هنا قضية مهمة لابد أن نعلمها وهي من أهم الأصول في مسائل العقيدة وهي موضع الفصل بين أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من جهة، وبين غيرهم من الطوائف من جهة أخرى، وهي ما أشار إليه المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى بقوله: [ولو استدل مُستدلٌ بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء عَلَى تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به] أي: لو جئناهم بحديث من الصحيحين قد اتفق العقلاء عليه وعلى تلقيه بالقبول، وقلنا لهم: هذا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يقولون: هذا خبر آحاد وخبر الآحاد لا يحتج به في العقيدة، هذا مذهب عموم أهل الكلام والمعتزلة والأشعرية.
فيحتجون كما يقولون بالبراهين القطعية الثابتة، أما الأدلة الشرعية، فهم يقولون: إن ما جَاءَ في القرآن، وما جَاءَ في السنة فإنها عَلَى أحد نوعين:
النوع الأول: إما أن تكون الآيات أو الأحاديث متواترة.
النوع الثاني: أن تكون الأحاديث التي رويت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آحاداً، أما الآحاد فلا يشتغلون بها نهائياً، حتى قال قائلهم وهو أبو المعالي الجويني: إن اشتغلنا به عَلَى سبيل التبرع فنؤوله، وإذا أولناه فلا ننظر إليه نهائياً مادام أنه في باب العقيدة، لكن لو اشتغلنا به فهو تبرع منا أو تطوع ونؤله، هذا موقفهم من خبر الآحاد حتى أن بعض زعماء المعتزلة يقول: المتواتر هو: ما رواه سبعون عن سبعين إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقل من هذا العدد، فلا يحتج به، وهذا المتواتر إذا خالف البراهين العقلية، فإنهم يؤلونه، والحجة عندهم هو: ما نقلوه عن أفلاطون وأرسطو وأمثالهما.
وأما القُرْآن والسنة فنؤلهما لتوافق هذه القواعد.
إذاً ما الفائدة من إنزال القرآن؟ أمن أجل أن نشتغل بتأويله ليوافق ما قاله أرسطو وأفلاطون! ومن ثُمَّ ننظر ما ثبت متواتراً منها اشتغلنا بتأويله وما كَانَ آحاداً رددناه! فهذا مضيعة مشغلة، وكان الأولى أن نشتغل ونجعل الوقت والجهد كله فيما قرره هَؤُلاءِ من القواعد والبراهين وننتهي من إضاعة العمر في رد ونقض القُرْآن والسنة وتأويلها لتوافق ما قالوا.
هذا هو لازم لهم بأي حال من الأحوال ولا يمكن أن يحيدوا عنه أبداً والواقع معلوم، وكما يعلم كل ذي لب من مؤرخ أو مفكر مؤمن وغير مؤمن أن علم اليونان وعلم غيرهم كَانَ موجوداً قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان متداولاً حتى في بعض الأقطار التي فتحها الْمُسْلِمُونَ مثل بلاد الشام وبلاد مصر وكانت هذه الفلسفات معروفة فماذا أغنت عنهم وما أعطتهم من الحق والهدى؟ لم تعطهم إلا الضلال والحيرة والعياذ بالله، فلا بد إذاً من الرجوع إِلَى الكتاب وإلى السنة
ولو نظرنا إِلَى ما يمكن أن نرد به على هَؤُلاءِ من واقع دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسنجد الإمام البُخَارِيّ رحمه الله تعالى عقد باباً في صحيحه سماه أخبار الآحاد وأيضاً كتاباً آخر أسماه الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد تعمد الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يعقد هذا الباب لينبه إِلَى هذه المسألة المهمة، ويبين لنا خطر ما يدعو إليه أُولَئِكَ المتكلمون وذكر فيه جملة من الأحاديث التي تبين وتقطع ببطلان دعوى التواتر.
ومن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا بعث الرسل إِلَى ملوك الأرض قاطبة ليبلغهم العقيدة فبعث دحية الكلبي إِلَى هرقل ملك الروم وهو رجل واحد ولم يبعث عشرين ولا ثلاثين ولا سبعين.
وبعث إِلَى الفرس أيضاً رجلاً واحداً.
وبعث كذلك إِلَى المقوقس ملك، أو عظيم القبط رجلاً واحداً، ولنفرض أنهم رجلين، فهذا لا يؤثر، فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن ثُمَّ أبا موسى الأشعري وهم آحاد ولم يصل العدد إِلَى حد التواتر، وقد كَانَ يأتي إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل مثل عامر بن الطفيل الدوسي ومثل ضمام الذي قال أنا ضمام أخو بني سعد بن بكر، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التوحيد والإيمان ثُمَّ رجع وأنذر قومه وبلغهم.
وكثير من هَؤُلاءِ الصحابة الذي كَانَ يذهب الواحد منهم ويعود إِلَى قومه ويبلغهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك أهل المدينة كيف دخلوا في الإسلام، هل أرسل لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدد التواتر؟
إنما بعث إليهم مصعب بن عمير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رجلاً واحداً أدخلهم في الإسلام حتى أنهم استقبلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأحضان من أول يوم وصل المدينة، وإذا به سيد المدينة، وحاكمها المطلق، فآمنوا واهتدوا وهم أفضل الأمة بعد المهاجرين بدعوة رجل واحد.

فدعوى من يقول: إن العقيدة لا تؤخذ عن الخبر الواحد دعوى واضحة البطلان، ومن ذلك ما يقول به كثير من النَّاس اليوم، الذين يردون بعض الأحاديث الصحيحة، كحديث الذباب فيجدر بنا أن نتنبه إِلَى خطورة هذه القضية: بعض النَّاس قد يكونون إسلاميين أو دعاة أو ما أشبه ذلك، ولكنهم منحرفون في هذه القضية ولا يضرنا ذلك ومن ذلك ما راج من بدعة إنكار آحاد السنة وبالذات حديث الذباب الذي صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} فردوا هذا الحديث مع أنه حديث صحيح ثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إن العلم يثبت أن هناك ميكروبات، فكيف يردونه؟
قالوا: هذا آحاد، لم يثبت بالتواتر، سُبْحانَ اللَّه! ولو أننا من أجل حديث الذباب لا بد أن نأتي برواية أربعين عن أربعين، أو ثلاثين عن ثلاثين، أو سبعين عن سبعين، فمعنى ذلك أن لا إله إلا الله والصلاة لابد له من رواية ألف عن ألف عن ألف، حتى تثبت وهذا شيء عجيب، وإذا كانوا يريدون التواتر في الذباب إذاً متى يقبلون منَّا خبر الآحاد؟ ولماذا يجهد البُخَارِيّ ومسلم والإمام أَحْمَد أنفسهم ويجمعون الطرق.
وبعض الصحابة ما روى إلا حديثاً واحداً عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لقيه إلا تابعي واحد أو اثنان، فمعنى ذلك: أن من كَانَ الراوي له من التابعين واحد أو اثنان أو أقل من التواتر فإننا نرد جميع أحاديثه، ومن ذلك بعض أمهات المؤمنين؛ لأنه لم يكن يدخل عليهن أو يخاطبهن إلا بعض أقاربهن فمعنى ذلك أن نرد كل ما روي عنهن؛ لأنه لم يرد عنهن عدد التواتر سبعين أو أربعين أو ثلاثين مثلاً مع الخلاف الذي بين المعتزلة، فهذه من أبطل الدعاوى وأكثرها بهتاناً وإفكاً فالغرض منها هو هدم الدين من أساسه ولكن غلَّفوا ذلك الهدم باسم أننا نريد التواتر ونريد أن نستوثق؛ لأن الراوي الواحد قد يخطئ وقد ينسى وقد يضل وغيرها من الاحتمالات ونحن لا ننكر أن بعض الرواة يخطئ، وهذا موجود!
وقد قال علماؤنا في نقدهم للأحاديث في المتون: هذه الكلمة مدرجة، وأخطأ الراوي في هذه الكلمة، وأصاب فلان، وَقَالُوا: هذا الحديث شاذ، والشاذ هو ما خالف فيه الثقة ثقات آخرين، فهم يعرفون هذا، فما قلنا ولم نقل: إن كل من روى له البُخَارِيّ أو مسلم أو كل من قال العلماء: إنه ثقة أو صدوق أنه معصوم لا يخطئ، لم يقل ذلك أحد من العلماء بإطلاق؛ لكن هل يرد حديثه بناءً عَلَى أنه غير معصوم؟!
ونضرب عَلَى ذلك مثالاً واقعياً: الآن هل يوجد طبيب في الدنيا معصوم لا يمكن أن يخطئ في أي علاج، لا، بل كل طبيب يمكن أن يخطئ، فلو جَاءَ وقَالَ: ما دام أنه كذا فتغلق جميع المستشفيات وجميع العيادات ولا نقبل أي شيء لأنه من الممكن أن يخطئ فمن الممكن أن يذهب أحد النَّاس ويعطي له إبرة أو حبوب أو شيء فيموت، فما دام أنَّ احتمال الخطأ وارد فلا نقبل من أي طبيب عَلَى الإطلاق، ويصبح النَّاس لا يتداوون ولا يتعالجون، فيقول النَّاس عن هذا: إنه مجنون فلو أنه أخطأ مرة أو مرتين فالخطأ يمكن أن يتدارك، ولو لم يتدارك فجانب المنفعة عظيم جداً والخطأ نزر وقليل فيغتفر ويحتمل.
فكذلك عندما يقولون ألستم تعترفون أن الرواة قد يخطئون نقول: قد يخطئ، فهل ما دام أنه قد يخطئ إذاً لا نقبل أي حديث، سُبْحانَ اللَّه!! هذا الكلام لا نقبله منهم، بينوا لنا أنه أخطأ في هذه اللفظة، ونحن لا نقول بهذه اللفظة، أعطونا الدليل عَلَى ذلك، قولوا: قال أَحْمَد، قال البُخَارِيُّ، قال ابن معين، قال ابن المديني، قال النَّسَائِيُّ، قال أبو داود: إن هذا أخطأ في هذه اللفظة ونحن نقبل هذا الكلام ولا مشاحة في ذلك؛ لأن هذا علم اسلكوا طريقه وتعلموه ثُمَّ ناقشونا به، لكن الرد بدون علم لا نقره، ولا يقره أي إنسان في أي علم فضلاً عن أشرف العلوم بعد كتاب الله، وهو علم السنة التي تكفل الله تَعَالَى بحفظها عن طريق هَؤُلاءِ الأئمة الثقات الأثبات.

وهناك لفتة عجيبة أشار إليها المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذلك لما قَالَ: [وهنا معنى عجيب وهو أن هذا القول له شبه بقول النَّصَارَى].
وهذا اتضح حينما قلنا: إن النَّصَارَى يقولون: حلَّ الناسوتُ باللاهوت، وهذا بمعنى أنه يقوم مقامه ويتكلم باسمه، فكذلك يقول هَؤُلاءِ: إن الكلام المخلوق الذي في المصحف هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فالعلاقة بين المعنى القائم بالنفس، وبين الكلام المخلوق أو النظم الموجود بين الدفتين في المصحف تُشَابِهْ تماماً العلاقة التي تقولها النَّصَارَى بين الناسوت واللاهوت ففي هذا مشابهة عجيبة ودليل عَلَى أن هذه الفكرة أصلها ومنشأها من غير الإسلام.

وقد أشرنا إِلَى ذلك عندما استعرضنا في أول مبحث الكلام وهو: أنهم أخذوه من النَّصَارَى وأرادوا أن يردوا عَلَى النَّصَارَى فاضطروا إِلَى القول بأنه مخلوق، فسواء كَانَ التأثير مباشراً، أو ردة فعل عكسية، فأيا كَانَ الأمر فإن هذا القول غريب عن دين الإسلام والْمُسْلِمِينَ.