المادة كاملة    
البدن لابد أن يتغذى بما يقويه ويجلب له الحيوية والنشاط، وإذا أصابه داء تداوى منه، وكذلك القلب لابد له من غذاء ودواء، فأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وصلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، مجتنبة لمناهيه ومساخطه.
  1. أغذية القلوب وأدويتها

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة؛ فهو من أجهل الجاهلين، وأضل الضالين، فإن الله تعالى يقول: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))[فصلت:44] وقال تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا))[الإسراء:82] و(من) في قوله (من القرآن) لبيان الجنس، لا للتبعيض، وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))[يونس:57].
    فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه]
    اهـ..
    الشرح:
    هذا الكلام -وهو ما يتعلق بكون القرآن دواءً وشفاءً- هو صريح القرآن، ومنطوق كلام الله عز وجل، وهو أيضاً ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وواقع العالم عند بعثته صلى الله عليه وسلم شاهد بذلك، فإن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن والعالم كله عليل مريض إلا بقايا من أهل الكتاب -كما صحت بذلك الأخبار- انقطع بهم اليأس من هذا الواقع المؤلم، ومن هذه الدنيا التي تعج بالظلام، فكانوا منعزلين عن العالم، يعلمون الحق ويعرفون الله سبحانه وتعالى وتوحيده، ولكنهم لا يستطيعون أن يدعوا إليه ولا يأملون في أن يأتي لهذه الإنسانية والبشرية من ينقذها إلا نبي آخر الزمان، وكانوا يترقبون هذا النبي الذي سينقذ الأمة ويوقظها من سباتها العميق.
    وقصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه خير دليل على ذلك، فلقد تعبد عند أحد علماء أهل الكتاب أربعين سنة، ثم عند الثاني، ثم عند الثالث... حتى أخبره الأخير منهم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ودله على مبعثه ومهاجره، فجاء إلى دار هجرته صلى الله عليه وسلم، والتحق بركب الإيمان.
    وقد كانت القلوب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم غلفاً، والآذان صماً، والأعين عمياً، حتى أن أهل الكتاب حرَّفوا وبدلوا كتابهم، وكثرت الفرق الضالة المنحرفة، مثل: الوثنية، والمجوسية، والزرادشتية، والبوذية، والهندوسية، وما أشبهها من الأديان، فشفى الله تبارك وتعالى هذه الأمة، وأحيا هذه القلوب بهذا النور وبهذا القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خير من في الأرض، فأشرقت أنواره في أنحاء الدنيا، وفتح الله تعالى به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، فخرج هؤلاء الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم من الظلمات إلى النور، ثم جاهدوا، فأخرجوا من شاء الله تعالى أن يخرجوا من بني الإنسانية من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهدى.
    فالقرآن شفاء لما في الصدور، فهو شفاء من الضلال ومن الشرك والجهل بالله سبحانه وتعالى، ومن الجاهليات، وكما أنه دواء من هذه العلل، فهو كذلك دواء وشفاء من أمراض الأبدان.
  2. كلام ابن القيم على أمراض القلوب وعلاجها

     المرفق    
    ولـابن القيم رحمه الله كلام نفيس في كتابه زاد المعاد في بداية الجزء الرابع، حيث قال رحمه الله تعالى: "ونحن نُتْبِع ذلك -يعني ما تقدم من أبواب- بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به، ووصفه لغيره، ونبيّن ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم".
    ثم يقول: "المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن، ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغيّ، وكلاهما في القرآن"، وذكر الآيات في ذلك.
    ثم يقول: "فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم" وهذا صحيح، فعلاج القلوب، وعلاج الشبهات، وعلاج الجهل بالله سبحانه وتعالى، وعلاج الغفلة عن الدار الآخرة، وما يعتري الناس من ظلمات الضلال والكفر والإلحاد، والشك والزيغ والعناد؛ كل هذا لا يعالجه علماء الطب، ولا علماء النفس، ولا علماء الاجتماع، إنما يعالجه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والذين هم أهل علاج هذه القلوب.
    يقول ابن القيم رحمه الله: "فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابّه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم؛ فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل" يعني: أن طب غير الأنبياء يمكن أن يعالج النفس الشهوانية والجسد الحيواني، لكن القلب عن ذلك بمعزل؛ لأنه لا يعالجه إلا القرآن.
    يقول: "ومن لم يميز بين هذا وهذا -بين طب القلوب وطب الأبدان- فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات".
    ثم يقول (ص:11): "ونحن نقول: إن هاهنا أمراً آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم" الطرقية هم الأطباء الجوالون الذين يعالجون على الشوارع والطرق، ويدعون أنهم أطباء، وهم أناس لا خبرة لهم بالطب، وإنما ينتحلون أنهم أطباء، وحقيقة ما يفعلونه أنه أسلوب من أساليب الكدية والاستجداء (الشحاذة).
    يقول ابن القيم: ("وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم؛ فإن ما عندهم من العلم بالطلب؛ منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة" يعني: أن الطب البشري -طب الأبدان الموجود في جميع المستشفيات- إنما هو من قياس حالة على حالة، أو يكون تجربة.
    يقول ابن القيم رحمه الله: "منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول: هو إلهامات ومنامات، وحدس صائب" أي أن الطبيب يخمن ويقدر، فيصيب أحياناً ويخطئ أحياناً، "ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية -وهذا واقع إلى اليوم- كما نشاهد السنانير -القطط- إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد عشيت أبصارها -لأنها تفاجأ بالشمس- تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها، وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب.
    وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضره؟!" فهيهات أن تكون هذه التجارب مثل ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ))[الإسراء:105] وقال: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:3-4]).
    يقول: "فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي، كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية مثل: قوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم من هو أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" لا يفهم من قول ابن القيم: "وقد جربنا ..." أنه جرب هذه الأمور ليختبرها هل تنفع أم لا تنفع؛ لأن من استخدم هذه الأمور ليرى هل تنفع أو لا تنفع، كان هذا سبباً لعدم انتفاعه، لأنه لم يأخذ بها عن يقين، وقد تنفع لكن صاحبها على خطر في إيمانه.
    ثم يقول: "وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجاً عنها؛ ولكن الأسباب متنوعة"، فمنها: التوبة، والاستغفار، والدعاء، وإغاثة الملهوف، وتفريج كربات المكروبين، جعلها الله من أسباب الشفاء، وجعل أيضاً الأعشاب أو الأغذية أو الأدوية النافعة أسباباً للشفاء، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يعرفون إلاَّ الماديات المحسوسات؛ لأنهم يعتبرون الإنسان هو هذا الجسد، مثل البهيمة، فيعالجونه بما تعالج به البهيمة من العلف والماء فقط.
    يقول: "فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة، تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وقد فرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه؛ أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية؟!" فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أصح الناس عقولاً بلا ريب، وفي نفس الوقت من أصح الناس أبداناً؛ لأن القلب إذا صح وتداوى بهذه الأدوية، صح الجسد بإذن الله تبارك وتعالى أيضاً، وإن ابتلوا بمرض، فإن قوة إيمانهم وتوكلهم وتضرعهم يعطيهم من تحمل المرض ما لا يستطيع غيرهم أن يتحمله، وكذلك المؤمنون، فإنه إذا ابتلي شخصان أحدهما قوي الإيمان والآخر ضعيف الإيمان بمرض، فإن قوي الإيمان يكون حاله أحسن من ضعيف الإيمان، وسبب ذلك: ما يحمله الأول من النفسية السليمة، لإيمانه بقضاء الله وقدره، وصبره على ما ابتلي به.
    يقول: "ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجاباً، وأكثفهم نفساً، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رُقي بها، فقام حتى كأن ما به قَلَبَة".
    قال: "فهذان نوعان من الطب النبوي -البدني، والقلبي- نحن بعون الله تعالى سنتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جداً، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب".
    1. أدوية القلوب من القرآن والسنة

      يذكر ابن القيم أنواع الأدوية من الكتاب والسنة لعلاج القلب من الهم والغم والحزن (ص:200) فيقول:
      "هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء؛ فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن، فهو داء قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كلي:
      الأول: توحيد الربوبية.
      الثاني: توحيد الإلهية.
      الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي.
      الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
      الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
      السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
      السابع: الاستعانة به وحده.
      الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
      التاسع: تحقيق التوكل عليه، والتفويض إليه، والاعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه.
      العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات، وأن يتسلى به عن كل فائت، ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
      الحادي عشر: الاستغفار.
      الثاني عشر: التوبة.
      الثالث عشر: الجهاد.
      الرابع عشر: الصلاة.
      الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده" هذه المجموعة من الأدوية ملخص ما ورد من أنواع الأدوية التي جاءت في الكتاب والسنة.
      وذكر قبل ذلك بعض الأحاديث: وأولها: دعاء الكرب الذي رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: {لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم}.
      ثم يقول ابن القيم رحمه الله (ص:201) في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض: "خلق الله سبحانه وتعالى ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالاً، إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها -وهو القلب- كمالاً، إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان"، ولهذا لا تجد فاجراً ولا فاسقاً ولا عاصياً ولا كافراً إلا مهموماً حزيناً مهما كان، ولا تنظر إلى القشرة الخارجية؛ لا تنظر إلى المراكب الفاخرة، ولا إلى القصور الشاهقة، ولا إلى ناطحات السحاب، ولا إلى الممتلكات مهما كانت؛ فإن الله يقول: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] فهو مهموم مغموم يعيش في ضنك، ولهذا نجد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يركب الواحد منهم الناقة في شدة الحر من مكة إلى المدينة وليس له زاد إلا التمر، وكسرات جافة من الخبز، وليس سفره سفراً محضاً؛ بل هو سفر من أجل الجهاد أو طلب العلم، فكانوا مع ذلك أقوياء سعداء، بل كانوا يتلذذون بما يجدونه من مصاعب ومشاق وآلام، وقد قال ابن القيم في موضع آخر: إن الإنسان إذا أصابته مصيبة تضرع واستغاث، ودعا الله، وانكسر بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجد من لذة تلك المناجاة وحلاوتها ما ينسيه أذى المصيبة وألمها وضررها.
      يقول ابن القيم رحمه الله: "فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع، واللسان ما خلق له من قوة الكلام، فقدت كمالها، والقلب خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده، والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجل في قلبه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة -بل ولا حياة إلا بذلك- وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه، ورهن مقيم عليه.
      ومن أعظم أدوائه -أي من أعظم أدواء القلب- الشرك، والذنوب، والغفلة، والاستهانة بمحابه ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده.
      وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها، لا سبب لها سواها"... إلى أن قال: "قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: من أراد عافية الجسم؛ فليقلل من الطعام والشراب، ومن أراد عافية القلب؛ فليترك الآثام -الذنوب والمعاصي- وقال ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
      والذنوب للقلب بمنزلة السموم؛ إن لم تهلكه أضعفته ولابد، وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض.
      قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك رحمه الله:
      رأيت الذنوب تميت القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
      وترك الذنوب حياة القلوب            وخير لنفسك عصيانها
      فالهوى أكبر أدوائها، ومخالفته أعظم أدويتها، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة" كما قال تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))[الأحزاب:72] ولهذا لا تعرف طريق التداوي الحقيقي لأنها تجهله، أو تضع الدواء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، قال: "فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها، وإنما فيه تلفها وعطبها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء".
    2. المناسبة بين أمراض القلوب والقدر

      ثم يقول رحمه الله: "والمصيبة العظمى أنها تركب ذلك على القدر" ولهذا قلنا: هناك مناسبة بين الحديث عن أمراض القلوب وبين باب القدر؛ لأنه من أكثر ما يقع فيه الضلال والمرض عياذاً بالله، فالمصيبة أن النفس تركب ذلك على القدر فتبرئ نفسها من جميع الذنوب، قال: "فتبرئ نفسها، وتلوم ربها بلسان الحال دائماً، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان"، فتراه يلوم القدر، ويشكو الخالق عز وجل إلى المخلوقين.
      يقول رحمه الله: "فإذا وصل العليل إلى هذه الحال فلا يطمع في برئه، إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيحييه حياة جديدة، ويرزقه طريقة حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها".
      وبقي كلام قيم ونفيس فليراجع من (ص:200) فما بعدها.
  3. شروط الانتفاع بالقرآن

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله: "وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به" وذلك لأنه قد لا يحسن التداوي، وقد يكون المحل غير قابل؛ فالله يهدي بهذا القرآن من تولاه، وفي المقابل قد يضل الله به أقواماً، ولا عجب في هذا، فها هي بعض الحيوانات تعيش دائماً في الظلام، فإذا أخرجت إلى الشمس، عميت وتضررت، مع أن الشمس ضياء ونور وسراج منير، وكذلك الجعلان تذهب دائماً إلى العذرات والنجاسات، فإذا شمت رائحة طيبة زكية، أغمي عليها -أحياناً- لأنها لا تطيقها، لكن إذا كانت في القاذورات والنجاسات فإنها ترتع فيها.
    وقد أجرى خبراء في الاتحاد السوفييتي تجربة على عمال النظافة وعلى أشخاص جُلُّ عملهم في القمائم والأماكن القذرة، فجاءوا بهم إلى مكان يفوح بأنواع العطورات والروائح الطيبة، فوجدوا أن عندهم حساسية من الرائحة الطيبة وأنهم لا يحتملونها، فلما رجعوا إلى القمائم، شفوا وعوفوا..!
    1. نازك الملائكة وتأثرها بالقرآن

      قرأت قريباً قصة أذكرها للاعتبار والاستشهاد على أن في القرآن شفاءً، وذلك أن المرأة التي تدعى نازك الملائكة -وهي من أكبر رواد الحداثة، بل هي من المؤسسين الأوائل للحداثة في العالم العربي-ذهبت إلى أمريكا وكانت ملحدة، تقول: كنت ملحدة؛ لا أؤمن بوجود الله ولا بأي دين من الأديان، وفي ذات يوم طلبت مني الجامعة الأمريكية التي أدرس فيها أن أحضر بحثاً عن المرأة العربية، فاضطررت إلى الرجوع إلى القرآن، فوجدت بعض نسخ القرآن على رفوف مكتبة الجامعة فأخذتها، فلما قرأتها انبهرت انبهاراً شديداً.
      فتركت ما كانت تدعو إليه، وبدأت حياةً جديدة، ومن ذلك اليوم أسدل الستار على نازك الملائكة، ولم يعودوا يتحدثون عنها في الملاحق والصحف والأدبيات، ونحن لا نقول: إنها عرفت الهداية كلها وعرفت الحق كله، وإنما خرجت من الإلحاد إلى الإيمان، وشفيت من هذا المرض الخطير بالقرآن.
  4. القدر سر الله في خلقه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    "وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سراً مكتوماً، إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:26-27] إلى آخر السورة، وقوله: (وعاد بما قال فيه) أي: في القدر، (أفاكاً) كذاباً، (أثيماً) أي: مأثوماً" اهـ
    الشرح:
    يعني الطحاوي بقوله: "لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً" أن من رام علم حقائق القدر، وخاض في المجال الذي نهي عن الخوض فيه، والذي استأثر الله تعالى بعلمه -والحال كذلك في جميع أبواب الغيب- فإنه يلتمس بوهمه سراً كتيماً، أي: لا دليل له إلا الوهم، وهذا سر كتيم -أي مكتوم- لا يمكن أن تصل إليه عقول البشر، فالاطلاع على الغيب أمرٌ محظور على كل مخلوق، ((إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27]، إلا من أطلعه الله عليه من الرسل أو ممن أعطي الرؤيا الصالحة، وهي جزء من النبوة، يريها الله سبحانه وتعالى بعض عباده الصالحين، فيرون شيئاً مما قد يقع للعالم في المستقبل من عالم الغيب، فهذا هو معنى هذه الفقرة كما شرحها المصنف رحمه الله.
    واستدل المصنف رحمه الله بقوله تعالى في سورة الجن: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:26-27] مبيناً تلك الحقيقة العظمى التي سبق تكرارها وإيرادها مراراً، والتي جاءت في قوله تبارك وتعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ))[الأنعام:59] فهو الذي يعلم الغيب وحده، ولا يعلمه أحد سواه، ولكن قد يطلع من شاء على ما شاء، وهذه من أعظم الحقائق في العقيدة الصحيحة: اعتقاد أهل السنة والجماعة؛ اعتقاد الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ومن زعم غير ذلك فقد اتخذ طاغوتاً من دون الله؛ فإن من أنواع الطواغيت من ادعى شيئاً من علم الغيب، فهو رأس من رءوس الكفر، بل هو سبب من أسباب الكفر وليس كافراً فحسب؛ إذ يكفر بسببه عدد عظيم من الناس في العادة؛ لأن كل من اعتقد بما يقوله من ادعاء الغيب وصدقه، فقد كفر.. وهذه الحقيقة من أعظم الحقائق التي يجب أن يعلمها كل مسلم.