ومن عجائب
الفخر الرازي التي ذكرها عنه العلماء أنه يورد الشبهة ويستدل لها، ثُمَّ لا يستطع أن ينقضها، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يأتي بالشبهة نقداً، ويجعل الجواب عنها نسيئة، فالذي يقرأ كتبه قد يتشكك من إيراد الشبهات؛ ولكنه لا يجد الرد عليها، فـ
الرازي كَانَ أولاً يطول النفس في الكتابة ثُمَّ ينقطع، فطول نفسه يذهب في إيراد الشبهات، فإذا أراد أن يُجيب كَانَ قد تعب فلا ينقض هذه الشبهات، ولهذا قيلت فيه هذه العبارة.
وهناك ظاهرة أخرى موجودة وملحوظة في كتبه وهي التناقض والافتراض، وهذه تهمنا هنا فـالرازي في موقفه من قضية الكلام -التي هي موضوع حديثنا- مضطرب ومتناقض في عدة كتب من كتبه وقد كتب أحد الباحثين بحثاً طويلاً بعنوان فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية فأقر هذه النتيجة أن الرازي مضطرب متردد متقلب في موقفه من العقيدة ومن علم الكلام خاصة.
فمثلاً في بعض كتبه يقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام قديم وهو المعاني القائمة بالنفس، وكلام حادث مخلوق وهو: الألفاظ والحروف والأصوات، وهذا هو مذهب الكلابية.
وفي بعض كتبه يصرح بأن القُرْآن مخلوق، وأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا مخلوقاً، وهو بذلك يشبه المعتزلة فهو مرة أشعري ومرة معتزلي.
وفي كتب أخرى ينقض قول المعتزلة، وينقض قول الأشعرية، ويُقرر كلاماً من نوعٍ آخر، وهنا كما في المطالب العالية ذكر هذا الكلام: أن كلامه -تعالى- يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته فيقول الرازي: إن كلام الله لا يخلو أن يكون خبراً أو إنشاءً أمراً أو نهياً فمثلاً أمر الله في شيء ليس هو كلامه الذي يأمر به، وإنما إرادته وإخباره بأنه سوف يثيب من فعل كذا وكذا، ونهيه عن شيء هو إرادته وإخباره بأن من فعل كذا وكذا فسوف يعاقب، وهذا القول نقده الأشعرية أنفسهم الذين يدعون أن الرازي من أعظم أئمتهم وهو -كما قلنا- إمام المرحلة الثالثة من مراحل تطور المذهب الأشعري حتى أن التفتازاني صاحب المقاصد ذكر ذلك وقَالَ: إن هذا القول ضعيف؛ بل قَالَ: وهذا ظاهر الضعف؛ لأن إرادة الثواب للمطيع الممتثل للأمر، أو إرادة العقاب لمرتكب النهي هذه لوازم الأمر والنهي أو من نتائجه، وليست هي الأمر والنهي فإذا هذا الوجه ظاهر الضعف.
وكما أشرنا إِلَى أن المذاهب الرئيسة هي الثلاثة التي ذكرناها:
مذهب المعتزلة.
ومذهب الأشعرية الكلابية.
ومذهب السلف.
وقول الرازي يعد من فروع مذهب الأشعرية الكلابية، وإن كَانَ أراد أن يتفلسف فيه قليلاً، لكن المذهب نفسه فيه التناقض والاضطراب، وهذا الذي حصل ووقع للرازي من بدايته، فقد تأرجح الرازي بين كونه فيلسوفاً، وبين كونه معتزلياً، وبين كونه أشعرياً، وفي آخر عمره يقول في وصيته وفي بعض كتبه: إن منهج القُرْآن هو الصحيح، وهو صاحب الأشعار التي يقول فيها:
نِهَايةُ إِقْدَامِ العقولِ عِقَالُ وغَايةُ سعي العَالمِينَ ضلالُ
وَلم نستَفِد مِنْ بحثِنَا طوُلَ عُمرِنَا سِوَى أنْ جَمعنَا فيه قِيلَ وقالوا
هو الذي اعترف بذلك في قصيدة له ضمن أقسام اللذات، وأوصى عند موته بطريقة القرآن، وقَالَ: رأيت المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية فما وجدتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ووجدت أفضل الطرق طريقة القُرْآن أقرأ في الإثبات ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ))[الإخلاص:1، 2] و((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] واقرأ في النفي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] فهو في آخر أمره رجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهذا ما حصل لـأبي حامد الغزالي، وحصل مثله للجويني الذي سيأتينا مذهبه وهو المذهب الثامن.
وهذا الاضطراب الذي يقع فيه أكثر أئمة الأشعرية، ومنهم أبو الحسن الأشعري نفسه الذي انتقل من قول إِلَى قول؛ يدلنا عَلَى حيرة المتكلمين عموماً، ولا سيما المتكلم الذي يريد أن يوفق بين الفلسفة، والمنطق والكلام الذي هو كلام اليونان وأمثالهم؛ وبين الكتاب والسنة، فمن كَانَ لديه حظ من الكتاب السنة ومحبة للكتاب والسنة كما كَانَ هَؤُلاءِ، لكنه في الوقت نفسه لديه قناعة بصحة كلام الفلاسفة وأمثالهم؛ نجد أنه يضطرب ولا يزال عَلَى هذا الاضطراب حتى يتمحص في الأخير لأحدهما، فـالجويني أبو محمد رجع إِلَى عقيدة السلف، وابنه أبو المعالي الجويني رجع إليها، وألف الرسالة النظامية، ومن قبل رجع أبو حامد الغزالي، والرازي؛ لكن بعضهم لم يرجع وإنما اضطرب وتخبط وتناقض، فهذا التناقض ظاهرة عامة.
ولذلك نجد هنا أن المذهب السادس، والسابع، والثامن، والرابع، هي في الحقيقة ترجع إِلَى المذهب الثالث، وهو المذهب الأشعري الكُلابي، وقد يكون السبب -والله أعلم- في هذه الحيرة أنه لضعف الحجج التي يحتج بها الأشعرية إذا أتي المعتزلي رد عليها ونسفها، فنتيجة لهذا الضعف يضطر أصحاب هذا المذهب أن يبحثوا عن تعليلات وعن تخريجات، ومن هنا كثرت الأقوال المتشعبة من هذا المذهب بل يمكن أن نعتبر منها أيضاً المذهب السابع الذي هو مذهب الماتريدية.
إذاً المذهب السادس لا يُخالف أصحابه في أن القُرْآن مخلوق، فهم يقولون: إنه مخلوق، وإنما كلامهم في وصف حقيقة الكلام النفسي، وكفى بذلك بدعة وضلالا نسأل الله السلامة والعافية.