المادة كاملة    
الإيمان بالقدر ركن عظيم من أركان الإيمان، وهو اختبار للعبد: هل يسلم ويرضى؛ فينجو، أو يخاصم ربه في علمه وقدرته وتقديره؛ فيهلك. ولا يخاصم الله في قدره إلا ذو قلب مريض أو ميت، أما صاحب القلب السليم فإنه مسلم راض بما قضاه الله وقدره، محافظ على سلامة قلبه باجتناب الشبهات والشهوات؛ وهو بذلك أهل للنجاة يوم القيامة بإذن الله تعالى.
  1. مخاصمة الخلق لخالقهم بالقدر

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
    [فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً].
    قال ابن أبي العز رحمه الله:
    [اعلم أن القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، قال تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا))[الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان، فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها، ولم يلتفت إليها بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر]] .
    وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه].

    الشرح:
    بعد أن تحدث المصنف ومن قبله الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمهما الله ونفعنا بعلمهما- عن القدر وسائر التفصيلات التي سبقت، ختما هذا الباب بهذه الفقرة وهي فقرة عظيمة في بابها، ولا تعود فائدتها إلى باب القدر وحده، بل إلى كل الأبواب، ويحتاجها الإنسان في حياته جميعاً، فقال الإمام أبو جعفر الطحاوي: [فويل لمن صار لله في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً].
    ومن هنا تعرض المصنف رحمه الله إلى مسألة مرض القلب وعلاجه، وأنواع ذلك وقد أجمله رحمه الله، ولعلنا نوسعه فينفع الله تبارك وتعالى به.
    والمراد الأول -للماتن والمصنف- هو أن على المؤمن ألا يخاصم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فكثير من الناس خاصموا ربهم، كما قال تعالى: ((فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا))[الإسراء:89].. ((وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ))[الصافات:71] وذكر أنهم استكبروا عن قبول آيات الله سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره، فإبليس من قبل أبى واستكبر وكان من الكافرين، واستكبر بعده الكفار في كل زمان ومكان: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ))[الصافات:35].
    1. مخاصمة الله في القدر اقتداء بإبليس والمشركين

      ثم إن الخلق لما تكبروا على الخالق سبحانه وتعالى، لم يكتفوا بمعصيته ومخالفة أمره، بل زادوا على ذلك مخاصمته عز وجل ومجادلته فيما أمر، وهذا من أعظم ما يقابل به العبد الضعيف ربه العزيز الجبار المتكبر سبحانه وتعالى.. فالمخاصم لربه يجادله، ولسان حاله يقول: أنا المصيب وأنت المخطئ -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وهكذا كان حال إبليس حينما قال الله عز وجل له: ((مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12] إذ أمرك لي بالسجود مخالف للحكمة، فكان ينبغي أن تأمره أن يسجد لي؛ لأنني خير منه. فهذه خصومة لله رب العالمين سبحانه وتعالى، وهكذا كل من تجرأ على الله واستكبر عليه فإنه مخاصم لربه عز وجل.
      ومن ذلك ما كان من قبل وما نراه ونسمعه إلى اليوم، من مخاصمة البشر لله تعالى في باب القدر، يقول القائل: إن الله تعالى هو الذي كتب عليَّ المعصية، فلم يعاقبني؟! هذا في باب الأمر والنهي.
      أما في باب الأقدار الكونية فنسمع العجب العجاب من الناس في مخاصمة الله سبحانه وتعالى، ونلاحظ كثيراً من الخلق يشكون الخالق الذي منّ عليهم بالنعم وأسبغها عليهم ظاهرة وباطنة، إلى مخلوق ضعيف عاجز مثلهم، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فيقول: لماذا ابتلاني الله؟ وما هو السبب؟ وماذا صنعت حتى يبتليني؟ وانظر بماذا ابتليت!! وهذا من تزيين الشيطان لإغواء هذا الإنسان، ليخاصم ربه، كما خاصم هو في أول أمره.
      ومن ذلك أنهم يقولون: لو أن الله تعالى لا يريد منا هذه المعاصي لما كتبها علينا ولما شاءها، فيحتجون بنفس الحجة التي احتج بها المشركون من قبل على رضا الله سبحانه وتعالى بما لا يرضاه، قالوا: لأن الله قد قدر ذلك.
      وهكذا خوصم النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح مسلم - {أن المشركين جاءوا إليه يجادلونه في القدر، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ))[القمر:49] } فبين الله تعالى أن هذا الجدل وهذه الخصومة باطلة، وأن العباد ما عليهم إلا أن يستسلموا وينقادوا لربهم سبحانه وتعالى، وأن يطيعوا أمره، ولا يعارضوا شرعه: أمره ونهيه بقدره وقضائه، فإن هذا منه وهذا منه سبحانه وتعالى ولكنهم يجهلون.
      وليعلم أنه لا يعترض ولا يخاصم الله سبحانه وتعالى إلا من جهل قدر الله، ولم يعرف ربه حق معرفته، ولم يقدره حق قدره سبحانه وتعالى، وإلا فكلنا بين يديه، ونحن خلقه وعبيده، أوجدنا بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً، وأسبغ علينا النعم، وأعطانا من العلم والفهم، والأعضاء والجوارح ما لا نستطيع القيام بشكره، وطلب منا أن نعبده، وجزاؤنا على ذلك جنة عرضها السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى غني عن عبادتنا، لا تضره معصيتنا، ولا تنفعه طاعتنا، ولكن الشيطان يزين لأوليائه وأتباعه أن يجادلوا رب العالمين كما جادله هو من قبل.
    2. قلب الإنسان وعمله محط نظر الله

      ويقول المؤلف رحمه الله: [فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً] ويل لمن يعترض على قضاء الله وأوامره، سواء كانت شرعية أو قدرية أو كونية، فيجب أن لا نعترض على رب العالمين؛ لأننا عباد مربوبون مخلوقون لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ولا يحق لنا إلا أن نسلم ونرضى بما قدر سبحانه وتعالى.
      إن سبب اعتراض الناس على أحكام الله وأقداره ومجادلتهم له في آياته هو: أن القلوب ميتة أو مريضة، ومن هنا نقف على حقيقة عظمى مهمة ذكرها المصنف رحمه الله، وهي ظواهر وبواطن الناس؛ فلا يرى الناس من بعضهم إلا ظوهرهم وصورهم، فقد ترى إنساناً صحيح البدن قوي الجسم في نعمة من الله وعافية، وهو مع هذا مريض القلب، وليس مريضاً فحسب، بل قد يكون ميتاً لا حياة فيه، وقد يكون العكس. وهذا يراه المؤمن بعين البصيرة، فيميز من كان صاحب قلب حي عمن قلبه مريض أو ميت.
      فالأساس في الناس ليس في المظهر والصورة، وإنما هو القلب، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبك} فالمؤمنون الذين ينظرون بنور الله سبحانه وتعالى، يزنون أنفسهم ويزنون الناس بهذا المعيار، لا يزنون الإنسان بماله أو وظيفته أو منصبه، بل يزنونه بقلبه؛ أحي هو أم ميت أم مريض؟ فإذا عرفوا الحياة في قلبه أحبوه وغبطوه وفرحوا بذلك، وإذا رأوا قلبه مريضاً أو ميتاً تألموا وحزنوا، وصاروا يبغضونه بقدر ما يرون فيه من بغض لما أنزل الله تعالى، ومن قسوة قلب، أو مرض عافانا الله وإياكم من ذلك.
      فهذا هو معيار أولياء الله، ولكن الناس تطغى عليهم الشهوات والملذات، ويغترون بمتاع الحياة الدنيا، وتصبح نظراتهم مقتصرة على هذه المظاهر الكاذبة من المناصب، والشهادات والمراتب التي لا قيمة لها في الحقيقة، إذا تجردت عن حياة قلب سليم يضيء بنور الإيمان والتقوى والصبر واليقين.
      هذا هو الأساس الذي يجب أن يعلمه الإنسان، وإذا صلح ذلك وكان القلب بهذه المثابة، فإن العقائد تصلح والعبادة تتقبل، والأخلاق تتقوم. فالأعمال كلها تكون فروعاً لذلك النور الوضاء، أما إذا فسد القلب وكدرته الشهوات والشبهات، فإن الإنسان مهما حاول بعد ذلك، وأراد أن يُلَبِّس أو يدلس على عباد الله، أو على رب العالمين سبحانه وتعالى، فإن الله مطلع على حقيقته، ولابد للخلق أن يعرفوا حقيقته ولو من لحن القول مهما تستر، كما فضح الله تبارك وتعالى أصحاب القلوب المريضة من المنافقين وأتباعهم، فالأمر خطير جد خطير.
  2. الحذر على القلب من أمراض الشبهات والشهوات

     المرفق    
    1. أمراض الشهوات التي تصيب القلب

      إن أحق شيء بالمراجعة في كل حين حتى تتأكد من حياته وسلامته هو القلب، فقد يداهمه عدو، أو يداخله مرض وأنت لا تشعر، أو تشعر ولكن بعد فوات الأوان، كقوم ناموا فما استيقظوا إلا وقد اجتاحهم عدو غاشم فحينها لا ينفع الصراخ ولا العويل، فاحذر الغفلات أيها المسلم! فإنها مداخل الشيطان إلى الإنسان وهي إما شهوة أو شبهة لا تزول، وإذا أردت أن تتأكد من وجود هذه الأمراض وأثرها على القلوب المريضة فانظر كم من إنسان فتن وضيع دينه ودنياه بنظرة محرمة، كما قيل:
      أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى             فصادف قلباً خالياً فتمكنا
      والحقيقة أنه إذا جاء الهوى وجاءت الشهوة؛ والقلب خال؛ لا من الهوى، وإنما من التقوى الإيمان، فإذا صادفت الشبهة أو الشهوة قلباً خالياً فإنها تتمكن منه، بل وصل المرض إلى درجة أن أحدهم يمرض من سماع صوت، فكم من الناس سمع صوت مغنية فمرض، فهو لا يطيق سماع ذكر الله ولا يكف عن سماع الغناء ولا يريد أن يذهب إلى المساجد ولا يريد سماع القرآن؛ وكما قيل:
      يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة             والأذن تعشق قبل العين أحياناً
      ما أصعب معالجة القلب إذا مرض، فالنظر المحرم والسماع سهمان مسمومان إذا نفذا إلى القلب أمرضاه، وربما قتلاه، وقد كتب العلماء في ذم الهوى كتباً: كـابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان وكتابه الجواب الكافي وابن الجوزي رحمه الله في كتاب ذم الهوى وذكروا قصصاً منها: أن بعض الناس يقال له عن امرأة فيفتن بها فيمرض، وبعضهم يرى منها الكف أو المعصم فيمرض ويهلك؛ لأن القلب ليس له قدرة على المقاومة، فيضعف وينحلّ.
    2. أمراض الشبهات التي تصيب القلب

      أما أمراض الشبهات فحدث ولا حرج، فكم من إنسان سمع مقالة لمجرم عدو من أعداء الله، أو شيطان من شياطين الإنس؛ فوقعت في قلبه موقعاً لا تخرج منه أبداً، ونسي بسببها كل الحق الذي كان يراه في كتاب الله، والذي لا زال يراه في ملكوت الله، وأصبح لا يسمع موعظة، ولا يطيق أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر؛ لأن تلك الكلمة وقعت في قلبه فرسخت وأصبح يرد كل ما يأتيه من حق أو خير بتلك الكلمة التي قالها الشيطان أو أنطقها الشيطان على لسان شيطان مثله،.. فيسمع كلمة (الحرية) فيريد الحرية بالمعنى المخالف للحق، ويسمع شيطاناً آخر يقول له: لا حاجة للتعصب ولا للتزمت فيتشرب قلبه هذه الكلمة، وكلما قيل له: اتق الله قال: لا نريد التعصب ولا التزمت.. فيحتج بشبهة في رد أوامر الله عز وجل، وهي كلمة ألقاها له شيطان، وإذا سمع شخصاً يقول له محذراً: هؤلاء فيهم كذا وكذا كما قيل عن أهل السنة، بل كما قيل في الأنبياء قبلهم على مرِّ العصور والأزمان، فإنه حينئذ لا يجالس أحداً من أهل السنة ؛ بسبب تلك الكلمة التي قالها ذلك الشيطان، ولو أن هذا القلب سليم مستنير بذكر الله فلن تؤثر فيه كلمة ولا نظرة، لكن بسبب خلوه من ذكر الله ومن الحق والنور والإيمان، والصبر واليقين؛ أثرت فيه هذه الكلمة.
      ولهذا يقول رحمه الله: [اعلم أن القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن]، فبعض الناس لا يعلمون بمرض القلب ولا موته ولا حياته، فأصبحت حياته موتاً وموته حياة، فبعض الناس إذا اهتدى ابنه يقول: هو مريض، ويذهب به إلى طبيب نفسي، فيعالجه ويصف له من الدواء: الفسحة، النزهة، الأفلام، المجلات؛ حتى يشفى. سبحان الله ما هذا الانعكاس في حياة الناس، إذ صاروا يهملون القلب. ولا يفكرون في أمر القلوب وإنما اهتمامهم كله بالأجساد، فإذا مرض الجسد وقيل: إن هذا المريض لا يرجى علاجه وشفاؤه إلا على يد فلان في مستشفى في بريطانيا، أو في كندا، أو اليابان، فترى أهله وأصحابه يجتمعون ويطلبون له طائرة خاصة لتوصله إلى تلك الأصقاع ليعالج، وهذا مشروع لا شيء فيه، لكن إذا كان هذا المرء صحيح البدن وقلبه مريض، يترك الصلاة، لا يرى في الخمر بأساً، ويتعامل بالربا ويرى أنه لا شيء عليه إن مارس ذلك، ويعتقد أنه لا يمكن له الحياة دون أن يتعامل بالربا، فهذا المرض الخطير من يعالجه؟!!
      أكثر الناس لا يرون أن هذا مرض والعياذ بالله، وهذا دليل على أن أكثر الناس مرضى، وإذا علموا به لم يتبرع أحد لعلاج هذا المسكين، وهو يعاني من مرض قاتل أعظم وأشد من مرض الجسد، فغاية مرض الجسد أن يموت الإنسان، وما يدريك لعله يموت شهيداً، لكن إذا مات القلب خسر العبد الدنيا والآخرة، فمن ينقذ هذا؟ ومن يفطن له؟
      يقول: [قال الله تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا))[الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان] فليس من أعطي النور كمن يمشي في الظلمات يتخبط فيها. وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))[الأنفال:24] فحياة القلب بعد موته هي إيمانه بعد كفره، وهدايته بعد ضلاله، واستقامته بعد انحرافه، وطاعته بعد معصيته، هذه هي الحياة.
  3. أقسام القلوب من حيث الصحة والسقم

     المرفق    
    يذكر المصنف رحمه الله بعض ما فصله الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في أول كتابه إغاثة اللهفان، وهو كتاب عظيم جدير بأن يقرأ، فقد اشتمل على فوائد عظيمة في بيان أحوال القلوب، وما يصيبها من أمراض الشهوات والشبهات التي تعرض لها، وتكلم عن مكائد الشيطان للعباد في العبادات والأحكام والمعاملات...، فيقول ابن القيم رحمه الله: "الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت، لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها؛ انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة، فالقلب الصحيح: وهو القلب السليم الذي لا ينتفع يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى: ((يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ))[الشعراء:88]* ((إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الشعراء:89] ".
    وهذا من دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام الذي قال فيه ربنا تعالى: (( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ))[الصافات:84] ليقينه وإيمانه أنه لا ينفع يوم القيامة مال ولا بنون (( إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ))[الشعراء:89].
    فبذلك القلب السليم تكون النجاة الكاملة، والاهتداء الكامل، وقد ينجو صاحب القلب المريض رحمة من الله له ومغفرة لذنوبه، وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والشافعين، لكن الذي له السلامة والنجاة الكاملة، هو صاحب القلب السليم، ولهذا يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82]. فهؤلاء لم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: بشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالصغائر تقع منهم، لكنهم تركوا الشرك صغيره وكبيره، وتركوا تبعاً لذلك الكبائر، فهؤلاء لهم الأمن وهم مهتدون؛ أمناً تاماً وهداية تامة لأن قلوبهم تامة السلامة لم يلبسوها بشيء مما يهلكها، ولكن من نقص إيمانه وطاعته وتلبس بالمعاصي، فإنه ينقص من أمنه يوم القيامة بمقدار ما ينقص من إيمانه، وينقص من هدايته في الدنيا بقدر ما يخل به من الطاعات.
    ومن فقد ذلك بالكلية وهو صاحب القلب الميت، فهذا لا أمن له ولا اهتداء، لا في الدنيا ولا في الآخرة، نسأل الله العفو والعافية.
    ويقول رحمه الله: "...: ((إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الشعراء:89] والسليم هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف، فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، كالعليم والقدير، وأيضاً فإنه ضد المريض، والسقيم والعليل". أي: أنه تأتي صفة فعيل بمعنى فاعل وله أشباه ونظائر من كلام العرب ذكر بعضها.
    1. معنى القلب السليم

      يقول رحمه الله: "وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم. والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره".
      ديننا أوامر ونواهٍ من جهة، وأخبار من جهة، ونحن نوحد الله تعالى توحيداً علمياً اعتقاديا خبرياً، وتوحيداً عملياً طلبياً إرادياً، فإذا كان الأمر من باب الأمر والنهي -التوحيد الطلبي العلمي- فالواجب ألا يدخل القلب شهوة تمنعه من إتيان الطاعة أو ترك المعصية، وإذا كان الأمر من باب التوحيد العلمي الاعتقادي، فالواجب أن نؤمن به سبحانه وتعالى إيماناً لا يدخل القلب معه شبهة في شيء مما أخبرنا به، وأمرنا أن نعتقده في أسمائه وصفاته وقدره سبحانه وتعالى، وما قص علينا من أخبار وأحوال الأمم السابقة، وما أخبرنا به عن اليوم الآخر والجنة والنار والمعاد، فكل ذلك حق لا شبهة فيه هذا هو القلب السليم.
    2. حقيقة العبودية وتعلقها بسلامة القلب

      يقول: "فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله: في خوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق.
      وهذا هي حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده".
      فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى؛ إرادة، ومحبة، وتوكلاً، وإنابة، وإخباتاً، وخشية، ورجاءً، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد، في الأقوال والأعمال: من أقوال القلب وهي العقائد، وأقوال اللسان: وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب وهي: الإرادة، والمحبة، والكراهة، وتوابعها، وأعمال الجوارح" فهذه الأربعة هي أركان الإيمان: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وهي تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة . ففي كل هذه الأربعة يعقد القلب عقداً جازماً أن إمامه وقدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحب ما أحب، ويبغض ما أبغض، ولا يخاف في الله لومة لائم، بل لا يعد كلام وانتقاد الناس شيئاً؛ لأنه يطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتبع أمره، بل يعتبر انتقاد الناس له مما يفرحه ويبهجه، كما قال الشاعر:
      أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم
      وكان هذا الشاعر يقول هذا الشعر في محبوب له في الدنيا، فكيف بالمؤمن؟ فيجب عليه أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم مهما لِيمَ ونيل منه بسبب ذلك، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله على بصيرة، بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يبالي، فإن كل الناس وإن شتموه وسبوه؛ فإنما يذكرونه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
      إذا:
      أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم
      يقول: "فيكون الحاكم له في ذلك كله، دقه وجله، هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر"، وكما قال تعالى في سورة أخرى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] أي: ينقادوا انقياداً، فالإيمان ليس مجرد دعوى أو انتساب لفظي بأن يقول: أنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أنا من أهل السنة .
  4. مقامات التحاكم إلى الشرع

     المرفق    
    قال الله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65].
    انتظمت هذه الآية ثلاثة مقامات:
    1- مقام الإسلام بالتحكيم: ومن لم يحكم فليس بمسلم.
    2- مقام الإيمان: بأن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً، فينتفي الحرج عنهم ويكونوا مؤمنين.
    3- مقام الإحسان: بأن يسلم تسليماً مطلقاً، كما قال الصديق رضي الله عنه لما قيل له: إن محمداً يزعم أنه أسري به في ليلة إلى بيت المقدس، وصعد إلى السماء، فقال: [[إن كان قاله فقد صدق]] فالصديق يصدق قبل أن يسمعه، ونحن يجب علينا أن نقول: إذا صح الحديث آمنا وصدقنا وإن خالف كلام إمام أو شيخ.. فهذا كله لا اعتبار له إذا صح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح من غير شذوذ ولا علة وفق قواعد أهل الحديث، إلا أن أهل الرأي والهوى والبدع قالوا في بعض أدلة الاعتقاد: هذا يستلزم التشبيه وهذا يستلزم الجبر، أو غير ذلك، وهذا لا اعتبار له أبداً، بل نسلم تسليماً مطلقاً، كما هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حيث أورد مسألة التحكيم في كتابه الصغير حجماً الكبير منفعة وعلماً ومعنىً، وهو كتاب تحكيم القوانين، حيث جعل مسألة تحكيم القوانين واتباع غير شرع الله من باب نقض شهادة أن محمداً رسول الله، واتفق كلامه مع كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- هنا حيث يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يكون هو المطاع المتبع في كل أمر؛ بتسليم وانقياد، من غير منازعة، ولا معارضة، ولا مدافعة ولا ممانعةً" كما ذكر الحافظ رحمه الله في تفسير هذه الآية.
    قال ابن القيم رحمه الله: "قال بعض السلف قوله: ما من فعلة -وإن صغرت- إلا وينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي: لم فعلت؟! وكيف فعلت؟!
    فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل"؟
    أهذا الباعث لك على الطاعة والعمل؟! "أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى ؟ وابتغاء الوسيلة إليه.
    ومحل هذا السؤال: أنه: هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك؟ أم فعلته لحظك وهواك؟!
    والثاني: سؤال عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك التعبد، أي: هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟!
    فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة". ولابد للعمل من شرطين: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما.
    فطريق التخلص من السؤال الأول بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع.
    فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة".
    انتهى كلام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه.
    جعلنا الله وإياكم من أصحاب القلوب الحية التي تنجو يوم القيامة؛ (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ))[الشعراء:88-89].