قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:
[وثامنُها: وهو أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهو قول أبي المعالي ومن تبعه].
أبو المعالي هو الذي تمنى عند موته أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، وكان من بلدة نيسابور.
صحيح أن عقيدة عجائز نيسابور خير، وأفضل من عقيدة أهل الكلام وأهل الحيرة والضلال والشك -عافانا الله وإياكم- من ذلك؛ لكن أليس هناك ما هو أفضل من دين العجائز، أو عقيدة العجائز؟
بلى عقيدة الراسخين في العلم، لماذا لا نتمنى أن نموت عَلَى عقيدة الراسخين في العلم؟ الذين قال قائلهم لو كشف لما ازددت يقيناً، وقال الآخر: لو أني رأيت الجنة والنَّار لما كَانَ إيماني بها أقوى من إيماني بها الآن، قيل: وكيف ذلك؟
قال لأني رأيتهما بعيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى))[النجم:17]، ولو رأيتهما بعيني لربما زاغ بصري أو طغى، فسُبْحانَ اللَّه ما أعظم التمسك بالسنة، وما أبعده عن الشك والريب!
بل هو اليقين كله والطمأنينة كلها والخير كله؛ أما هَؤُلاءِ فتجد الحيرة والتخبط والتناقض، كما هو ظاهر في أقوالهم، ولو أننا نسترسل في حكاية أقوالهم وفي تفصيلها، لمللت وسئمت من كلام معقد لا طائل تحته، ولا دليل عليه -نسأل الله العافية- ولكن نحاول أن نشرح بقدر ما نفهم الفكرة في الجملة ونستوعبها.
وأبو المعالي الجويني هذا هو الملقب بإمام الحرمين وهو شيخ أبي حامد الغزالي، من أسباب خطأ الجويني في أول حياته أنه كَانَ جاهلاً بعلم الحديث، ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ إنه لما ألف كتاباً كبيراً في مذهب الشافعية -لأنه كَانَ شافعي المذهب- لم يأت فيه بحديث صحيح إلا حديثاً واحداً.
وهذا الحديث عزاه للبخاري وليس فيه؛ لكن لو سُئل في علم الكلام، أو لو قرأت كتاب الإرشاد، وهو مطبوع، لوجدت أنه مطلع عَلَى علم الكلام، وعلى الأقوال وعلى هذه الفلسفات والأمور التي لا خير فيها، ولا ثمرة ترجى منها،
ولهذا رجع الجويني في آخر الأمر إِلَى عقيدة السلف في الجملة، وذلك في الرسالة النظامية، وإن كَانَ هو يظن أن السلف يفوضون المعنى، لكن يكفي أنه هدم المذهب الأشعري الذي كَانَ عليه هو وأصحابه، وهو التأويل.
وقَالَ: "لما رأينا أن السلف والصحابة والتابعين ومن بعدهم مطبقون ومجمعون عَلَى عدم التأويل" وهذه حقيقة، فلا يوجد أبداً في الصحابة ولا في التابعين مؤول عَلَى الإطلاق، قَالَ: "وهم أزكى النَّاس وأعلم النَّاس وأحفظهم للدين" هذا معنى كلامه، "فلو كَانَ التأويل حقاً لسبقوا إليه ولكانوا أولى النَّاس به" وهذا كلام صحيح.

فترك التأويل وقال في صفات الله: نثبتها ونفوضها، بينما التفويض عند السلف في الكيفية فقط، والسؤال عن ذلك بدعة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يعلم ذلك، لكن نثبت المعنى، فالاستواء مثلاً معناه معلوم وهو: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، كما ذكر السلف، وهذا معنى معروف في لغة العرب؛ لكن الكيفية أمرها إِلَى الله في جميع الصفات، ونحن نجهل كيفية صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما نجهل ذاته، وصفاته فرع عن ذاته، وأما إثبات الصفات، ومعرفة معناها، فإننا نعرف معناها، ونرى آثار الرحمة، ونفرق بين الرحمة وبين الحكمة وبين العلم. لأن لكل منها معاني وآثار كل منها تختلف في لغة العرب.
والشاهد أن أبا المعالي فوّض بإطلاق، فقول أبي المعالي وهو القول الثامن، هو أن كلام الله مشترك، بين المعنى القائم بالنفس، وبين المخلوق الذي هو الحروف والأصوات، لا كما يقول الأشعرية أن الكلام فقط هو ما في النفس، فكأن أبا المعالي جدد كلام ابن كلاب، فـابن كلاب يقول: هو ما في النفس فقط، وأما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، مثل أي خلق من مخلوقات الله، لا يطلق عليها كلام الله، وأبو المعالي يطلق كلام الله عَلَى النوعين عَلَى كلام الله الذي هو ما في نفسه من المعاني، وعلى كلام الله الذي هو ما خلق.