لأن هذا الشرح قد يلتبس عَلَى بعض الناس، ولأن المسألة أهم من قضية أن إنسان أخطأ أو اجتهد أو علق تعليقاً خطأً، أحببت أن أنقل إليكم كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مجموع الفتاوى (6/513) ورده عَلَى هذا الزعم بنفسه، -وهو نفي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بصوت- قَالَ: (.. وليس في الأئمة والسلف من قَالَ: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي، إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقَالَ: "يا بني هَؤُلاءِ جهمية، إنما يدورون عَلَى التعطيل".
ثُمَّ ذكر بعض الآثار المروية في ذلك؛ أي: ثُمَّ ذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه بعض الآثار، وهي موجودة في كتاب السنة لـعبد الله بن أحمد.
ثُمَّ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ مصدراً آخر قَالَ: ذكر ذلك البُخَارِيّ في كتابه " خلق أفعال العباد " وذكر أيضاً أن البُخَارِيّ ترجم لذلك في الصحيح الذي أنكره ونفاه الشيخ الأرنؤوط، قَالَ: وليس من طوائف الْمُسْلِمِينَ من أنكر أن الله يتكلم إلا ابن كلاب ومن اتبعه، يعني من الأشعرية، فنخشى أن يكون الشيخ هنا قد اتبع ابن كلاب في هذه القضية.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ أيضاً: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف -أي: في نفيه- وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة،
ثُمَّ استدل شَيْخ الإِسْلامِ بأدلة أخرى:
أولاً: ما جَاءَ في القُرْآن من آيات مناداة الله تَعَالَى للمشركين " وناداهم، ويوم يناديهم، ويوم يحشرهم فيناديهم...وما أشبه ذلك كثير في القُرْآن "، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: إن المناداة تكون بصوت مسموع يسمعه المخاطب، وغير هذا لا يمكن أن يتصور، فالمناداة إنما هي بالصوت والكلام.
الأمر الثاني: تكليم الله تَعَالَى لموسى، فإذا كَانَ النداء والكلام بدون صوت، فما الفرق بين كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام وبين وحيه إِلَى أي نبي من الأَنْبِيَاء عن طريق الإلهام، أن يلهمه الله في قلبه كما قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ))[الشورى:51].
فهو أحد الحالتين: إما الوحي، أو من وراء حجاب، وأما إرسال الرَّسُول فهو وحي غير مباشر، وأما الوحي المباشر فيكون بالإلقاء أو الإلهام إِلَى الرَّسُول من دون سماع للصوت من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من وراء حجاب أي كلام وصوت من غير رؤية، فحصل لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه نودي بصوت من غير رؤية، فإذا قلنا: لم يسمع موسى صوتاً، فالأمر كله إذاً من القسم الأول وهو مجرد الوحي ولم يسمع شيئاً.
وهذا مما يدل عَلَى بطلان هذا الكلام الذي تكلم به الشيخ الأرنؤوط غفر الله له.
وأيضاً يقول شَيْخ الإِسْلامِ: "إن السلف -المفسرين من السلف- اتفقوا عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى بصوت، وأيضاً من الأدلة ما جَاءَ في قوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سـبأ:23] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبه سماع الصوت كأنه سلسلة عَلَى صفوان.

يقول: فمن أراد الوقوف عَلَى الحقائق، وأراد اتباع الدليل الصحيح، ومعرفة ما يصف به ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يدل عَلَى ذلك وما لا يدل، فليواظب عَلَى سماع الأحاديث النبوية، فهو الدليل والمنهج الصحيح الهادي إِلَى الرشاد في معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي معرفة الحلال والحرام والأحكام والآداب والفضائل والسنة.
ففيها إثبات هذه الأحاديث التي إثباتها وسماعها على الجهمية، بمنزلة الصواعق؛ لأن القوم قد أعموا أبصارهم ولا يريدون أن يسمعوا بأي حال من الأحوال ما يخالف ما استقرت عليه قلوبهم المريضة وعقولهم الضالة.