المادة كاملة    
الإيمان بالقدر ركن عظيم من أركان الإيمان، وهو يتضمن أصولاً عظيمة جدير بالمؤمن أن يعلمها وفق ما علمه السلف، وهي من أعظم وأشرف ما يعلم؛ لتعلقها بصفات الله سبحانه وتعالى.
  1. تعريف القدر والقدرية وما تضمنه القدر من الأصول العظيمة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.
    والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذين جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع: هو ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر رضي الله عنهما -لما قيل له: [[يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف-: أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء]].
    والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم: يتضمن أصولاً عظيمة:
    أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.
    الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، قال تعالى: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[الفرقان:2] فالخلق يتضمن التقدير: تقدير الشيء في نفسه، بأن يُجعل له قدر، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات.
    الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يُعلم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو؟!
    الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.
    الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه]
    اهـ.
    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وأما قدرة الله على كل شيء، فهو الذي يكذب به القدرية جملة] هذا عود على ما سبق من الحديث عن التفريق بين القدرية الغلاة وبين غيرهم من القدرية . فأما القدرية الغلاة فهم الذين ينكرون العلم، وأوضح مثال لهم هو الفلاسفة والصابئة والمشركون الذين أنكروا العلم، ويلحق بهم كل من أنكر العلم.
    وقد كان غلاة القدرية ينكرون القدر بجملته، فلما رأوا أن الأمة تكفرهم، وأن ذلك يتضمن إنكارهم للعلم؛ عدل أكثرهم عن إنكار العلم وأثبتوه لله، ولكن كل فرق القدرية اجتمعوا في نفي القدر؛ سواء أنكروا علم الله تعالى كلية أو أنكروا علمه بأشياء دون أشياء، فـالقدرية الغلاة كفار لا حظّ لهم في دين الإسلام؛ لأنهم كذّبوا بصفة من صفات الله التي لا يمكن لعاقل أو مقر بوجود الله عز وجل أن ينكرها.
    يقول: [وأما قدرة الله على كل شيء، فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه] إن الذي جادلت ومارت فيه أغلب القدرية، فأنكرته جملة: هو ما يتعلق بأفعال المخلوقين، فقالوا: إن الله عز وجل غير قادر على خلقها، ومن هنا علم سبب وصفهم بمجوس هذه الأمة؛ وذلك لقولهم في بعض خلق الله أن الله لم يخلقه، وهو أفعال العباد، ولابد هنا من التنبيه على ما تقدم من كلام بعض أهل العلم في أحاديث ذم القدرية ومنها حديث: {القدرية مجوس هذه الأمة} إذ قالوا: لم يثبت شيء منها مرفوعاً، وقد ثبت موقوفاً عن بعض الصحابة، واستشهدنا بكلام الشيخ الألباني في تخريج السنة لـابن أبي عاصم (2/461/463) في باب: ما جاء في ذم المرجئة والقدرية.
    وقد نبهنا أحد الإخوة أن الشيخ الألباني حسن وصحح أحاديث في ذم القدرية ووصفهم أنهم مجوس هذه الأمة لا يخرج معناها عن معنى حديث ابن عباس وابن عمر وحذيفة رضي الله عنهم، ذكر ذلك الشيخ الألباني في تخريجه لكتاب السنة لـابن أبي عاصم (1/151) وذكر أحاديث؛ منها حديثان حكم عليهما بالحسن، وحديث حكم عليه بالصحة، مع عدم خلو طرقه من الضعف، ولكن الحكم بالحسن والصحة للشواهد، ولا تعارض بين ما سبق ونقلته عنه -وقال به بعض أهل العلم- من أن الأحاديث المرفوعة في ذم القدرية كلها ضعيفة أو موضوعة؛ وبين تصحيحه أو تحسينه لبعضها في موضع آخر؛ لأن التضعيف باعتبار الطرق منفردة والتحسين والتصحيح باعتبار مجموعها..
    وقد سبق ونبهت على قاعدة -بنيت عليها ترجيح القول بضعف كل هذه الأحاديث مرفوعة- أن أي حديث ورد فيه ذكر فرقة باسمها -كـالمعتزلة والقدرية والشيعة وغيرها- فهو ضعيف لأن هذه المسميات لم تكن موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن الجوزي رحمه الله وغيره.
    وعلى كلٍّ فالمسألة محتملة لأي أحد أن يأخذ بما ذكره الشيخ الألباني من التصحيح بالشواهد أو يأخذ بما أصله بعض أهل العلم بناءً على القاعدة الآنفة الذكر وأن الأحاديث الضعيفة لا ينجبر ضعفها بالشواهد والمتابعات، ولا تصح إلا موقوفة.
    ثم يذكر المصنف رحمه الله تعريف القدر -وإن كان الأليق به أن يذكره في أول مباحث القدر، وليعلم أن هذا الكتاب لم يبوبه المؤلف ويرتبه الترتيب الأمثل، شأنه في ذلك شأن أغلب المتقدمين- فيقول: [القدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذين جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع: هو ما قدره الله من مقادير العباد] القدرية لا تنص على إنكار علم الله تعالى، والذين ينصون على إنكار العلم هم الفلاسفة، وكلام غلاة القدرية يتضمن ذلك، فإذا أنكروا العلم كلية كفروا وأُلحقوا بـالفلاسفة، والقدرية لم تقل: إن الله لا يعلم، بل الذي أنكرته القدرية هو أن الله قدر، فلما استعرضنا ما ذكره الله في القرآن، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، وجدنا أن المرتبة الأولى هي العلم، فالذي لا يؤمن بالعلم هو في الحقيقة غير مؤمن بالقدر كما تقدم.
    والقدر إذا أطلق قصد به ما قدره الله من مقادير العباد ويدخل في ذلك دخولاً أولياً تقدير أفعال العباد، وهو الذي اختلف فيه الناس، ومن أهم تلك الأعمال الشر والمعاصي، ويتبع ذلك الآجال والأرزاق؛ لأنها من القدر، وإن كان تعلقها بالعلم أكثر، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة -كـاللالكائي وغيره- في ذم القدرية، يعنى به هؤلاء الذين أنكروا تقدير الله سبحانه وتعالى لمقادير العباد.
    ثم يقول: [كقول ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له: [[يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف: أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء]]] وهذا قاله ابن عمر في أول حديث جبريل؛ واستشهد المصنف رحمه الله بهذا الحديث لشرفه وثبوته وصحته، فقد رواه الإمام مسلم بهذا اللفظ وأخرجه غيره ممن كتب في العقيدة، كـالآجري واللالكائي وابن أبي عاصم وغيرهم.
    إذاً: كلام ابن عمر وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، يراد به القدرية الذين أنكروا التقدير، وعلى هذا يكون حقيقة القدر التي وقع فيها النزاع هي ما قدره الله تعالى من مقادير العباد، أي: ما قضاه الله وأبرمه وخلقه وشاءه من هذه الأعمال.
  2. الأصول الدينية التي تضمنها القدر

     المرفق    
    ثم أخذ يعرف القدر ليدل بالتعريف على الأصول العظيمة التي يتضمنها، فقال: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم] أي إذا قلنا: القدر فإننا نعني به التقدير المطابق للعلم، أي: ما قضاه الله سبحانه وتعالى وشاءه وأراده وخلقه وفق ما علمه وكتبه. إن هذا الركن العظيم من أركان الإيمان يتضمن أصولاً عظيمة جدير بنا أن نعلمها، وهي من خير وأشرف ما يعلم؛ لتعلقها بصفات الله سبحانه وتعالى.
    1. الأصل الأول: العلم بالأمور المقدرة

      قال المصنف: [أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم]، فالإيمان بالقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن الإيمان بالعلم، وهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر، وقد سبق الكلام عليها.
    2. الأصل الثاني: تقدير مقادير المخلوقات

      قال رحمه الله: [الثاني: أن التقدير -أي المطابق للعلم- يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها؛ فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، قال تعالى : ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[الفرقان:2] فالخلق يتضمن التقديرين: تقدير الشيء في نفسه بأن يُجعل له قدرٌ، وتقديره قبل وجوده] يعني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الشيء وقدّره -فعّله، من التقدير- فالجذر (ق د ر) إذا جاء منه الماضي (قدّر) فالمعنى: قضى وأمضى، وقد يكون المعنى: جعل له مقداراً، وكلا المعنيين تضمنه تقدير الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق المخلوق قدَّره في نفسه فجعل له قدراً، أي: كميةً وهيئةً وصفات معينة يختص بها، وكل ما خلقه عز وجل فقد قدره تقديراً، فلا يقع الشيء إلا في الوقت الذي قدر الله أن يقع فيه، وبالكيفية التي قدر الله أن يكون فيها: طولاً وعرضاً وارتفاعاً ووزناً، وحياة وموتاً؛ فيعيش الإنسان ويموت بقضاء وقدر.
      ومن ناحية أخرى (بقدر) أي: في زمن معين، وعمر معين، وحياة معينة... وهكذا، كل منهما يتضمن الآخر، أي: تقديره تعالى للأشياء متضمن لإيماننا بأنه هو الذي قدر كل شيء تقديراً مطابقاً لعلمه الأزلي القديم سبحانه.
      يقول: [تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدراً، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة] أي: قدَّره قبل وجوده ثم قدره في نفسه عند خلقه، فالله عز وجل قدر -مثلاً- أن يخلق فلاناً من الناس، وفي علمه سبحانه وتعالى أن تكون أمه فلانة وأبوه فلاناً في المكان الفلاني، وقدر عمره وطوله وشكله، فكل صفاته المختصة به قدرها سبحانه وتعالى من قبل، إذاً: هذا القدر الذي هو العلم والكتابة، والتقدير الذي بمعنى الخلق والفعل والإيجاد، يأتي مطابقاً لما علمه سبحانه وتعالى عن خلقه، فيخلقه سبحانه وتعالى مقدراً إياه بتلك المقادير المطابقة للعلم السابق. فهذا يتضمن أنه علمه، وأنه خلقه وأوجده وفق علمه تعالى.
      [فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فالقدر يتضمن العلم القديم، والعلم بالجزئيات].
      فكأنه رحمه الله جعل الأصل الأول: تضمن القدر للعلم الكلي القديم.
      والأصل الثاني: تضمنه للعلم التفصيلي، وأخذنا العلم التفصيلي من التقدير؛ لأن تقدير الهيئات والكيفيات لا يكون إلا علماً يستلزم العلم الجزئي التفصيلي، وليس العلم الكلي.
    3. الأصل الثالث: الإخبار به قبل وجوده

      قال المصنف عن الأصل الثالث: [أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يُعْلِمَ العبادَ الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً] أي: أن مما يدل عليه أصل الإيمان بالقدر أنه سبحانه وتعالى أخبر بذلك، وأظهره قبل وجود المخلوقات، وأطلع العباد على بعضه لا كله، فلا أحد أبداً يطلع على علم الله الكلي، لكنه عز وجل يطلع بعض العباد على ما يشاء كما قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27] وحتى غير الرسل، فقد يطلع الله سبحانه وتعالى بعض خلقه، قال تعالى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ))[البقرة:255] ومما يشاء الله أن يطلع عليه العباد كافرهم ومؤمنهم (الرؤيا)، وقد سبق أن قلنا: إن رؤيا الكفار قد تقع وتكون حقيقة، ومثل ذلك في القرآن -في سورة يوسف- رؤيا الملك على القول بأنه غير مسلم؛ وقد ورد عن مجاهد رحمه الله أنه كان مسلماً، لكن الذي يظهر أنه حتى وإن كان مسلماً فربما أنه لم يسلم إلا بعد أن دعاه يوسف عليه السلام إلى الإسلام والله أعلم.. بل حتى فرعون، لما جعل الناس شيعاً وبالذات بني إسرائيل، قال تعالى: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ))[القصص:4] وهم بنو إسرائيل، كان ((يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))[القصص:4]، فلماذا كان يقتل الذكور دون الإناث؟
      الذي يظهر أن ذلك كان بسبب رؤيا رآها، وقال بعضهم: أخبره منجمون، لكن الأقرب أنها رؤيا رآها؛ أن غلاماً يولد من بني إسرائيل، يكون زوال ملكه على يديه، أو نحواً من ذلك، ومثل هذا قد وقع.
      والأمثلة على ذلك كثيرة، فهو عز وجل يطلع بعض عباده بالرؤيا، أو بالإخبار أو الوحي بشيء من الغيب، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عباده، كما أخبر عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأمور عجيبة غريبة ما كان أحد يصدقها ولا تخطر له على بال؛ منها أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي، الذي كان مستضعفاً في مكة، ثم فر بدينه إلى المدينة وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولا كان مؤرخاً يتوقع سقوط أمم وقيام أخرى.. كيف يقول صلى الله عليه وسلم قول الصادق الجازم المتيقن: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله !}؟ من يستطيع أن يقول: إنه قال هذا لأنه مؤرخ أو مفكر، أو حكيم ينظر في أحوال الأمم؟ ويستنتج أنها سوف تسقط، وأن خزائنها ستنفق في سبيل الله، وأن هذه الأمة المستضعفة سيورثها الله تعالى الأرض، وتتمكن من هاتين المملكتين الكبيرتين التي ما كان العرب يعلمون إلا القليل عنها، أما التفكير في أن يزيلوها أو يحكموها، فقد كان بالنسبة لهم أبعد من المحال، وتحقق ذلك كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، وما أكثر ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال الذي هو (شر غائب ينتظر) فقد وصفه وصفاً دقيقاً فإذا خرج عرفه كل من علم وصف النبي صلى الله عليه وسلم له؛ حتى وإن اتبع الدجال.
      وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمور مستقبلة كثيرة فمنها ما وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم ومنها ما سيقع كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.. وهذا من إطلاع الله تعالى له.
      وهذا دليل على أن هذا الأمر مقدر مكتوب موجود من قبل، فيقول رحمه الله: [أنه يتضمن أنه أخبر بذلك، وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد بالأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم؛ فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو؟] سبحانه وتعالى ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14] فالله سبحانه وتعالى يعلم الغيب كله.. دقيقه وجليله، فإذا أعلم بعض خلقه بأمور ووقعت كما أعلمهم كان هذا دليلاً على أن هذا مطابق لعلمه سبحانه وتعالى، ولهذا ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف في إثبات القدر قال: [[ألا تقرءون قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] ولا يكون النسخ إلا عن أصل]].
      فنحن نعمل والملائكة كل يوم تكتب ما نعمل، كما أمرها الله سبحانه وتعالى، لكن العرضة الأخيرة عندما يعرض على الإنسان عمله تؤخذ من اللوح المحفوظ، ففي كتاب الملك إذا أذنب العبد ثم استغفر منه، فإنه يمحى عنه الذنب، أو أنه لم يكتبه الملك ينتظر أن يستغفر، أو انتظره فلم يستغفر فكتب، فإذا كان العبد يعمل الصالحات، وربما يذنب ويعصي ثم يتوب، ثم ارتد -عياذاً بالله- فعندها يتحول ديوانه تحولاً كلياً، فالوضع الذي استقر عليه في النهاية هو ما في أم الكتاب، وعند الحساب تأتي الملائكة بالنسخة المطابقة لما في اللوح المحفوظ، ولهذا تقول الملائكة: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] وفهم بعض السلف من الآية أنهم لم يكونوا يكتبون أعمالهم، وإنما يستنسخون ما في اللوح المحفوظ، والنسخ إنما يكون عن أصل، وذلك عندما يطلعهم الله تعالى على ديوان كل إنسان، فينقل كما هو؛ لأنه لم يخرج عمله وسعيه عما فيه، فإذا كان عز وجل يُعلِم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو تبارك وتعالى؟!
    4. الأصل الرابع: الاختيار لما يفعله سبحانه والإحداث لما يشاؤه

      قال رحمه الله: [الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته] فهو عز وجل يقدر الأمور تقديراً مطابقاً لعلمه، فقولنا -نحن المؤمنين- نؤمن بالقدر، أي: بما قدره الله تعالى بمراتبه الأربع، والتي آخرها أنه يخلق خلقاً مطابقاً للمرتبة الأولى، أعني: مرتبة العلم، يتضمن أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، قال تعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ))[القصص:68]... ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107]... ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ))[البقرة:253] فكل شيء بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، وهو يفعل ما يشاء، ولا يستطيع أحد أن يحد من إرادته أو مشيئته، فلا راد لما كتب وقدر، ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وأما الذين أنكروا عموم مشيئته وإرادته، وأنه لا يريد من أفعال العباد ما كان شراً فإنما أتاهم هذا القول لشبهة كانت في أذهانهم، وقد جليناها فيما مضى، وهذا هو مما يتعلق بـالقدرية .
      أما الفلاسفة ومن حذا حذوهم من غلاة الجهمية، فإنهم تجرءوا أكثر من ذلك، فقالوا: إنه تعالى غير مريد ولا مختار ولا يشاء، فإذا قيل لهم: إذاً كيف وُجِدت هذه المخلوقات؟ قالوا: إنها لازمة لذاته، أي أن أفعاله لازمة لذاته، والكون صدر عنه صدور المعلول عن العلة، فيجعلونه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- علة تامة اقتضى وجودها وجود معلولها، فلا يثبتون له عز وجل مشيئة ولا إرادة، مثال -ولله المثل الأعلى- أن الشمس عندما تسطع على الماء فإنه يتبخر شيء منه بفعل الحرارة، وحينئذٍ يقولون: إن هذه الحرارة علة والبخار معلول، والشمس أو الحرارة لا علم لها، ولا تدري أنها تبخر أو لا تبخر، فجعلوه سبحانه وتعالى مجرد علة في وقوع الأشياء كالجماد، وهذا الكون جاء عن طريق هذه العلية، وجعلوا أفعاله لازمة له، أي أنها بطريق اللزوم لا بطريق الإرادة والاختيار، ومن اعتقد ذلك فقد كفر بالله العظيم الذي أخبرنا في كتابه في مواضع لا تحصى، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم كما أثر عنه في سننه، بل وتخبر عنه العقول والفطر في كل زمان ومكان: أنه يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء سبحانه وتعالى.
      نجد أن من الأشياء ما يكون مخالفاً لما يظنه الناس قوانين مطردة، وما ذلك إلا لحكمة وفائدة ومنها التنبيه على هذا، فالكون كله لا يجري على وتيرة واحدة، والأحداث لا تجري على نمط واحد فالنار من طبيعتها أنها تحرق، لكن وجدنا نار إبراهيم عليه السلام لما ألقي فيها لا تحرق،ولو أن النار تحرق بذاتها، لما تخلفت عن إحراق سيدنا إبراهيم عليه السلام، لكن الله عز وجل إذا شاء منع هذه الأسباب؛ لأنه خالق هذه الأسباب. وأن العلل والمعلولات والأسباب والمسببات خاضعة لإرادته ومشيئته تعالى.
      وقس على ما ذكرنا أموراً كثيرة جداً، فما كان من كرامات للصالحين والأولياء من عباد الله، وما كان من آيات وبراهين للأنبياء والرسل، فهو من هذا القبيل.
      ومن ذلك عصا موسى عليه السلام، فقد كانت كما قال تعالى: ((قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى))[طه:18] ففصل موسى في ذكر منافع العصا ليحصر منافعها في ذلك، وأنها ليست إلا لما ذكره، وذكر بعض السلف الدافع لهذا التفصيل: أنه من لذة وحلاوة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، وهذا حق. فهو يريد أن يناجي ربه ويأنس به ويتكلم معه أكثر، فأطال، كما لو كلمك إنسان عظيم تحبه -ولله المثل الأعلى- فإنك تطيل معه الحديث لتكون الصلة والمحبة بينك وبينه أكثر، ولذلك فإنك ترتاح لحديثه وتشتاق لكلامه.
      وهذا حق، لكن التفصيل جاء ليحصر منافع العصا على ما هو معهود عند الناس وأنها لا تعدو ذلك، وقد كانت عصا موسى مثل عصا غيره من رعاة الغنم، فقال: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، فإذا رأى الناس هذه العصا تتحول إلى حية تسعى فهذا شيء عظيم وخارق للعادة، فكيف إذا كانت تلقف وتبتلع ما أتى به السحرة الكذابون الدجالون من العصي والحبال التي خيلوا للناس أنها تحولت إلى حيات وثعابين، تلقفها؛ جميعاً ولا يبقى لها أثر؟ هذا أعظم وأبلغ إعجازاً.
      أي: أن نفس المادة المسحورة -كما يقال في بيان حقيقة السحر- فقدت بذاتها، وهذا دليل على أن هؤلاء السحرة كذبة لا أصل لسحرهم على الإطلاق، وأن هذه آية عظيمة، فكيف يكون هذا؟ نقول: لأن الله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، ومثل هذا عندما أمره الله عز وجل أن يضرب البحر لما قال له أصحابه: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] فقال: ((كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] فضرب بها البحر امتثالاً لأمر الباري تعالى فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ليمر منه وأصحابه، ويغرق فيه فرعون وجنوده، هذا لا يمكن أن يكون بالأسباب المعتادة والعلل والمعللات المطردة؛ لكن الله يفعل ما يشاء.
      ومن مشيئته تعالى أن رزق إبراهيم وزكريا عليهما السلام ذرية بعد أن بلغا من الكبر عتياً ويئساً من أن تلد زوجتاهما لفرط الكبر! أليس هذا من دلالات قدرة الله تعالى ومشيئته وأن كل الأسباب والعلل والمسببات والمعلولات خاضعة له جل وعلا؟!! بلى.
      فكل ما نراه في الكون له قوانين مطردة، فإنه لا يخرج عن قدر الله؛ فالقانون من قدر الله، ولذا إذا شاء الله غيَّر هذا القانون كما يشاء، وقس على ذلك كل ما يقع لعباد الله الصالحين إلى قيام الساعة مما هو خارج عن هذه القوانين أو السنن الكونية؛ لأن كل ذلك من الله وبمشيئته عز وجل.
    5. الأصل الخامس: أن الله يخلق وفق ما قدره

      قال: [الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن؛ فإنه يقدره ثم يخلقه]. أولاً: الذين يقولون بقدم العالم وأن المخلوقات أزلية لا أول لها؛ إيماننا بالقدر يكذبهم، فمن يؤمن بالقدر لا يمكن أن يؤمن بأن العالم أزلي لا أول لوجوده. لأن إيماننا بأن الله: كتب المقادير بعد علمه بها، ثانياً: خلق الله الأشياء وفق تلك المقادير، ووفق ذلك العلم، وفي هذا دليل على أن كل هذه المخلوقات محدثة مخلوقة ليس شيء منها لا أول لوجوده، فإن الأول والآخر والظاهر والباطن هو الله سبحانه وتعالى، أما غيره فلا يشاركه في هذه الصفات مطلقاً.