إن البلاغيين الذين قالوا بالمجاز يعلمون أن أول من أحدثه وتكلم به هم المعتزلة بخلاف كلمة المجاز في لغة العرب قبل ذلك، فإنها تطلق بمعنى مكان العبور، أي: معبر تجوز منه وتعبر منه إِلَى مكان آخر، هذا أصله في اللغة.
ويقولون مثلاً: إذا دخل رجل كريم: دخل البحر، بمعنى الرجل الكريم أو الكثير العلم شبه بالبحر لكرمه أو لغزارة علمه، والمجاز يجوز نفيه، فيجوز أن يأتي أحدٌ ويقول هذا ليس بحراً، ولكنه رجل، وكلام هذا المعترض لنا صحيح، وكلام المتكلم صحيح مجازاً لكن كلام النافي صحيح وهذا هو الذي يهمنا؛ لأنه نفى ما قلته أنت عَلَى سبيل المجاز، وأثبت الشيء عَلَى حقيقته لأن هذا الرجل ليس بحراً، أي ليس ماءاً وإنما هو رجل.
إذاً: المجاز يجوز نفيه، فهذه القاعدة يجب علينا أن نعرفها لنرد بها قول من يقول: إن في القُرْآن مجاز ولا سيما في آيات الصفات، فإذا جَاءَ أحد وقال في معنى قوله تعالى: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] أن المعنى: نعمه وإفضاله، والقرينة الدالة عَلَى ذلك قوله تعالى: ((يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)) [المائدة: 64] وهذه قرينة تدل عَلَى أن المقصود هو الإنفاق، وجاء آخر عَلَى مذهبهم، وقَالَ: ليس لله يدان، وهذا هو حقيقة مذهب الذين ينفون صفات الله عز وجل، لكن لو جَاءَ أحدٌ من علماء السلف من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وقال لنا: معنى قوله تعالى: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء))[المائدة: 64] أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كريم ينفق كيف يشاء ويعطي ويتفضل عَلَى عباده، فنجد مثل هذا الكلام.
فيأتي المبتدعة ويقولون: إذاً لسنا نَحْنُ الذين أولنا، بل حتى -مثلاً- ابن جرير الطبري ومجاهد وعكرمة وابن عباس يقولون مثل قولنا.
فنقول لهم: لابد أن تعرفوا الفرق بين من نَظَرَ إِلَى معنى الآية ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ))[المائدة: 64] وأن: معناها الإنفاق والتكرم والإنعام، والتفضل، ولكن هل اعتبر ذلك مجازاً ونفى الصفة؟ هل ابن عباس ومجاهد والطبري نفو الصفة؟
الجواب: لا، إنهم لم ينفوا الصفة، أما أنتم فإنكم تعبرون بالمعنى عَلَى أساس أنه مجاز وتنفون الحقيقة فتقولون: ليس له يد.
لذا يقول الإمام الدارمي رَحِمَهُ اللَّهُ: اليهود أثبتوا اليدين وقالوا يد الله مغلولة كما قال الله عنهم: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة: 64]، والله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: اليد مبسوطة فجاء المعطلة وَقَالُوا: ليس له يد، فهم خرجوا عن كلام الله، وعن كلام اليهود، فما كَانَ قصد اليهود نفي الصفة، ولا رد الله عليهم بإثباتها، فالخلاف هنا كَانَ بين الغلول وبين البسط، فجاء نفاة الصفات فنفوا وجود اليد نفسها.
يقول: وبهذا يتضح لك مخالفتهم للحق وخروجهم عن الطريق المستقيم،
ونعود إِلَى قاعدة أن المجاز يجوز نفيه، فنقول: يقول الله تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) [التوبة:6] :فيجوز أن يأتي أحد من النَّاس فَيَقُولُ: هذا ليس كلام الله، هذا عبارة عن كلام الله، فلا أسمعه ولا يسمعه المشرك لأنه ليس كلام الله فلذلك يتضح لنا فساد وبطلان هذا المذهب، فإذا جَاءَ رجل يهين المصحف عياذاً بالله، فتقول له: هذا كلام الله، فيقول لك: لا هذا مجاز وليس هو كلام الله إنما هو عبارة عن كلام الله، وهكذا في أي موضع يمكن أن يسمع القُرْآن يتلى أو يحفظ.

فالكلام حقيقةً سواء سمع من المتكلم بلا واسطة -كما سمع جبريل أو موسى من الله عَزَّ وَجَلَّ- أو بواسطة كما في هذه الآية: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ))[التوبة:6] فلم يقل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله والأصل في الكلام هو الحقيقة، إذاً فالمجاز يجوز نفيه عند علماء البلاغة.

والقضية الثانية: الأصل في الكلام هو الحقيقة، فمثلاً عندما نقول: بحر والبحر هو الماء، وعندما أقول أسد أعني الوحش المفترس، ولا أعني الرجل الشجاع، هذا هو الأصل في اللغة ولا يخرج عن ذلك إلا بدليل، فعندما يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ))[التوبة:6] فإن هذا يحمل عَلَى الحقيقة لا عَلَى المجاز لأن الحقيقة هي الأصل، وإن كَانَ لا يسمع كلام الله منه، ولكن ممن يبلغه عنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو حقيقة في كلا الحالتين في حالة سماعه بواسطة، وفي حال سماعه بلا واسطة.
يقول: ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة أو حكاية عن كلام الله، وليس فيها كلام الله -أي: الحقيقة- فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً، فإنه لم يأت لا في كتاب الله، ولا في سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حتى من أحد من السلف والصحابة أنهم قالوا: إن هذا هو ليس حقيقة كلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، أو ما أشبه ذلك أبداً.
وإنما كانوا يؤمنون أنه كلامه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، هذا هو ما جَاءَ به الكتاب، وما جاءت به السنة في أحاديث كثيرةٍ لا تحصى، وما هو مشهور ومعلوم عند الْمُسْلِمِينَ خاصتهم وعامتهم في الصدر الأول لم يخالف فيه أحد حتى ظهر ابن كلاب وظهر معه من قَالَ: إنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو ما أشبه ذلك من المعاني التي ابتدعوها، ووضعوها، وقالوها عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بغير علم نتيجة الجهل، أو نتيجة محاولة إفحام المبتدعة والرد عليهم بغير منهج الكتاب والسنة، فالمبتدعة يرد عليهم بالكتاب والسنة أو بما دل عليه، لا بالهوى، ولا يرد عَلَى بدعة ببدعة.