المادة كاملة    
إن للقلوب أمراضاً، وإن للناس في علاج أمراضها أحوالاً ومسالك، ولا يسلم معالج لقلبه من فتور أو عوائق؛ لذا نيطت سلامة القلب باتباع الحق ولزوم الجماعة، فمن كان كذلك فقد لزم الجماعة.
  1. الصبر على السنة طريق السعادة

     المرفق    
    قال المصنف:
    [وتارة يوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف، وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: ((الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً))[النساء:69].
    وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم".
    وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [[السُنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم؛ فكذلك فكونوا]] ]
    اهـ.
    الشرح:-
    يذكر المصنف رحمه الله تعالى الحالات التي تعرض للقلب، وأحوال الناس في معالجتها؛ فيقول في وصف أصحاب الحالة الأولى: [وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر به صاحبه]؛ لأنه قد يموت كما قال: [بل قد يموت صاحبه ولا يشعر بموته].
    والحالة الثانية: أنه قد يشعر بالمرض؛ لكنه لا يتحمل مرارة الدواء، فهو يريد دواءً كما يحب ويشتهي، فإذا عرض عليه الدواء المرُّ نفر منه؛ فيبقى مريضاً وإن كان يعلم أنه مريض.
    والحالة الثالثة: أن يقول: أنا مريض والدواء مُرٌّ؛ ولكن لابد من أن أصبر وآخذ هذا الدواء، وأستمر في هذا العلاج حتى أشفى، فيوطن نفسه على الصبر، وعلى احتمال الدواء ومرارته؛ ليتخلص من الداء نهائياً إلا أن الفتور يصيبه ويعتريه.
    1. التحذير من ضعف الهمة

      قد يعرض للإنسان الفتور والانقطاع، وهذا من أكثر ما يعرض لكل عباد الله إلاَّ من رسخ في قلبه الإيمان والتقوى، وبلغ درجة الصديقين ومنزلة المحسنين، أما أكثر الناس -ولا سيما في بداية الطريق- فهذا حالهم وشأنهم، فمهما عزموا وأكدوا العزم، فإنهم يعتريهم شيء من الضعف، ثم قد يثبت الإنسان، ويراجع نفسه، ويشحذ همته، ويجدد عزيمته، فيوفقه الله سبحانه وتعالى لبلوغ الغاية، وقد يكون عقب ذلك الانقطاع الضياع والهلاك.
      فيقول: "وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه، لضعف علمه وبصيرته وصبره"، وقد ذكرنا ما قاله بعض العباد من السلف الصالح عندما سئل: بم عرفت ربك؟ فقال: بضعف الهمم، وانفساخ العزائم.
      إن الطريق إلى رضوان الله سبحانه وتعالى وإلى جنته محفوف بالمكاره، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات}، وقال الله تعالى: ((آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ))[العنكبوت:1-2] فلابد من الفتنة ولابد من اللأواء، والمشقة في هذه الطريق، والإنسان إذا أراد السير فيه، فإن أول ما يبدأ به هو أن يعزم عزماً قوياً مؤكداً على أن يستمر حتى يصل إلى مقصوده ومراده.. هذه أول مرحلة، وكثير من الناس يتعثر ويسقط في هذه المرحلة لضعف همته! فمثلاً: بعض الناس يعزم ويؤكد العزم على أن يحافظ على صلاة الجماعة فقط.. هذه غاية همته، وما عدا ذلك فلا يهتم به، فهمته ضعيفة؛ ولو أنه وطن نفسه على ما هو أعظم من ذلك، كالالتزام بنوافل وسنن وآداب أخرى من هذا الدين، لكانت محافظته على صلاة الجماعة مضمونة بإذن الله؛ لأن الهمة إذا ضعفت فإنها تضعف إلى درجة من الحق والخير، لكن إذا كانت غاية الهمة هي الاقتصار على الواجب، ثم حصل الضعف والفتور بعد ذلك، فسيحصل التقصير في الواجبات، وهذا حال كثير من الخلق إلا من رحم الله.
    2. علو همم الصحابة وفتور من بعدهم

      لو نظرنا إلى حال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم لوجدنا أن هممهم كانت أعلى وأعظم من هذه الدنيا، ولهذا ضحوا بكل شيء في ذات الله سبحانه وتعالى.
      وورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرض نفسه على القبائل ليناصروه، فمن القبائل من رده كثقيف، ومنهم من قبله بشرط وهم بنو تميم؛ اشترطوا عليه أن يكون لهم الأمر من بعده، فحدود غايتهم وهمتهم حطام الحياة الدنيا، وهذا خلل في الهمة والعزيمة.
      لكن لما جاء الأنصار في بيعة العقبة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استوثق لنفسه منهم، قالوا: {فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع..! لا نقيل ولا نستقيل} فهناك كانت همتهم ومرادهم التي تجاوزت مقاييس الحياة الدنيا فكان منهم من قتل في سبيل الوفاء بهذه البيعة، وأما من لم يقتل فقد كان يشعر أنه ضعف عن نيل الجنة، وهكذا كانت مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وعلى النصرة، كما بايعوه أيضاً تحت الشجرة، وهم مع هذا -وفي كل غزوة- يؤكدون ذلك العهد إما بالقول أو بالعمل؛ فأثبتوا بذلك أنهم أقوى الناس عزيمة وإرادة، وأعلاهم همة.
      ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد أكثر من دخل في الإسلام حديثاً؛ ثبت هؤلاء الصحابة الكرام ولم تضعف هممهم وعزائمهم؛ بل جاهدوهم حتى أعادوهم إلى الإسلام، ثم حاربوا الفرس والروم حتى فتح الله تعالى على أيديهم البلاد الواسعة، فعزيمتهم لم تنقطع ولم تنفسخ، لكن ضعف الهمم وانفساخ العزائم طرأ على من بعدهم كحال كثير من الخلق؛ فجدير بالإنسان أن يوطن نفسه على أن تكون همته عالية وغايته عظيمة، وعلى أن لا تنفسخ همته مهما كان الحال، ولا شك أن هذا من ابتلاء الله سبحانه وتعالى لعباده، وله في ذلك حكمة، إذ لو أن كل من عزم على شيء أنفذه وأتمه لما تفاضل المؤمنون في درجات الإيمان ومنازل التقوى، ولكن هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لعباده؛ ليظهر الصادق من غيره، ويمحص قلوبهم، وليتخذ منهم شهداء، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، فالإنسان يجب عليه أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يستمر على قوة الصبر واليقين والعزم إلى آخر الطريق، وقول المصنف: "وقد يمرض القلب.." إلى آخر قول الحسن البصري هي من كلام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان من صفحة (68-70) من الجزء الأول، مع حذف بعض الآثار.
      قال ابن القيم رحمه الله: "لضعف علمه وبصيرته وصبره..." إلخ؛ فأما ضعف العلم والبصيرة؛ فلأن الإنسان إذا كان يسير في طريق وهو مستيقن وعالم حق العلم أن نهاية هذا الطريق هي الأمن والرخاء والسلامة، فإنه لا يبالي بما يعترضه من المشاق والمصاعب، وكذلك المؤمن، كل من يعلم -علم اليقين وحق اليقين- أن مصيره إن صبر واستقام على أمر الله إلى الجنة، ورضوان الله؛ لا يبالي في سبيل ذلك بما يلقاه من محن، وما يعترضه من العقبات، بل كل ما جاءه عقبة، أو فتنة أو محنة، ازداد إيماناً مثلما فعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في غزوة الأحزاب كما قال تعالى: (( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ))[الأحزاب:22].
      هذا حال الصحابة؛ ثبتوا في وقت الفتنة والمحنة بخلاف المنافقين الذين كانوا يتسللون لواذاً ويودون أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنباء المعركة وذهبت ظنونهم كل مذهب وظنوا بالله ظن السوء.
      والصحابة لم يزدهم هذا الابتلاء العظيم إلا ثباتاً وإيماناً وتسليماً ويقولون: (( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ))[الأحزاب:22] أي: هذه الغربة وهذا البلاء والامتحان هو ما كنا نتوقعه وصدق الله ورسوله. كحال الشاب المؤمن التقي إذا اهتدى وتمسك وسار على أمر الله، فأخذ الناس يؤذونه ويتهمونه؛ فيقول: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كنت أتوقع، فقد كان الناس يثنون علي وقت غفلتي ولما اهتديث ذموني وآذوني. وهذا هو طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد قيل لهم مثل هذا وأشد، وأوذوا أشد الأذى، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، فعلي كذلك أن أصبر، ويحتمل كل ذلك لعلمه بأن الابتلاء سنة ماضية، وأن منهجه الذي يسير عليه هو المنهج الحق، وهذا هو الواجب في مثل هذه الابتلاءات والفتن.
      فالعلم والبصيرة إذا وُجِدَا لم يكن هناك ضعف ولا انقطاع في الطريق، بخلاف ما إذا فقدا؛ فإنه إن أصيب ببلاء من أذى الناس شك في أمره، واستوحش من الطريق الذي سلكه؛ فيظفر به الشيطان بعد ذلك لضعف علمه وبصيرته، وكذلك لضعف صبره؛ إذ ليس كل أحد يصبر على هذا الأمر.
    3. الصبر واليقين شرطان للإمامة في الدين

      جعل الله سبحانه وتعالى للإمامة في هذا الدين شرطين أساسيين، فقال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))[السجدة:24] فإذا أردت أن تكون داعية إلى الله حقاً فالزم هذين الشرطين (الصبر واليقين)، وكما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين)، فيقين بلا صبر ليس بيقين حقيقة، وكذلك صبر بلا يقين ليس بصبر حقيقة، فلابد منهما معاً، ولابد أن تكون واثقاً موقناً بوعد الله وحكمته وخبره سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت صابراً على ما تلقاه في هذا الطريق.
      فبهذين الأمرين يكون الإنسان إماماً للمتقين ويكون دعاؤه: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74] من هذا القبيل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلف الصالح من الأئمة الذين أحيا الله تعالى بعلمهم وبإيمانهم أمماً وأجيالاً، فهؤلاء لزموا الصبر واليقين، وما منهم من أحد إلا وأُوذي وعذب وفتن، وعانى ما عانى حتى أظهره الله وأيده ونصره، فهذا المثال الذي يضربه لنا ابن القيم رحمه الله وينقله عنه المصنف إذ يقول: [كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن]، يريد أن يوضح أن العبد كلما كان يعلم ويوقن أن تلك الراحة والسعادة تعقب صبره على هذا الطريق، وإن كان فيه حيات وعقارب وحفر وظلمة ووحشة؛ كان أجدر بأن يصل بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا عقبة بعد ذلك.
      فهو سلك طريقاً فيه خوف ومشقة ولأواء لكنه مفض إلى أمن ورخاء، وهناك طريق مليء بالملذات والشهوات لكنه يفضي إلى خوف وسوء وعذاب!
      فالعاقل ذو البصيرة ينظر إلى النهاية والعاقبة، ويتحمل ما يجده في سبيل الوصول إليها، أما ضعيف الإيمان والعزيمة والإرادة والهمة، فإنه يتراجع عند أول عقبة وأول حفرة، ويحرم من ذلك الخير والأمن، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهكذا أراد الله أن يكون الطريق إلى رضوانه وجنته محفوفاً بالمكاره، بل إن حكمته تعالى أعظم من ذلك فقد اقتضت أن الحياة الدنيا جميعاً لابد أن يوجد فيها ما يستوجب الصبر، حتى الكافر والمجرم والزاني وشارب الخمر؛ لو لم يصبروا ويتحملوا الأذى والمشاق، لما نالوا ما يريدون ويتمنون، فكيف بمن يريد سلعة الله الغالية؟! تخور عزيمته وتضعف همته وهو لا زال في أول الطريق؟!!
      يقول: [فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة] فالوحدة والوحشة والغربة من أعظم الأسباب التي يرجع بسببها السالك في أثناء الطريق قبل أن يصل، لكن إذا كان الإنسان بين إخوة صالحين فضلاء يعينونه على الحق مهما تقدم معهم في طريق الحق وساروا وتعمقوا في الخير؛ لا يفارقه الشعور والثقة والطمأنينة، أما مع الغربة والوحشة كمن كان غريباً عن بلده، فهذا من دواعي الضعف، وإن كان المفترض أن تكون عاملاً من عوامل القوة؛ لأنك إذا كنت غريباً وسننت سنة حسنة كانت أعظم أجراً.
      إذاً: لابد من قوة صبر وقوة يقين، لا سيما إذا عزَّ الرفيق، وانعدم المعين، وكثر المعادي، وشعر الإنسان بالغربة، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} أمثال الصحابة السابقين الأولين، ومن يليهم من الصحابة ثم التابعين قبل أن يكثر المتمسكون بالدين؛ فأولئك أجرهم أكثر وأعظم، ولهذا قال الله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))[الحديد:10].
      وطالب العلم الذي يعمل بما عمل قبل أن يعمل به الناس وقبل أن ينتشر؛ أجره أكبر ممن عمل بذلك العلم بعد انشاره وكثرة العاملين به.
      وعلى العبد المؤمن مهما كانت الطريق مخوفة ألا يستوحشها من قلة الرفيق؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى معه، فلا يخاف من أحدٍ غيره، ولا يستوحش طريقاً سار فيها قبله الرسل والأنبياء، والصحابة والتابعون، وأهل الخير والصلاح، ولهذا كان الله سبحانه وتعالى يسلّي نبيه صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء قبله؛ ليأخذ منها العبرة والعظة في الصبر، والتأسي بهم في صبرهم على تكذيب قومهم وإيذائهم لهم، وإخراجهم إياهم، حتى إن منهم من قتل، وذلك ليتأسى بهم صلى الله عليه وسلم، ويعلم أنه ليس وحده في هذا الطريق، والأمة تقتدي به وتتأسى به، ويعلم الفرد منهم أنه ليس وحده وإنما هو سائر عل طريق النبي صلى الله عليه وسلم -والأنبياء من قبله- والصحابة الكرام وأنه ليس فرداً وحيداً في هذه الطريق فيأنس ولا يستوحش، ولا تعيقه أشواك الطريق ووعورة المسلك، فأول الطريق مشقة وآخرها سعادة وعز وتمكين ثم جنة ونعيم-جعلنا الله من أهلها، السالكين إليها، الصابرين على لأواء السبيل إليها.
      قال ابن القيم رحمه الله: " وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة، وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم".
      والمقصود من الناس لا يشترط أن يكونوا فساقاً ضلالاً أهل جهل، فقد يكونوا ملتزمين.
      هناك مزلق من مزالق الشيطان يواجه العبد الذي يمر في هذا الطريق، وهو أن الداعية المستقيم يرى بعض الملتزمين في حقل دعوته واقعين في المحرمات التي ينهى عنها، تاركين لبعض الواجبات التي يدعو إلى فعلها، فيأتيه الشيطان فيقول له: كل هؤلاء على باطل وأنت على حق ؟! أو تريد أن تخالف كل هؤلاء؟ فيخوفه بالأكثرية وبالكبراء والسادة والقدوة، فيقع المسكين في شباك إبليس اللعين، بينما الشيطان يأتي إلى الجميع بهذه المقولة فيسخر منهم جميعاً، قال ابن القيم رحمه الله: "وهي التي أهلكتهم" أي أتباع الكبراء والسادة والأكثرية.
      ولهذا لما جلست رسل الشيطان عند رأس أبي طالب في مرض موته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه: {قل كلمةً أحاج لك بها عند الله}! وهم يخاطبونه: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فجاءه داعي الخير وداعي الكفر، فكان يقول في نفسه: كيف يكون عبد المطلب على ملة باطلة؟! وكذلك الآباء والأجداد بما لهم من المجد والمفاخر، كيف يكونون على ضلال وباطل؟! ولذلك كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
      ولذلك لا يقل أحد: أنا مع الجماعة، وإنما: أنا مع الحق، ومن هنا وفق المصنف في انتقاله من هذا الموضوع إلى موضوع الجماعة، فنقول: من هي الجماعة؟ وكيف يتمسك الإنسان بالجماعة؟
  2. الجماعة

     المرفق    
    سيأتي في آخر هذه العقيدة المباركة الكلام على الجماعة. نشرحه في موضعه ونقتصر هنا على بعض كلام المصنف رحمه الله نقلاً عن ابن القيم رحمه الله: فلا ينبغي للمرء أن يستوحش الطريق وإن كان وحده؛ لأن الجماعة هي ما وافق الحق وإن كنت وحدك وليست الكثرة والغثائية كما يظن البعض. قال رحمه الله: "فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده؛ إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول (( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ))[النساء:69]" فاجعل رفيقك هؤلاء ولا تستوحش أبداً.
    1. المراد بالجماعة ولزومها

      قال: [وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً]، وهذه هي الجماعة.
      فالجماعة اتباع الحق وإن كان أهله قليلاً والمخالف له كثيراً، قال: "لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم" والجماعة في تعريف أهل السنة والجماعة (هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والمتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة في جميع الأمصار قلوا أو كثروا)، فإذا أمرت أن تتبع الجماعة أو أن تكون من الجماعة أو تدعو إلى الجماعة، فهذه هي الجماعة في كل زمان ومكان، وقد تكون الجماعة رجلاً واحداً ما دام أنه على الكتاب والسنة، فلزوم المنهج الصحيح ومرافقة المنعم عليهم هو المعنى المراد عند الحديث عن الجماعة.
      ويقصد بكلمة الجماعة معنيان: المعنى الأول: الشيء المجتمع عليه وهو السنة وأهلها، وبهذا المعنى يدخل الصحابة والتابعون وغيرهم ممن سار على نهجهم في سائر العصور، ولهذا عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة} كما في إحدى الروايات.
      إذاً: الفرقة الناجية : الصحابة والتابعون ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين.
      نجد في كتاب اللالكائي وابن بطة، والآجري، والطبري وغيرهم نجد قولهم: منهج الجماعة كذا.. قول الجماعة كذا.. وقول الخوارج كذا.. فجعلوا الفرق الإثنتين والسبعين مخالفة للجماعة وإن كانوا أكثر.
      والمعنى الثاني: الجماعة التي نحن مأمورون بأن نلزمها عصبة الإيمان وركبه، إذا اجتمعوا على إمام أو على أمير للمؤمنين، وحينئذٍ تجب الطاعة، ويحرم الشذوذ ونكث البيعة، والمعنيان ينطبقان على ما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، ولا سيما قبل الفتنة، فقد كان الناس في عهد أبي بكر وعمر -على المعنى الأول- على السنة والحق، لا يوجد بينهم فرق مبتدعة، وكانوا -على المعنى الثاني- مجتمعين على أمير المؤمنين، لم تفرقهم الفتنة كما وقع في عهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ أصبح المسلمون فريقين يتحاربان، لكن في ذلك العهد مع وجود القتال بين المسلمين وقد أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان من المسلمين دعواهما واحدة} هل خرجوا عن الجماعة بالمعنى الأول؛ هم من الجماعة من أهل الحق والسنة وليسوا من فرق الضلال والبدعة.
      فالأمة آنذاك خرجت عن الجماعة بالمعنى الثاني فلم تجتمع على إمام واحد وإنما اختلفت وتفرقت واقتتلت وما كان ينبغي لها ذلك لأن الخلاف والاقتتال من أسباب الهلاك.
      وعلى ذلك فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... وذكر منها: والتارك لدينه المفارق للجماعة} فالجماعة معناها هنا: مفارقة الحق. فنأخذ هذا الحديث دليلاً على أن المرتكب لبدعة مكفرة -لاسيما إن اجتمعت عليها الطائفة- يجب أن يُقَاتل لدفع بدعته وشره وذلك بشروط تذكر في بابها إن شاء الله.
      وكذلك المرتد يجب قتله ردة، أما من فارق السنة إلى البدعة فيهجر أو يعزر أو يقتل حسب بدعته كما سيأتي بإذن الله، وأما من خرج عن طاعة الإمام وهو على السنة فهؤلاء يقال عنهم: أهل البغي ولهذه الظاهرة أحكام نشرحها في باب الإمامة إن شاء الله.
      ثم ينتقل ابن القيم إلى قصة فيقول: "قال عمرو بن ميمون الأودي : [[صحبت معاذاً بـ اليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا؟! فقال: وما ذاك! قال: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة فهي نافلة، قال: يا عمرو بن ميمون ! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك]]، وفي طريق أخرى: [[فضرب على فخذي وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة هي ما وافق طاعة الله عز وجل]] قال نعيم بن حماد : [[ يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ]]. ذكره البيهقي" انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.