإخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ في أولها وفي آخرها))
((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ *
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:64-66] فهذه الآيات من ضمن الآيات التي جاءت في سورة الزمر تدل عَلَى أفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة وهو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة يونس وأوسطها وآخرها هي في التوحيد الذي هو توحيد الألوهية، وكذلك أول سورة الأعراف والآيات الأخيرة من السورة، وجملة سورة الأنعام من السور المتميزة المتفردة عَلَى طولها؛ لأنها ناقشت وبحثت وتحدثت عن قضية توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع أنواعه، فجاءت بذكر ما لم يذكر في السور الأخرى من تفصيل لشرك الْمُشْرِكِينَ.
مثلاً: ذكر في بعض السور أن الْمُشْرِكِينَ عبدوا وأطاعوا من دون الله كما في الآية من سورة التوبة: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))[التوبة:31] وقوله تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))[الشورى:21] ونحو ذلك من السور، لكن في سورة الأنعام تأتي الآيات بالتفصيل في بيان ما حرم المُشْرِكُونَ، وما شرعوا من البدع الضالة.
وفي سورة المائدة: (َ((ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَام)))[المائدة:103] وفي سورة الأنعام تفصيل أكثر: بأنهم حرموا ما رزقهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- واستحلوا المحرمات مثل قتل الأنبياء، وحرموا بعض الأنواع من الأنعام التي لا مجال الآن لتفصيلها، فرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم بقوله -مثلا في الأنعام-: ((آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ))[الأنعام:143] بمعنى: إما أن يكون التحريم لجنس الأنثى فتحرم كل أنثى، وإما أن يكون التحريم لجنس الذكور فيحرم كل ذكر، وإما أن يكون التحريم لما حمل البطن فيحرم ما حمل البطن جميعاً لكنهم خصصوا.
وهذا من أعظم الأدلة عَلَى تحريم البدع في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، مثال ذلك: لك أن تتصدق بما شئت وتقول هذه الشاة لله تعالى، وهذا المبلغ لله؛ لكن أن تخصص وقتاً معيناً ومبلغاً معيناً لكيفية معينة وتتحرى زمناً معيناً فيها فهذا التخصيص يجعل القضية تخرج من السنة إِلَى البدعة، وإلا لو بقي الأمر عَلَى إطلاقه لدخل في الأدلة العامة ولَمَا كَانَ هناك حرج.
فسورة الأنعام هي: سورة التوحيد الكبرى التي جَاءَ فيها تحريم اتخاذ غير الله رباً وولياً وحكماً، وهذه هي أصول التوحيد الثلاثة فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الرب الذي يعبد دون من سواه، وهو وحده الولي وهو وحده الحكم الذي يتحاكم إليه، وعلى هذه الثلاث القضايا تدور أكثر السورة بالإضافة إِلَى ما اشتملت عليه من توحيد الأسماء والصفات وتمجيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.