المادة كاملة    
إن المعنى الحقيقي للجماعة يكمن في اتباع الحق، والتمسك بالسنة، ولا عبرة بكثرة المخالفين، يقول تعالى: (( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))[الأنعام:116] الآية، ومن هنا تتبين ضرورة التمسك بالحق، وعدم الوحشة من قلة السالكين، وليُعلم أن (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
  1. معنى الجماعة

     المرفق    
    [وتارة يوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف، وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: ((الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً))[النساء:69].
    وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم".
    وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [[السُنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم؛ فكذلك فكونوا]].]
    اهـ.
    إن كثيراً من عبارات ابن أبي العز رحمه الله تعالى في موضوع الجماعة هي في أصلها منقولة عن كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم رحمه الله.
    وفي كلام ابن القيم رحمه الله زيادة فائدة عما نقله عنه ابن أبي العز رحمه الله في مسألة الجماعة، وهي التي ذكرت استطراداً ضمن موضوع الاستيحاش من الوحدة في طريق الحق، وأن بعض الناس يضعف صبره واحتماله للمضي في طريق الحق، إذا رأى أن السالكين فيه قليل، وأن أكثر الخلق في الطريق الآخر، وهذا مما يدخل ضمن أمراض القلوب، وهو من أسباب عدم قبول القلب للعلاج.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الباب العاشر من كتابه إغاثة اللهفان: (في علامات مرض القلب وصحته): "قال عمرو بن ميمون الأودي: [[صحبت معاذاً بـاليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس ؛ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة، وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة! الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك]]، وفي طريق أخرى: [[فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل]]، قال نعيم بن حماد: [[يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ]] ذكره البيهقي وغيره".
    عن عمرو بن ميمون الأودي -عمرو بن ميمون الأودي رضي الله تعالى عنه، هذا التابعي الجليل- قال: [[صحبت معاذاً بـاليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام ]]؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه توفي بالطاعون الذي عمَّ بلاد الشام في أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثامنة عشرة للهجرة.
    يقول: [[... ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود ]]، ثم انتقل بعد ذلك إلى الكوفة حيث تلقى العلم على يد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وما كان علماً بحتاً مجرداً كما هو الحال اليوم، بل كانوا يأخذون منهم العلم والإيمان والهدي، والسمت والخلق، فكانوا يتأسون بهم في كل ما يعلمون أنهم يتأسون فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه القصة..
    يقول: [[سمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة]]، هذا عبد الله بن مسعود يكرر هذه الوصية وهي من الوصايا المؤكدة في ديننا التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلزوم الجماعة من الأمور المؤكدة في دين الإسلام، لكن ما هي الجماعة؟ ما معناها؟ هذا ما سيأتي إيضاحه.
    قال: "ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: [[سيلي عليكم ولاةٌ يؤخرون الصلاة عن مواقيتها؛ فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة]] وهذا أيضاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وإرشاده لهم في معاملة أمراء آخر الزمان، حيث تكثر الفتن، وحيث يعرف الإنسان منهم وينكر، فما الموقف حينئذٍ ولا سيما في أداء الصلاة؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟ فقال:[[ صلوا الصلاة لميقاتها فإنها فريضة، ثم صلوا معهم؛ فإنها لكم نافلة]] هذا إذا صلوا بعد الوقت؛ قال: [[قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة، فإنها لك نافلة]].
    فهذا هو محل التساؤل عند عمرو بن ميمون الأودي رضي الله تعالى عنه؛ يقول: كيف يبدر منكم هذا -يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- وأنتم أصحاب المنهاج المستقيم الذي لا اضطراب فيه ولا تناقض ولا اختلاف أبداً، لأنه حق واضح جلي مستقيم؟! كيف تأمرني بأمرين متناقضين، في الظاهر تقول لي: الزم الجماعة، وتقول لي: إذا دخلت الفريضة فصلها في وقتها، ثم صلها مع أمراء الجور إذا صلوا بعد الوقت، فإنها لك نافلة، كيف نجمع بين هذين الأمرين؟
    ألست تأمرني بالجماعة؟! مقتضى ذلك -كما يبدو- أن أصلي معهم وإن أخروا؛ لأنني مأمور بالجماعة، أو ألا أصلي معهم مطلقاً؛ لأنهم يؤخرون، وتأخيرهم الصلاة عن وقتها لا يجوز، فيجب عليَّ أن أصليها في وقتها، وينتهي الأمر.
    إن اجتماع الأمرين كما أمر بهما ابن مسعود رضي الله عنه يدلنا على حكمة هذا الدين العظيمة في التعامل، وهو أن الإنسان في زمن الاستقامة وفي الوقت الذي يستطيع فيه أن يؤدي ما أمره الله تعالى به على أحسن وجه وأكمله فإنه يؤديه كذلك، فإذا حصلت الفتنة، فإن الإنسان يبحث عن المخرج من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل السلف الصالح ويراعي المصلحة التي أمر الله بها ما أمكن.
    فإن كان في فعل السنة أو فعل أحد جانبي الأمر إخلالاً بمصلحة وسبباً لوقوع فتنة لا يؤمن شرها، فماذا يفعل الإنسان في مثل هذه الحالة؟
    إن صلى الصلاة في وقتها وترك الصلاة معهم، قالوا: هذا يكفرنا، هذا لا يرى الصلاة خلفنا، هذا من الخوارج، هذا يعتقد فينا كذا، هذا يظن بنا كذا... فيقع في مشكلة، وإن لم يصلِّ إلا معهم، ترك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أداء الصلاة في وقتها، فكيف يجمع بين الأمرين؟
    فجاء المخرج بأن الإنسان يصلي الصلاة لوقتها وهي الفريضة، ثم يصليها معهم وتكون له نافلة، لكن ليس هذا هو الشاهد؛ فالشاهد هو كيف يكون الأمر بالجماعة مع وجود هذا الذي يظنه عمرو بن ميمون رضي الله تعالى عنه شيئاً من الاضطراب والاختلاف؛ فبماذا أجابه هذا الحبر الفقيه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؟
    قال: [[يا عمرو بن ميمون ! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟]] كأنه يقول: أولاً: أنا أصحح لك مفهوم الجماعة؛ واعرفك ما هي الجماعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها وبملازمتها؛ حتى لا تستغرب قولي لك: صلِّ وحدك وأنت مأمورٌ بأن تكون مع الجماعة؛ فإذا عرفت الجماعة عرفت بعد ذلك الأحكام التي تترتب عليها.
    قال: [[قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة]].
    الناس اليوم تنظر إلى الجماعة بأنها الكثرة، وهذا غير صحيح؛ فجمهور الجماعة فارقوا الجماعة؛ لأن أكثر الناس مخالفين للجماعة -وهذا في زمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه- وقد قال له ذلك هذا ليبين له أن المسألة مهمة، وأنها خطيرة، فيجب أن تكون لديه في موضع الاهتمام، فلا ينظر إلى العدد ولا إلى الكثرة مطلقاً؛ فإن أكثر الجماعة الذين تراهم وتظن أنهم هم الجماعة فارقوا الجماعة التي هي الجماعة الحقيقية المأمور باتباعها.
    قال: [[الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك]] وليست العبرة بالكثرة.
    فإذا صليت الصلاة لوقتها فأنت في هذا قد اتبعت الجماعة الحقيقية التي هي اتباع السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صلاتك مع الأمراء هؤلاء هي صلاة مع الجماعة التي فارقت الجماعة، وحكمتها درء الفتنة؛ حتى لا يقال فيك ما يقال أو يظن بك الظنون.
    يقول: "وفي طريقٍ أخرى فضرب على فخذي وقال: [[ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل]].
    وقال نعيم بن حماد -يشرح قول ابن مسعود -قال: "يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك".
    اتبع ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك أنت الآن، لكن اتبع ما كانت عليه الجماعة التي تحققت فيها الصورة الصحيحة للجماعة، وهي مثلاً: ما كان عليه الخلفاء الراشدون، وما كانت عليه الأمة في أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأمثاله؛ فقد تحققت فيها الجماعة بمعنييها؛ معنى اجتماع المسلمين على إمامٍ واحد؛ مقيمٍ للسنة، قامع للبدعة، مطيع غير عاصٍ، وهذا مفهوم من مفاهيم الجماعة، والمفهوم الآخر هو اجتماع الأمة على السنة وعلى الهدي النبوي، وليس على أية بدعة من البدع، فإذا اجتمع هذان المفهومان للجماعة؛ فهذه هي الجماعة التي يتمسك بها الإنسان، فإذا اختلفا فعلى الإنسان أن يتبع الحق، وإن كان وحده في أي صورة من الصور.
    فعليك أن تتبع الحق، ولا تقل: الجماعة هي الكثرة، فإنما عليك أن تتبع الحق، فإذا ترك الناس ما كان عليه السلف الصالح من هدي وسنة، واتبعوا البدع؛ فاتبع أنت السنة، فتكون أنت الجماعة أو من الجماعة أو موافقاً للجماعة -أي للسنة- في مثل هذه الحالة.
    قال: "يعني فإذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك؛ فإنك أنت الجماعة، حينئذٍ".
  2. وسطية السنة بين أهل الغلو وأهل الترف

     المرفق    
    ذكر ابن القيم بعد ذلك هذا الأثر العظيم الذي رواه أبو شامة رحمه الله عن مبارك عن الحسن البصري، وهو أثر مهم؛ لأن كلام الحسن هنا بالذات له قيمته وله دلالته، وهو في صفحة (70) من كتاب إغاثة اللهفان، وهذا مما نقله ابن أبي العز لأهميته؛ فلذلك نورده ونشرحه.
    يقول الحسن رحمه الله: [[السنة -والذي لا إله إلاّ هو- بين الغالي والجافي؛ فاصبروا عليها رحمكم الله..! فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم، حتى لقوا ربهم فكذلك فكونوا]] في بعض النسخ: (مع أهل الإتراف)، في إترافهم وفي بعضها: (مع أهل الإسراف في إسرافهم) والمعنى متقارب.
    قوله: "السنة -والذي لا إله إلاَّ هو- بين الغالي والجافي"، هذا توجيه عظيم ووصية ونصيحة قيمة من الحسن البصري رحمه الله.
    ولو نظرنا إلى الواقع الذي قال فيه هذا الإمام من أئمة السنة هذه الكلمة، لتبينت لنا دلالتها العظمى، فـالحسن رحمه الله تعالى كان إماماً من أئمة أهل السنة والجماعة على رأس المائة الأولى، أي: بعد أن ظهرت الفتن.
    ومن مظاهر الفتن عموماً التي ظهرت في ذلك الزمن انحراف الناس -ولا سيما في البصرة التي كان الحسن رحمه الله فيها- إلى اتجاهين:
    الاتجاه الأول: أهل الغلو.
    والاتجاه الآخر: أهل الجفاء.
  3. انحراف أهل الغلو عن السنة

     المرفق    
    1. الخوارج من أهل الغلو

      كان من أهل الغلو في ذلك الزمان الخوارج، فقد صالوا وجالوا ودوخوا الدولة الأموية في تلك الفترة؛ في أيام الحجاج وما بعده؛ وكان لهم حروب طاحنة ضارية في تلك المنطقة بالذات، حتى إنهم دخلوا الكوفة، وكادوا أن يقتلوا الحجاج والي بني أمية على العراق .
      وصولاتهم وجولاتهم مع الحجاج ومع غيره مسطرة في كتب التاريخ.
      هؤلاء الخوارج كانوا يعيشون في غاية التقشف وغاية الزهد وشدة الاجتهاد في العبادة، ولكنه اجتهاد على بدعة وضلالة -نسأل الله العفو والعافية- فكانوا لا يرون أن هناك أحداً من أهل الإسلام غيرهم، وكانوا يعدون أية دار غير دارهم دار كفر؛ كـ الأزارقة مثلاً، وقريب منهم في ذلك النجدات، الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
      وكان هؤلاء الخوارج يقاتلون قتالاً ضارياً، وقامت لهم دول في عُمان، وكذلك في بلاد فارس وفي جنوبي العراق وشرقيه؛ تتسع وتضيق بحسب قوتهم، وبحسب ضعفهم، فكان لهم نشاط عظيم.
      وقد فتن هؤلاء الخوارج بأنهم هم المؤمنون وأن غيرهم كافر، وأنهم هم أهل السنة، وأنهم هم الذين على منهج الشيخين، وأن غيرهم قد ضل وانحرف ومرق وخرج من الدين.
      فـالخوارج لا تقر إلا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بالشيخين: أبي بكر وعمر، فترى أن الإمامين اللذين على الحق هما أبو بكر وعمر فقط، فهم يأتون بالصورة المثلى ويجعلونها الصورة الوحيدة؛ ويرون إن إنسان المحسن هو الذي لا يذنب.. هذا هو المؤمن الذي ليس بكافر.
      وهذه الصورة مثلى، وهي الغاية، لكن المؤمنين درجات، بينما الخوارج ليس لديهم إلا تلك المنزلة المثلى وما عداها فهو كفر، وهذا هو أساس المشكلة في فكر الخوارج وفي فقههم؛ أنهم يظنون أن السنة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فقط؛ فيرون -بعد ذلك- تكفير عثمان وتكفير علي رضي الله عنهما، أما معاوية، و يزيد، فإنهم يكفرونهما رأساً، وكذلك عبد الملك بن مروان وبنوه ومن والاهم؛ فهؤلاء عندهم مرتدون كفار، ويرون أنفسهم أنهم هم الورثة للسنة التي كان عليها أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم.
      كذلك يرون أنهم هم الذين على السنة؛ لأن فيهم عبادةً، وزهداً، وتقشفاً، وجهاداً.. كما قال شاعرهم:
      أألفا مؤمن فيما زعمتم            ويهزمهم بآسك أربعونا
      كذبتم ليس ذاك كما زعمتم            ولكن الخوارج مؤمنونا
      وهذا البيتان لهما قصة؛ فقد جردت عليهم الدولة الأموية كتيبة فيها ألفان من الجنود، ولم يكن عند الخوارج مما يقابلهم إلا أربعون رجلاً، فقابل الأربعون الألفين، فهزموهم، فكيف هزموهم؟!
      هؤلاء الخوارج أهل غلو، وهؤلاء -جنود الدولة الأموية- أهل إتراف وإسراف، وعادةً أهل الإتراف والإسراف مهما كثر عددهم لا يواجهون من كان لديهم شكيمة وبأس وشدة كـالخوارج ؛ فهزموا؛ فاستدل الخوارج بهذا على أنهم هم المؤمنون.
      فقال شاعرهم: (أألفا مؤمنٍ فيما زعمتم) هل يعقل ذلك؛ ألفا مؤمن ويهزمهم أربعون إلا لأن هؤلاء الجنود ليسوا بمؤمنين، ولأن الخوارج هم وحدهم المؤمنون.
      والحقيقة أن هؤلاء الجنود ليسوا كفاراً بل هم مترفون ومسرفون.
      وأولئك الخوارج أيضاً ليسوا على السنة؛ بل هم غلاة مبتدعة؛ لكن هذا الذي حصل؛ تقابل أهل الغلو مع أهل الإسراف والإتراف؛ فغلب أهل الغلو أهل الترف، وهكذا كانت الفتنة التي وقعت لهم.
    2. الصوفية من أهل الغلو

      في تلك الأيام انتشرت في البصرة أيضاً بدايات التصوف، ونذكر مثلاً رابعة العدوية ؛ فقد كانت في تلك الأيام، وكان معها طائفة من العباد.
      والتصوف قد غزا البيئة الإسلامية من الهند؛ فهو هندي الأصل يتفق مع الديانة البوذية في كثير من مبادئه، فجاء من هناك -من الهند ومن الشرق- وأتى إلى البصرة ؛ لأنها الميناء الذي هو أقرب الموانئ الإسلامية اتصالاً بـالهند .
      هؤلاء المتصوفة لم يخرجوا كما فعل الخوارج، لكن كانوا في شدة التعبد، ويخيل إليهم وإلى الناس من حولهم أنهم هم أهل الدين وأهل السنة وأهل الحق؛ فإذا رأوا رجلاً مقتصداً في عبادته، ظنوا هذا من ضعف إيمانه ومن تفريطه ومن إهماله، وإن كان صاحب علم وفضل وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
      فهم لا يعظمون إلا من انقطع عن الدنيا؛ كهذه المرأة (رابعة) التي انقطعت عن الناس ولم تتزوج وعبدت الله تعالى بالحب فقط.. كانت تقول:
      أحبك حبين حب الهوى             وحباً لأنك أهل لذاكا
      فالناس رأوا أن هذه هي الصورة المثلى للعبادة، وأن العابد الذي يعبد الله حقاً هو الذي لا يريد الجنة ولا يريد النجاة من النار، وإنما يعبد الله محبةً في الله، يريد ذات الله فقط.
      إن الذي لا يعرف حقيقة الدين وما كان عليه المرسلون وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر الله تعالى في كتابه من صفات المؤمنين المتقين يقول هذه صورة عليا، وأما أنا فمسكين أعبد الله حتى يدخلني الجنة؛ فأنا إذن ضعيف الإيمان.. وما دمت أخاف الله، ولا أريد أن يدخلني الله النار، فعبادتي ضعيفة بهذا الاعتبار، ولستُ على السنة... هكذا يزين له الشيطان.
      هذا الاتجاه سلكه أمثال رابعة وأمثال رياح بن عمرو القيسي وأمثال هؤلاء الذين كانوا يتعبدون بزعمهم لذات الله وبالحب فقط؛ كان فيهم جانب آخر من جوانب الغلو التي وجدت في ذلك الزمن.
    3. الشيعة من أهل الغلو

      كذلك من فرق الغلو أيضاً الشيعة ؛ فـالشيعة كانت تدعي حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن جميعاً مأمورون أن نحب الصحابة ونحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من ديننا؛ فمن آمن من آل البيت فلابد أن نحبه، لكن ليس على طريقة الشيعة .
      الغلو الذي وقع فيه الشيعة أنهم رفعوهم على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى كثير ممن هو أفضل منهم من الصحابة؛ بل وصل بهم الحال إلى تأليههم وعبادتهم.
  4. أهل الجفاء

     المرفق    
    1. الناصبة

      من أهل الجفاء: أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يتقربون إلى بني أمية أو إلى غيرهم من الفئات بالطعن في علي رضي الله عنه وفي آل البيت وذمهم وتجريحهم؛ سواء طلب ذلك بنو أمية أو لم يطلبوا؛ فكان بعض الناس لا يكف عن الطعن والسب في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
      فكما أن هناك من يغلو فيهم، وهم الرافضة ؛ كان هناك من يسبهم ويشتمهم ويناصبهم العداء، وهم الناصبة .
    2. أهل الترف

      كان في الطرف المقابل للخوارج : أهل الإتراف وأهل الإسراف، وهم رجال الدولة والحكومة؛ حكام بني أمية ومن سار في ركابهم ومعظم الطبقة المترفة من الناس كالتجار ومن شابههم.
      كانت حياة هؤلاء تخلو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وهديه وحياته؛ ومالوا إلى الترف وإلى السرف، فكانوا مسرفين مُتْرَفِينَ؛ ففي تلك الفترة تدفقت الأموال، وامتلأت الخزائن بالذهب والفضة، وسيطرت النساء على الرجال.
      ظهر الغناء في الحجاز، وانتشر في المدينة بالذات، وقد ذكر الأدباء والمؤرخون أنه كانت هناك مغنيات، وكان هناك مغنون مخنثون؛ لا هم رجال ولا هم نساء.
      ومع أن هناك مبالغة في وصف الفساد الذي كان في تلك الفترة من قبل بعض الأدباء -كما فعل الأصفهاني في كتابه الأغاني- إلا أن هذا لا ينفي أن هناك حقيقة كانت موجودة، وهي أن الناس ترك بعضهم الفرائض، وبعضهم ترك السنن والنوافل، وبعضهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسبب في ذلك أن الترف قد أصابهم.
      الجيوش تجاهد في الصين وفي الأندلس، وتجاهد في كل مكان، وترسل بتلك الأموال العظيمة إلى مقر دولة الخلافة، وهي بدورها تنقلها إلى الناس، فكان أهل المدينة وأهل مكة وأهل العراق وأهل الشام ينال الرجل منهم عطاءً كبيراً جداً، بعد أن كان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكادون يجدون من القوت ما يقيم أودهم.
      كان بعض الصحابة -كما فعل جابر وغيره رضي الله تعالى عنهم- يذبح الشاة الواحدة للصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وكانوا في غزوهم كثيراً ما يأكلون الجراد.
      كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود السرية من الجيش بجراب من تمر، يحمله القائد ويوزعه عليهم تمرةً تمرةً، وهم في الغزو.
      وهناك كثير من الشواهد -مما هو ثابت في السيرة- على حالة الفقر والجوع التي كان الناس يعانونها.
      ثم جاءت الفتوحات، وتدفقت الأموال؛ فصار أقل الناس مالاً يستطيع أن يأكل من أفخر ألوان الأطعمة والأشربة.
      وإذا قرأتم التاريخ فسوف تجدون العجب مما ظهر من ألوان الطعام والشراب والمتاع، وقد أدرك بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك؛ أدركه عبد الرحمن بن عوف، وأدركه ابن عمر وابن عباس.
      وأول ما ظهرت بوادره بهذه الكثرة في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه، ثم انتشر في أيام بني أمية، فكان الشاعر يقول قصيدة من الشعر في مدح أمير من الأمراء قد لا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، ويطريه؛ فيأخذ عشرة آلاف دينار.
      وكانت الجارية تباع بألف دينار أو عشرة آلاف دينار؛ لأنها مغنية حاذقة كما يقال.
      فبجوار غلو الخوارج وتقشف الصوفية وجدت الحالة الأخرى المخالفة للسنة، وهي حالة أهل الترف.
      وكان أهل الترف يقولون: هذا هو الدين، وهذه سنة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، الدين يسر، ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))[الأعراف:32]^ والنبي صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة: {فمن رغب سنتي فليس مني} ويأتون بأدلة على ما هم فيه من الترف وضعف العزيمة على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فزينوا للناس أن ما هم عليه هو الدين وهو السنة.
      كذلك لا تنسوا أن بعضاً من العلماء كانوا مقربين من بني أمية؛ فكانوا يعيشون في شيء من التوسع في المباح؛ لا نقول عنهم أنهم وقعوا في الحرام؛ حاشاهم من ذلك -ولا سيما الأئمة منهم- ولكنهم خرجوا عن الزهد، فلم يكونوا زهاداً؛ بل توسعوا في المباح.
      لكنْ: فرق بين من يتوسع في المباح وبين أن من يدعي أن هذا التوسع هو السنة، فهذا الذي يدعي أن هذا التوسع في المباحات هو السنة كأنه يقول: إن كنت تريد أن تكون من أهل السنة فتوسع مثلنا؛ مد المائدة عليها عشرات الألوان من الطعام، واشتر ما شئت من الجواري والحشم والخدم والمراكب؛ يقول لك: هذه الأشياء حلال وأنا أتمتع بالحلال.
      ونحن لا نقول أنها حرام، بل إننا نعارض أن يجعل هذا التوسع هو السنة، وأن يزدرى من يعيش حياة الكفاف.
      لكن الناس -كما يبين الحسن رضي الله تعالى عنه- اختلطت عليهم المعايير؛ فـالخوارج يقولون: ليس هؤلاء المترفون أهل السنة، وليس الترف بسنة، والسنة هي ما كان عليه أبو بكر وعمر ؛ حيث كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يأخذ من بيت المال درهماً واحداً لنفسه ولا لأهل بيته، ومن خالف ذلك كفر.
      لم يقولوا: أجرم أو أخطأ، بل قالوا: كَفر..!
      وأولئك المترفون يقولون: هؤلاء هم الخوارج الذين صحت فيهم الأحاديث أنهم كلاب النار، وأنهم كذا وكذا؛ فيأتون بأحاديث صحيحة لا شك فيها.
      فكان لزاماً على أئمة السنة الذين يجددون هذا الدين أن يضبطوا للناس المعايير؛ فإذا صحت المعايير وضبطت، سار الناس وفقها، واحتكموا بموجبها.
  5. تعريف الحسن البصري للسنة

     المرفق    
    يقول الحسن رحمه الله: "السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي" الغالي هو الذي غلا في الدين حتى خرج عن الصراط المستقيم، والجافي هو الذي جفا وقصر وأهمل وفرط.
    "فاصبروا عليها رحمكم الله" يا أهل السنة ! اصبروا على السنة، هؤلاء لا تعجبهم السنة، وهؤلاء لا تعجبهم السنة؛ وأهل الترف يقولون أنكم خوارج، والخوارج يقولون أنكم من أهل الترف، فاصبروا ولا تنظروا إلى أقوالهم، اصبروا وأنتم على السنة.
    "فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي". يعني أن العبرة ليست بالكثرة.
    فيما مضى" يعني فيما قبل عصره، أو فيما قبل عصرهم ذلك بزمن، أو باعتبار النظر إلى بني آدم جميعاً؛ فـأهل السنة بالنسبة إلى أولئك قليل؛ فلا اعتبار إذن بكثرة المخالف.
    ثم يذكر رحمه الله صفات أهل السنة ؛ فيقول: "الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم" لم يكونوا من أهل البدع ولم يكونوا من أهل الانغماس في الدنيا والتوسع فيها ونسيان الدار الآخرة.
    قال: "وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم"، صبروا على السنة حتى لقوا ربهم عز وجل وهم عليها.
    قال: "فكذلك فكونوا" يوصي تلاميذه وأصحابه بأن يكونوا كذلك، ولا ينظروا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
    كانت هذه الوصية القيمة في تلك الظروف؛ في حالة التمزق التي بدأت تبرز في المجتمع الإسلامي بعد أن كان المسلمون أمة واحدة على الدين والإيمان والسنة.
    وهذا يشهد لما سبق من أنه لا اعتبار بالكثرة، قال: "فإن أهل السنة كانوا اقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي" فلا تنظروا إلى الكثرة، ولكن كونوا على السنة، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء:
    .................            كلا طرفي قصد الأمور ذميم
  6. معنى السواد الأعظم عند السلف

     المرفق    
    يقول ابن القيم رحمه الله: "وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه"، حتى قال: [[ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها]]".
    بهذا رفع الله هؤلاء الأئمة؛ فأين نحن من هؤلاء القوم؟! "ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها..!".
    هؤلاء جعلوا العمر والحياة والتفكير والهم والوقت: لله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شغلتهم البدع -وهم أبعد الناس عن ذلك- لضلوا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو شغلهم الترف والتوسع في الدنيا، وجمع المال وتشييد القصور والعمارات والمضاربات، ما فعلوا ذلك؛ لكنهم كانوا على الجادة الوسطى.
    يقول: "ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك"؛ وقد حرص على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير يستلم الركن بمحجن؛ فـمحمد بن أسلم رضي الله تعالى عنه يريد أن يطبق هذه السنة؛ لكنه لم يستطع، والشيء إذا لم يستطعه الإنسان لا يؤاخذ عليه.
    ولا يفهم من هذا أن الإنسان عليه أن يطوف راكباً وأنه إن لم يفعل ذلك فقد خالف السنة؛ فإن هناك أموراً فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق؛ فهي ليست مسنونة، ومنها أنه طاف صلى الله عليه وسلم راكباً، فمن فعل ذلك، فإنه لا يلام ولا يعاتب ولا تثريب عليه؛ لأنه فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليست السنة أن يطوف الإنسان راكباً؛ لكن هذا الرجل -محمد بن أسلم الطوسي- فعل السنن التي يسن اتباعها، ثم انتقل إلى مرتبة أخرى، وهي فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مما هو مباح أو مما هو ليس بمسنون؛ فهو يريد أن يفعل ذلك حباً في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن القيم رحمه الله: "فسئُل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: {إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم}" مبلغ علمي أن هذا الحديث الذي ذكره ابن القيم هنا لم يثبت بهذا اللفظ؛ لكنهم فسروا السواد الأعظم بالجماعة؛ فيكون المعنى على ذلك: إذا اختلف الناس فعليكم بما كانت عليه الجماعة؛ وهذا المعنى صحيح، والكلام الآتي يوضح ذلك.
    قال: "سئل بعض أهل العلم عن السواد الأعظم، فقال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم" السؤال: من هو السواد الأعظم الذي نتبعه في هذا الزمن؟ والمسئول عن ذلك هو عبد الله بن المبارك وقيل غيره.
    وكلمة السواد الأعظم -كما قلنا- هي من مرادفات كلمة الجماعة، ومن معاني السواد الأعظم أيضاً: الكثرة الكاثرة في أي زمان ومكان، وقد يكون السواد الأعظم بمعنى الكثرة التي كانت في الزمن الأول، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فالسواد الأعظم بهذا المعنى هم أيضاً الجماعة الذين ورد الأمر باتباعهم في حديث آخر، فيكون ذلك مطابقاً للمعنى الأول الذي ذكرناه للسواد الأعظم.
    قال:" محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم".
    عجيب..! كيف يكون إنسان واحد هو السواد الأعظم؟!
    لكن على المعنى الذي قررناه لا غرابة في ذلك.
    قال ابن القيم رحمه الله: "وصدق والله...! فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داعٍ إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
    يقتبس رحمه كلامه من قوله تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))[النساء:115] وهذه الآية يحتج بها العلماء على الإجماع -وهي من أقوى الأدلة على الإجماع- وأن المؤمنين الذين هم أهل للإجماع إذا أجمعوا على شيء لا تجوز مخالفتهم.
    لكن بعض أهل البدع يفهمون هذه الآية ويفهمون كلمة الحجة وكلمة الإجماع وكلمة الجماعة وكلمة السواد الأعظم على غير وجهها، فيقولون: كيف تتركون الإجماع فما نحن عليه من التأويل قد أجمع عليه المسلمون؟!
    وبعض أهل البدع يعبدون القبور، وحين تحاجهم تجد أن من أعظم ما يحتجون به الإجماع؛ يقولون: انظروا إلى بلاد المسلمين شرقاً وغرباً يعظمون القبور ويطوفون بالقبور، ويستغيثون بها بلا نكير، فهناك إجماع من السواد الأعظم من المسلمين على ذلك؛ فلماذا -إذاً- تنكرون أنتم؟!
    وقد يقول دعاة السفور كذلك: إن السواد الأعظم من المسلمين لا يرون في تبرج المرأة وخروجها ومخالطتها الرجال أي شيء -وهذا هو حال أكثر الأمة الإسلامية- فالذين يريدون أن تغطي المرأة وجهها وأن تبقى في البيت ولا تخرج إلا بالقيود الشرعية؛ هم -إذاً- أهل غلو؛ هؤلاء مخالفون للسواد الأعظم وللإجماع وللجماعة.
    وكثير من الدعاوى هكذا.
    وفي كلام ابن القيم رحمه الله الذي ذكرناه آنفاً رد على كل هذه الدعاوى؛ فإنه قال: "العصر إذا كان فيه عارف بالسنة -ولو رجلاً واحداً- داعٍ إليها"، رجل عالم بالسنة يدعو إليها "فهو الحجة"، فالحجة ليست في الكثرة، بل في هذا الرجل وإن كان وحده.
    "وهو الإجماع" كيف يكون هو الإجماع وهو رجل واحد؟! لأنه الموافق للإجماع السابق.
    "وهو السواد الأعظم" كما قيل في محمد بن أسلم الطوسي رحمه الله؛ فكما أنه هو السواد الأعظم فكذلك هذا الرجل وليست الكثرة الأخرى.
    "وهو سبيل المؤمنين" سبيل المؤمنين هو هذا الذي يدعو إلى السنة وإن كان وحده "التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
    فكل من ترك السنة، فإن هذه الآية تنطبق عليه، وهي واردة في حقه.
    ومن كان على الحق -وإن كان وحده- فهو الذي من فارقه حلت به هذه العقوبة، فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما العبرة باتباع الحق.
  7. علامات مرض القلب

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة له إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار؛ فهاهنا أربعة أشياء: غذاءٌ نافع، ودواء شافٍ، وغذاءٌ ضار، ودواء مهلك؛ فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك] اهـ.
    علامة مرض القلب أنه يعدل عن الأغذية النافعة إلى الأغذية الضارة كالذي نراه في الأجسام.
    الجسم إذا عدل عن الأغذية النافعة إلى الأغذية الضارة يصيبه المرض وإذا أكل الإنسان مما أخرج الله من الطيبات النافعة، فإن جسمه بإذن الله يكون سليماً ويقوى ويتغذى، لكن إذا تغذى الإنسان بالمحرمات والخبائث؛ فكان شرابه الخمر، وكان يأكل مما حرم الله؛ يأكل الخنزير، ويأكل الميتة، ويأكل كل ما من شأنه أن يضره وأن يؤذيه، فهذا لابد أن يمرض.
    فإن عدل الإنسان عن الطيبات إلى الخبائث في المأكول والمشروب وتغذى بالخبائث، كان هذا دليلاً على أنه لابد أن يمرض بدنه.
    والقلب كذلك؛ إذا عدل عن الغذاء النافع الذي به يتغذى وينعم وينشط إلى الغذاء الضار، فقد يضعفه ذلك الغذاء الضار وينهكه، وقد يقتله؛ فكما يفعل بعض الناس في جسمه؛ يأكل سماً فيموت؛ فكذلك الحال في القلب؛ قد يتغذى صاحبه بسم؛ فيموت قلبه؛ فلا يرى المعروف معروفاً ولا المنكر منكراً نسأل الله العفو والعافية.
    فهناك أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وبالمقابل أيضاً: هناك غذاء ضار، ودواء مهلك أو ضار أو قاتل، فهذه الأربعة الأشياء هي التي يترتب عليها: إما صحة القلب وعافيته وشفاؤه، وإما مرضه.
    والفرق بين الغذاء والدواء أن الغذاء يؤخذ في جميع الحالات ليقوى الإنسان، أما الدواء فيؤخذ إذا وقع المرض، ولهذا كان القرآن غذاءً وشفاءً؛ لأنه يغذي القلب، ويقوي إيمانه من جهة، وإذا مرض فهو شفاء له من جهة أخرى.
    يقول: "فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي"، وأما القلب المريض فهو إن تغذى فإنه يتغذى بالحرام؛ يسمع الغناء، يفكر في الشهوات وفي المحرمات والمعاصي؛ فهو مريض بشهوة.
    وقد يكون مريضاً بشبهة؛ فيلتمس التداوي بدواء مهلك؛ فالغذاء كان ضاراً، ثم تداوى بدواء مهلك فمات ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    مريض الغناء أوجد لديه الغناء اكتئاباً من كثرة ما يسمع من غناء، ويفكر في الغرام والعشق والهيام والكلام، فلما أصيب بالاكتئاب -نتيجة لمرض قلبه- بحث له عن علاج؛ فذهب إلى الطبيب النفسي فقال له: عندك اكتئاب والحل أن تبتعد عن هذا الجو وتسافر إلى إحدى الدول وتتفسح وتتمشى على الشواطئ والكبريهات والكازينوهات من أجل أن تتعافى..!
    كان الغذاء ضاراً، وكان العلاج مهلكاً، وهذا واقع أكثر الناس.
    لكن المؤمن غذاؤه من أصله بالقرآن؛ فإذا قرأ القرآن تغذى قلبه، فيؤمن ويقوى، فإذا اعتراه مرض.. جاءه وسواس.. جاءه شك.. جاءه شيطان بشبهة.. فإنه يتداوى بالقرآن أيضاً، فيكون له الشفاء بإذن الله سبحانه وتعالى.
    فاجتمع في حق المؤمن الغذاء النافع مع الشفاء النافع أما ذلك القلب المريض -عافانا الله وإياكم- فهو ضد ذلك، ولهذا فإن القلب المريض قد يئول به الحال إلى الموت والهلاك نسأل الله العفو والعافية.