المادة كاملة    
العرش من مخلوقات الله تعالى التي نؤمن بها ونثبتها، ونؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من أوصاف العرش، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، أما أهل البدع فإن عقيدتهم تختلف عن عقيدة أهل السنة؛ فالفلاسفة يقولون: إن العرش هو الفلك الأخير أو التاسع، وأهل التأويل يقولون: إن المقصود بقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) أي: استولى على الملك واستقر ملكه وثبت.
  1. الإيمان بالغيب

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [والعرش والكرسي حق].
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقوله: [والعرش والكرسي حق]. كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:15]... ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ))[غافر:15]... ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]... ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54] في غير ما آية من القرآن: ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ))[المؤمنون:116] ... ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))[النمل:26]... ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ))[غافر:7]... ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]... ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[الزمر:75].
    وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم} .
    وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش وبين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء} ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة .
    وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن عرشه على سماواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة} الحديث.
    وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن} يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.
    وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور}.
    والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: ((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ))[النمل: 23]، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت:
    مجدوا الله فهو للمجد أهل            ربنا في السماء أمسى كبيرا
    بالبناء العالي الذي بهر النَّا            س وسوَّى فوق السماءِ سريرا
    شرجعاً لا يناله بصر العيـ            ـن ترى حوله الملائك صورا
    الصُّور هنا جمع أصور، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة.
    ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي عَرَّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
    شهدت بأن وعد الله حق            وأن النار مثوى الكافرينا
    وأن العرش فوق الماء طاف            وفوق العرش رب العالمينا
    وتحمله ملائكة شداد            ملائكة الإله مسوَّمينا
    ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة.
    وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أذن لي أن أُحدِّث عن ملكٍ من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام} ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: {مخفق الطير سبعمائة عام}.
    وأما من حرَّف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] وقوله: ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7]؟! أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء؟! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!)]
    ا هـ.
    1. العرش والكرسي من الغيبيات

      موضوع العرش والكرسي من مباحث الغيبيات، وهي ما يسميها أهل الكلام بالسمعيات؛ لأنها لا تعلم إلا عن طريق السمع وهو الوحي، ومن الغيبيات أيضاً: الحوض والميزان، والصراط، والإسراء والمعراج، والقلم واللوح، وأما ما يدرك بالنظر العقلي عندهم، فمثل إثبات بعض الصفات، ككونه تعالى عليماً وسميعاً وبصيراً وقادراً ومريداً، ويسمونها: الصفات العقلية.
      سؤال: هل علو الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يدرك إلا بالوحي، أو يمكن أن يدرك بالعقل والفطرة؟
      الجواب: علو الله يمكن إدراكه بالفطرة والعقل، فكل العقلاء يقرون به، وجميع البشر مفطورون عليه، أما الاستواء فهو مما لا يدرك إلا بالوحي.
    2. قاعدة أهل السنة في باب الإيمان بالغيبيات

      العرش والكرسي هما من أعظم الأمور الغيبية التي يجب على المؤمن بالله وكتابه ورسوله أن يؤمن بها.
      وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع ما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه، وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب؛ لأن القاعدة عند أهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب الغيبيات- الإيمان بما ورد في القرآن أو صحَّ في السنة من أمور الغيب؛ فشرطهم فقط هو الثبوت وليس هناك أي شرط آخر.
      فإن قيل: قد يأتي في الأخبار ما لا يدل العقل عليه، أو ما ينافي العقل، أو ما لا يمكن للعقل أن يدركه؟ فنقول: إن أهل السنة لا ينظرون إلى مثل هذا الكلام ولا يأبهون به، فمتى ثبت عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر من أمور الغيب، فإنهم يؤمنون به كما أخبر الله ورسوله، ولا يعرضونه على العقول والآراء، ولا على مشايخ الطرق، ولا على مناهج المتكلمين؛ لأن من أخصِّ صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، ولولا ذلك ما كانوا مؤمنين، فإذا رأى أهل النار النار وأهل الجنة الجنة، ورأى الناس ما كانوا يوعدون -وذلك في اليوم الآخر- فحينئذٍ: ((لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا))[الأنعام:158]؛ لا ينفع الإيمان حينئذ بتلك الغيبيات لأنها قد صارت أمراً مشاهداً.
      والإيمان بالغيب هو حقيقة الإيمان؛ فعلى المسلم أن يؤمن بما أخبر به الله ورسوله وإن لم يره، وإنما يؤمن به تبعاً لإخبار الله وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة .
    3. قاعدة أهل البدع في الإيمان بالغيبيات

      يشترط أهل البدع في الإيمان بالغيبيات: الورود والثبوت، وكذلك ألا يكون المخبر عنه مخالفاً للعقل، أي: للقواعد العقلية أو البراهين العقلية، فإذا قرأت في كتاب من كتب الأشاعرة -مثلاً- فستجدهم يقولون: ونؤمن بعذاب القبر لورود الخبر به، ولأنه ليس فيه ما ينافي العقل.
      وعليه فإنه لو كان فيه ما ينافي العقل، لأولوا الخبر أو أنكروه؛ كما أولوا حديث النزول وكما أولوا أخبار الاستواء.
  2. أقوال أهل البدع في مبحث العرش والكرسي

     المرفق    
    إذا جئنا إلى مبحث العرش والكرسي، فما هي أقوال أهل البدع فيه؟
    أما أهل السنة والجماعة فقد عرفنا قولهم، وسنذكره -إن شاء الله- بالتفصيل، وأما الفرق الأخرى فقد ألمح إليها المصنف رحمه الله هنا، فـالفلاسفة والمتكلمون المتأثرون بهم يقولون: إن العرش هو الفلك الأخير، أو الفلك التاسع، أو الفلك الأطلس، فيؤولون عرش الرحمن الذي وردت صفاته في الكتاب والسنة، ويؤمنون بهذا الذي يسمونه الفلك الأخير أو الفلك التاسع أو الأطلس، ويقولون: إن كلامهم هذا إنما هو محاولة منهم للتوفيق بين كلام رب العالمين الذي أنزله في القرآن، وبين كلام أرسطو وفلاسفة اليونان، وسر ذلك أن القوم أخذوا بالحكمة والفلسفة، وقالوا: لا تعارض بين الحكمة وبين الشرع، لكن الشرع يأتي بأساليب خطابية وألفاظ يعرفها العامة ويعرفها العرب في عصرهم، أما الحكمة والفلسفة فتأتي بأساليب برهانية وقواطع جدلية، وكذلك تأتي باصطلاحات أهل الهيئة -وبتعبيرنا المعاصر: اصطلاحات علمية- فيقولون: ما سماه الأنبياء العرش هو الذي سماه الحكماء الفلك التاسع أو الأطلس، وهذا الذي سنرد عليه إن شاء الله، فهؤلاء الفلاسفة -كثير منهم- ليسوا من الإسلام في شيء.
    وهناك طائفة من المؤولة يقولون: العرش هو كناية عن الملك، أو معناه الملك، فليس لله تعالى عرش ولم يستو على العرش، أما قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الرعد:2] فمعناه عندهم: استولى على الملك، واستقر ملكه وثبت، وهؤلاء هم أهل التأويل.
  3. كلام ابن تيمية على العرش في الرسالة العرشية يدل على سعة علمه وفهمه

     المرفق    
    وبهذه المناسبة أحب أن أذكر شيئاً مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في الرسالة العرشية وهي في آخر الجزء السادس من مجموع الفتاوى، وقد طبعت مفردة مستقلة، وقد حققت ونشرت أيضاً في مجلة الدارة في عدد قديم، وهذه الرسالة من أحسن ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ففيها من الفوائد والعلم الغزير ما يحير العقول.
    1. عبقرية ابن تيمية وسبقه للعلم الحديث

      كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الرسالة في زمن كانت فيه أوروبا تعُج بالجهل والظلمات، مرت على أوروبا ستة قرون -على الأقل- لم يكتب فيها كتاب واحد في أي علم من العلوم، وحين كتب شيخ الإسلام هذه الرسالة -بل بعد وفاته ببضعة قرون- كانت الكنيسة البابوية زعيمة العالم النصراني الأوروبي تحكم على العلماء بالحرق أو الإعدام أو السجن؛ لأنهم قالوا بنظريات تخالف نظريات أرسطو ؛ مع أنها ليس فيها مما ذكره شيخ الإسلام هنا إلا النزر القليل، فلا مقارنة ولا نسبة بين ما كتب هنا رحمه الله وبين ما كتبه كوبرنيك مثلاً أو قاله برونو، أو جاليليو ومع ذلك فإن زعامة الدين النصراني -هيئة الكنيسة أو هيئة رجال الدين- قامت بإحراق برونو وسجنت جاليليو ولم تحرقه لأنه أذعن للكنيسة وأعلن تراجعه عن أقواله، ولم تكن العقلية الأوروبية تدرك إلا النزر اليسير مما كتب في هذه الرسالة، وهو كلام يعجب منه كل من اطلع عليه؛ كيف توصلت هذه العقلية الجبارة إلى تقرير هذه الحقائق العجيبة؟!!
      بل ما أتى به أينشتاين -وهو من أكبر علماء الطبيعة، وهو الذي فتح مرحلة جديدة من مراحل تطور العلوم البشرية كما يقولون- لا يضاهي ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هنا.
    2. الكتاب والسنة هما مصدر العلم والنور

      ليس المجال هنا مجال مقارنة بين ما كتبه علماؤنا وبين ما قاله أولئك، لكن العبرة أن نعلم أن مصدر الحق والخير والهدى والعلم النقي الصافي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا رزق الله تبارك وتعالى العبد فيهما فهماً ثاقباً وعلماً صادقاً وإخلاصاً، فإنه يفتح عليه من أنواع العلوم ما لا يستطيع أن يدركه غيره، وهذه هي العبرة.
      ثم نحن لا نقول هذا من أجل أوروبا ولا من أجل الغربيين، فهم كفار، ولن يؤمنوا بما هو أعظم من ذلك، لكن نعجب من وجود كثير من المسلمين -وبعضهم من العلماء في القديم والحديث- يغمطون حق هذا الرجل العظيم، وينكرون فضله وقدره، مع أن هذا الذي فتحه الله تعالى على يديه هو نصرٌ للإسلام، وهو دليل على أن هذا الدين هو دين الحق، وهو دليل على أن ما أنزله الله تعالى من الوحي هو مصدر الحق الذي لا يتغير مهما تغيرت العصور والأزمان، ومهما ترقى العلم البشري، بل غاية ما يصل الإنسان إليه بعلمه أن يفهم ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
  4. إثبات شيخ الإسلام أن العرش ليس فلكاً كرياً وأنه مباين لغيره

     المرفق    
    سُئل شيخ الإسلام رحمه الله: "ما تقول في العرش: هل هو كري أم لا؟ وإذا كان كرياً، والله من ورائه، محيط به، بائن عنه، فما فائدة أن يتوجه العبد إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون غيره، ولا فرق حينئذٍ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها، وابسط لنا الجواب في ذلك بسطاً شافياً، يزيل الشبهة، ويحقق الحق إن شاء الله، أدام الله النفع بكم وبعلومكم.. آمين".
    1. العرش ليس فلكاً من الأفلاك المستديرة

      أجاب الشيخ رحمه الله تعالى بجواب طويل هو هذه الرسالة العرشية ومما قاله شيخ الإسلام فيها: "إنه لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل، لا بدليل شرعي ولا بدليل عقلي".
      ثم أخذ يرد على القائلين بأن العرش هو الفلك التاسع فقال: "فالأشكال الحادثة في الفلك -لمقارنة الكوكب الكوكب في درجة واحدة، ومقابلته له إذا كان بينهما (نصف الفلك) وهو مائة وثمانون درجة، وتثليثه له إذا كان بينهما (ثلث الفلك) وهو مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما (ربعه) تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما (سدس الفلك) ستون درجة، وأمثال ذلك من الأشكال- إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عين الأخرى؛ إذ حركة (الثامن) التي تخصه ليست عين حركة التاسع، وإن كان تابعاً له في حركته الكلية،كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها" شيخ الإسلام رحمه الله يرد على الذين يقولون: إن الفلك التاسع الأطلس هو الذي يحرك بقية الأفلاك، ويقول لهم: إن حركة كل فلك تخصه.
      إلى أن يقول: "ولكن هم قوم ضالون، يجعلونه مع هذا ثلاثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى؛ لا باختلاف القوابل؛ كمن يجيء إلى ماء واحد، فيجعل لبعض جزءيه من الأثر ما يخالف الآخر؛ لا بحسب القوابل؛ بل يجعل أحد أجزائه مسخناً، والآخر مبرداً، والآخر مسعداً، والآخر مشقياً..! وهذا مما يعلمون -هم وكل عاقل- أنه باطل وضلال.
      وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل هو (أن العرش هو الفلك التاسع) رجماً بالغيب، وقولاً بلا علم".
      انظروا جهل هؤلاء الفلاسفة وتخبطهم؛ فهم ليس عندهم ما يثبت ما قالوه ولا ما ينفيه أيضاً؛ لكن خطر في عقولهم أن الأفلاك تسعة، أو أن العقول عشرة... لماذا لا تكون مائة أو ألفاً؟!... هكذا..!
      ولذلك كان كلامهم أضحوكة عند علماء الفيزياء وعلماء الكونيات في هذا العصر؛ فإن الباحثين -إلى هذه اللحظة- لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أبعاد هذا العالم السفلي -الكون الذي هو دون السماء الدنيا- ولا إلى نهايته، ولم يستطيعوا أن يدركوا حقيقته، فما بالكم بمن يتكلم عن أفلاك تسعة؟! هذا رجم بالغيب وقول بلا علم..!
      ثم يقول رحمه الله: "هذا كله بتقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة؛ إذ في ذلك من النزاع والاضطراب -وفي أدلة ذلك- ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير.
      وأيضاً: فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد؛ فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس، وإذا كان هناك فلك تاسع، فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع، وأما (العرش) فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات" أي: فالعرش ليس مجرد فلك كسائر الأفلاك، قال: "وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض" أي: مثل نسبة السماء الأولى إلى الثانية أو الثانية إلى الثالثة "قال الله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ))[غافر:7] الآية وقال سبحانه: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون ويستغفرون للمؤمنين، ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك -بقدرة الله تعالى- كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها، فحكمه حكم نظيره" يعني: إذا كان لفلك منها ملائكة تحمله، فلغيره من الأفلاك ملائكة تحمله أيضاً؛ فحكم جميع الأفلاك إذن واحد، والعرش ليس كذلك.
      قال: "قال تعالى: ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ))[الزمر:75]، فذكر هنا أن الملائكة تحف من حول العرش، وذكر في موضع آخر أن له حملة" مثل قوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] "وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله فقال: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[غافر:7]، وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7].
      وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض}.
      وفي رواية له: {كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء}".
      وليس العجب هنا أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن هذا الشيء، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما لم نكن نعلمه أو نتخيله، ولا يمكن لعقول الناس أن تعلمه أو تتخيله، لكن العجب هو من وفد أهل اليمن الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً أو مجدداً للإيمان، وأخذ يسأله عن أول هذا الأمر وكيف كان؛ فكيف خطر على عقولهم هذا السؤال؟! إن العرب في الجاهلية لم يكن يخطر ببال أحدهم مثل هذا السؤال عن نشأة هذا الكون ولم تكن عقولهم لتنشغل بهذه الأشياء، وإنما كان عقل العربي في الجاهلية يدور حول الناقة والمرأة والخيمة والخيل، وأمثال ذلك.
      إن التفكير في مسألة نشوء العالم قد يكون؛ لكن كخواطر فطرية، تخطر بعقل أحدهم من غير أن يلقي لها بالاً.
      ولم يكن يخطر ببال أحدهم أن يصل ذلك إلى علم يقيني يعتقدونه.
      لكنهم عرفوا وعلموا قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدر العلم والهدى الذي جاء به، فأخذوا يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحق في هذه المسألة المهمة.
  5. أدلة ثبوت العرش والرد على الفلاسفة

     المرفق    
    1. إضافة العرش إلى الله في الآيات والأحاديث

      يقول ابن تيمية : "وهو سبحانه وتعالى ممتدح بأنه ذو العرش، كقوله سبحانه: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا))[الإسراء:42]"، فذو العرش إذن هو الإله الحق، "وقوله تعالى: ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:15-16] وقال تعالى: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:14-15]، وقد قرئ (المجيدُ) بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفةً للعرش".
      ومن الغرائب أن الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله ذكر في مقدمة الرسالة المعروفة في المذهب المالكي -وهو الذي كان يسمى: (مالك الصغير) لسعة علمه وفقهه- ذكر صفات الله سبحانه وتعالى في أولها وقال: (استوى على عرشه المجيد بذاته)؛ فأتى بكلمة (بذاته) حتى يقطع الطريق على المؤولين، فقرأها الشراح من المالكية بعد أن أصبحوا أشاعرةً هكذا: (وأنه تعالى على عرشه). فقالوا: نقف هنا ثم نقرأ: (المجيدُ بذاته)، فقالوا: إن ابن أبي زيد يصف الله سبحانه بأنه المجيد بذاته..! والله تعالى هو القادر بذاته، والعليم بذاته، والحكيم بذاته؛ فلم يكتفوا بتأويل كلام الله، بل أولوا حتى كلام العلماء الذي لا يحتمل التأويل، وهو رحمه الله حين جاء بكلمة (بذاته)، جاء بها عامداً ليقطع طريق التأويل، وحتى لا يقول أحد: إنه في كل مكان! أو يزعم أنه لا داخل العالم ولا خارجه كما يقولون، ومع ذلك حرفوا كلامه كما حرفوا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
      ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أحاديث تدل على مقصوده كحديث: { سبحان الله عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضاء نفسه، ومداد كلمات} وحديث الصعق، وفيه: {وأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش} وحديث: {اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ }.
      ثم ذكر رحمه الله الأحاديث الدالة على أن العرش هو سقف جنة الفردوس جعلنا الله من أهلها؛ كحديث: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة} يقول رحمه الله: "ولفظ الفلك يدل على الاستدارة مطلقاً؛ كقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[الأنبياء:33]. وقوله تعالى: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[يس:40] يقتضي أنها في فلك مستدير مطلقاً كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[في فلكة مثل فلكة المغزل]]" فلْكة بسكون اللام، أو فلَكة بفتح اللام ولعلها بالفتح أصح؛ هي التي يدور المغزل حولها، وهي معروفة عند أهل البادية.
      ثم قال: "وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى؛ لا بنفي ولا إثبات؛ لكن يدل على الاستدارة من العلو؛ كالقبة الموضوعة على الأرض" ذكر شيخ الإسلام هذا التوجيه منه للفظ (القبة)؛ لأنه قد أورد حديث الأعرابي، وفيه: { وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة }؛ لكن الحديث ضعيف غير ثابت.
    2. عقيدة الفلاسفة في الغيبيات وبيان جهلهم

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات، ولا يعلمون ما وراء ذلك؛ مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً" أي: المتصاعد من البحار "وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت" وهو الرعد "ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم"، يعني: أنه شيء معروف، مرئي بالعين، ولم يقل أن هذا يخالف الدين، بل قال: هذا علم بسيط جداً؛ لا مشكلة فيه؛ كالعلم بأن المني يقع في الرحم، "لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن، الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب؟! وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء أو البخار منعقداً سحاباً مقدراً بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به، وينزل على قوم عند حاجتهم إليه، فيسقيهم بقدر الحاجة؛ لا يزيد فيهلكوا، ولا ينقص فيعوزوا؟".
      يعني: أن هذا المطر -في الأعم الغالب- رحمة من الله تعالى؛ يسوقه الله إلى حيث يشاء.
      وأعجب من ذلك -وقد كشف عنه أخيراً- أن السحب في سيرها وحركتها تسير وفق أنظمة معينة، وأن لها سرعات مختلفة؛ بحسب ارتفاعها عن سطح الأرض، وكذلك بحسب أنواعها، وكل ذلك بموازين دقيقة؛ لم يتوصل إلى كثير منها بعد.
      وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: ينبغي أن تعلموا ضعفكم وجهلكم وعجزكم، وأن تنسبوا علم ذلك إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
      ثم يقول: "وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر، أو تمطر مطراً لا يغنيها؛ كأرض مصر؛ إذ كان المطر القليل لا يكفيها، والكثير يهدم أبنيتها"، أي: فما هو السبب في أن يساق لها الماء بالنهر الذي يجري في أرضها؟ "قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ))[السجدة:27] وكذلك السحاب المتحرك، وقد علم أن كل حركة، فإما أن تكون قسرية" يعني لا إرادية ولا اختيارية "وهي تابعة للقاسر" يعني هذه الحركة تنسب إلى المحرك "أو طبيعية" يعني من ذاتها، "وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه، فيطلب عوده إليه، أو إرادية وهي الأصل" وهي الحركات الإرادية الاختيارية كحركات البشر.. يقول: "فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية" يعني حركة المطر وحركة السحاب وحركة الأفلاك، وحركة كل شيء؛ كل ذلك تابع للحركة الإرادية، "التي تصدر عن ملائكة الله تعالى، التي هي المدبرات أمراً، والمقسمات أمراً"، فليست حركة السحب من ذاتها؛ تذهب لتمطر كما تشاء في أي مكان تشاء؛ بل وراء ذلك حكمة وإرادة، ووراء هذه الحركة العابرة الظاهرة حركة إرادية، وهي الملائكة التي لا نراها، والتي أوكل الله سبحانه وتعالى إليها تدبير ذلك وتقسيم الأرزاق، يقول: "والكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا".
    3. عظمة الله جل جلاله وقهره لخلقه

      قال ابن تيمية رحمه الله: "المقام الثاني: أن يقال: العرش -سواءٌ كان هو الفلك التاسع أو جسماً محيطاً بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، غير محيط به، أو قيل فيه غير ذلك- فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟}.
      وفي الصحيحين -واللفظ لـمسلم - عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟} وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأخذ الله سماواته وأرضه بيده، ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟!}.
      وفي لفظ: قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: يأخذ الجبار سماواته وأرضه، وقبض بيده، وجعل يقبضها ويبسطها، ويقول: أنا الرحمن؛ أنا الملك؛ أنا القدوس؛ أنا السلام؛ أنا المهيمن؛ أنا المهمين؛ أنا العزيز؛ أنا الجبار؛ أنا المتكبر؛ أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً؛ أنا الذي أعدتها؛ أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟ -وفي لفظ: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟- ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! }.
      والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضاً؛ وفي بعض ألفاظه قال: {قرأ على المنبر: (( وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الزمر:67] الآية.. قال: مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة}، وفي لفظ: {يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده، فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة.. أنا الله الواحد!} وقال ابن عباس : [[يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده]]، وفي لفظ عنه: [[ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم]]، وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث".
      فهذه بعض الآثار، والمقصود بها الاستدلال على أن العالم العلوي والسفلي؛ بما في ذلك العرش والكرسي -على عظم خلقهما- والسماوات والأرض؛ كل ذلك بالنسبة لله سبحانه وتعالى في غاية الصغر والضآلة، وهو كالخردلة أو كالحمصة في يد أحدنا، ولذلك فالله سبحانه وتعالى إذا وصف بالعلو على المخلوقات، فعلوه عليها حقيقي، فهو فوقها، وهو ملكها، وهو المتصرف فيها كما يشاء، وهي بالنسبة له في غاية الصغر والضآلة والحقارة، تعالى الله سبحانه وتعالى وتقدست صفاته.