يرد المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً فَيَقُولُ: [كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد].
فالذين لا يأخذون الدين من المصدر الصحيح فمن أين يأخذونه؟ ولهذا فإن كل أحد يمكن له أن يسأل أي إنسان واجهه من المعتزلة أو الأشعرية أو الماتريدية هذا السؤال: ما الدليل من كتاب الله أو من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ ولا يوجد أبداً، فيقال لهم: إذاً أنتم لا تأخذون من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
وإما أن يأخذوا من القرآن، ولكن لم يأخذوا تفسير كتاب الله عن الصحابة وعن علماء السلف، وهذا يمكن أن تزل فيه الأقدام وتضل فيه الأفهام؛ لأن القُرْآن حمالُ وجوهٍ" كما قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيره، فالقرآن حمال وجوه، أي: بعض الآيات تحتمل وجوهاً فمن يبين لنا؟ قال تَعَالَى :((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ))[النحل: 44] فالذي يبين للناس ما نزل إليهم هو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أعلم النَّاس بالكتاب والسنة؟ لا شك أنهم الذين قرأوه وفهموه وعرفوا معانيه ومعاني السنة أقصد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ العلماء الذين من بعدهم، فما شرحوا به كتاب الله نقوله، وما لم يشرحوه، ولم يبينوه لا نبينه، فنجدهم يقولون: إن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدين حقيقة، صفة من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هَؤُلاءِ الضلال يقولون مثلاً: إن اليد تأتي بمعنى القدرة، وتأتي بمعنى النعمة، وتأتي بمعنى كذا، ومع أنهم قد يأتون بما يدل عَلَى ذلك من شعر العرب لكن لا يستطيع الواحد منهم أن يأتي بواحد من الصحابة نفى اليد عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ففهم الصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم مقدم وهو الحجة وكذلك العين والساق وأمثال ذلك من صفات الله.
فالمسالة في أصلها تعود إِلَى التلقي إما من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من الفهم لها كما فهمها الصحابة وكما فهمها العلماء الثقات الذين يؤخذ عنهم هذا العلم ويؤخذ منهم الدين، فالصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، والسلف لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده، -يعني الألفاظ وحدها- وإنما نقلوا اللفظ والمعنى، ولم يكونوا يتعلمون كتاب الله كما يتعلم الصبيان الذين لا يستطيعون أن يستوعبوا المعاني، وإنما يحفظون الألفاظ؛ فهذا سوء ظن بأفضل جيل.
وذكر المُصنِّف أن من لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه وبالهوى المجرد، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، وبالعكس من أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لأنه ليس كل إنسان يوفق للفهم الصحيح في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قد يفهم خطأ، كما وقع ذلك حتى في جيل الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، لكن إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، أما من أخذ من غير الكتاب والسنة فهو آثم، وإن أصاب، فلو جَاءَ أحدهم وقَالَ: أنا أثبت العلو لله كـابن رشد مثلاً فإنه يثبت كثيراً من الصفات التي تنكرها الأشعرية وكان عدواً شديداً للأشعرية.
يقولون: نثبت بالعقل وبالرأي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالم.
ولو قيل: ما رأيكم في الكتاب والسنة؟
لقالوا: لا، هذه تحتمل وظاهرها فيه تشبيه، نَحْنُ نثبت بالعقل.
فيقال لهم: هذا أثم، وإن كَانَ الكلام صواباً؛ لأنه لم يتبع الحق من منبع المحق ومن مصدر الحق وهو الكتاب والسنة، فنقول: ليس عقلك هو مصدر التلقي ولا مصدر الإثبات إلا في المجالات التي هي من شأن العقل وهي المجالات الاجتهادية لكن كلامنا في الدين وفي الاعتقاد، وفي الصفات، فلا يستطيعها العقل وليس في مجاله ولا من اختصاصه.