قال رحمه الله: [الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته] فهو عز وجل يقدر الأمور تقديراً مطابقاً لعلمه، فقولنا -نحن المؤمنين- نؤمن بالقدر، أي: بما قدره الله تعالى بمراتبه الأربع، والتي آخرها أنه يخلق خلقاً مطابقاً للمرتبة الأولى، أعني: مرتبة العلم، يتضمن أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، قال تعالى: ((
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ))[القصص:68]... ((
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107]... ((
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ))[البقرة:253] فكل شيء بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، وهو يفعل ما يشاء، ولا يستطيع أحد أن يحد من إرادته أو مشيئته، فلا راد لما كتب وقدر، ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وأما الذين أنكروا عموم مشيئته وإرادته، وأنه لا يريد من أفعال العباد ما كان شراً فإنما أتاهم هذا القول لشبهة كانت في أذهانهم، وقد جليناها فيما مضى، وهذا هو مما يتعلق بـ
القدرية .
أما الفلاسفة ومن حذا حذوهم من غلاة الجهمية، فإنهم تجرءوا أكثر من ذلك، فقالوا: إنه تعالى غير مريد ولا مختار ولا يشاء، فإذا قيل لهم: إذاً كيف وُجِدت هذه المخلوقات؟ قالوا: إنها لازمة لذاته، أي أن أفعاله لازمة لذاته، والكون صدر عنه صدور المعلول عن العلة، فيجعلونه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- علة تامة اقتضى وجودها وجود معلولها، فلا يثبتون له عز وجل مشيئة ولا إرادة، مثال -ولله المثل الأعلى- أن الشمس عندما تسطع على الماء فإنه يتبخر شيء منه بفعل الحرارة، وحينئذٍ يقولون: إن هذه الحرارة علة والبخار معلول، والشمس أو الحرارة لا علم لها، ولا تدري أنها تبخر أو لا تبخر، فجعلوه سبحانه وتعالى مجرد علة في وقوع الأشياء كالجماد، وهذا الكون جاء عن طريق هذه العلية، وجعلوا أفعاله لازمة له، أي أنها بطريق اللزوم لا بطريق الإرادة والاختيار، ومن اعتقد ذلك فقد كفر بالله العظيم الذي أخبرنا في كتابه في مواضع لا تحصى، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم كما أثر عنه في سننه، بل وتخبر عنه العقول والفطر في كل زمان ومكان: أنه يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء سبحانه وتعالى.
نجد أن من الأشياء ما يكون مخالفاً لما يظنه الناس قوانين مطردة، وما ذلك إلا لحكمة وفائدة ومنها التنبيه على هذا، فالكون كله لا يجري على وتيرة واحدة، والأحداث لا تجري على نمط واحد فالنار من طبيعتها أنها تحرق، لكن وجدنا نار إبراهيم عليه السلام لما ألقي فيها لا تحرق،ولو أن النار تحرق بذاتها، لما تخلفت عن إحراق سيدنا إبراهيم عليه السلام، لكن الله عز وجل إذا شاء منع هذه الأسباب؛ لأنه خالق هذه الأسباب. وأن العلل والمعلولات والأسباب والمسببات خاضعة لإرادته ومشيئته تعالى.
وقس على ما ذكرنا أموراً كثيرة جداً، فما كان من كرامات للصالحين والأولياء من عباد الله، وما كان من آيات وبراهين للأنبياء والرسل، فهو من هذا القبيل.
ومن ذلك عصا موسى عليه السلام، فقد كانت كما قال تعالى: ((قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى))[طه:18] ففصل موسى في ذكر منافع العصا ليحصر منافعها في ذلك، وأنها ليست إلا لما ذكره، وذكر بعض السلف الدافع لهذا التفصيل: أنه من لذة وحلاوة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، وهذا حق. فهو يريد أن يناجي ربه ويأنس به ويتكلم معه أكثر، فأطال، كما لو كلمك إنسان عظيم تحبه -ولله المثل الأعلى- فإنك تطيل معه الحديث لتكون الصلة والمحبة بينك وبينه أكثر، ولذلك فإنك ترتاح لحديثه وتشتاق لكلامه.
وهذا حق، لكن التفصيل جاء ليحصر منافع العصا على ما هو معهود عند الناس وأنها لا تعدو ذلك، وقد كانت عصا موسى مثل عصا غيره من رعاة الغنم، فقال: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، فإذا رأى الناس هذه العصا تتحول إلى حية تسعى فهذا شيء عظيم وخارق للعادة، فكيف إذا كانت تلقف وتبتلع ما أتى به السحرة الكذابون الدجالون من العصي والحبال التي خيلوا للناس أنها تحولت إلى حيات وثعابين، تلقفها؛ جميعاً ولا يبقى لها أثر؟ هذا أعظم وأبلغ إعجازاً.
أي: أن نفس المادة المسحورة -كما يقال في بيان حقيقة السحر- فقدت بذاتها، وهذا دليل على أن هؤلاء السحرة كذبة لا أصل لسحرهم على الإطلاق، وأن هذه آية عظيمة، فكيف يكون هذا؟ نقول: لأن الله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، ومثل هذا عندما أمره الله عز وجل أن يضرب البحر لما قال له أصحابه: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] فقال: ((كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] فضرب بها البحر امتثالاً لأمر الباري تعالى فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ليمر منه وأصحابه، ويغرق فيه فرعون وجنوده، هذا لا يمكن أن يكون بالأسباب المعتادة والعلل والمعللات المطردة؛ لكن الله يفعل ما يشاء.
ومن مشيئته تعالى أن رزق إبراهيم وزكريا عليهما السلام ذرية بعد أن بلغا من الكبر عتياً ويئساً من أن تلد زوجتاهما لفرط الكبر! أليس هذا من دلالات قدرة الله تعالى ومشيئته وأن كل الأسباب والعلل والمسببات والمعلولات خاضعة له جل وعلا؟!! بلى.فكل ما نراه في الكون له قوانين مطردة، فإنه لا يخرج عن قدر الله؛ فالقانون من قدر الله، ولذا إذا شاء الله غيَّر هذا القانون كما يشاء، وقس على ذلك كل ما يقع لعباد الله الصالحين إلى قيام الساعة مما هو خارج عن هذه القوانين أو السنن الكونية؛ لأن كل ذلك من الله وبمشيئته عز وجل.