المادة كاملة    
علم الله تعالى هو المرتبة الأولى من مراتب القدر؛ فلا بد من الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وأن علمه سبحانه وتعالى يشمل الكليات والجزئيات، وأن علم الغيب مختص به سبحانه، لا يشاركه فيه أحد، وقد ضل في هذا الباب فرق وطوائف كثيرة، منها من زعمت أن غير الله تعالى يعلم الغيب؛ كالمشركين والصوفية والرافضة، ومنها من أنكرت علم الله تعالى بالجزئيات؛ كالفلاسفة والصابئة.
  1. أهمية الإيمان بعلم الله تعالى وبيان من ضل فيه من الطوائف

     المرفق    
    إن علم الله تعالى هو المرتبة الأولى من مراتب القدر، فإن كل إنسان مؤمن بالله سبحانه وتعالى، عارف به عز وجل -ولو على سبيل الإجمال- من أصحاب الملل جميعاً؛ لابد أن يؤمن بأن الله تبارك وتعالى عليم، فكل من آمن بأن لهذا الكون إلهاً خالقاً محيياً مميتاً، فلابد أن يؤمن بأنه عليم؛ لأن ما في هذا الكون من موجودات دليل قاطع على إله عليم، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14].
    فلازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، وإلا فكيف يخلق وهو لا يعلم ما يخلق؟!
    ولا سيما إذا علمنا أن معبود أي عابد يمثل في ذهنه الكمال المطلق من جميع الوجوه، والمنزه من جميع العيوب؛ إذ لو كان فيه عيب لما عبده، ولرأى أن غيره ممن لا عيب فيه أولى منه.
    ولذلك فكل من أراد أن يصف الله سبحانه وتعالى، فإن من أكمل الصفات، ومن أوجب صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وألزمها: الإيمان بأن الله تعالى عليم، ومن هنا كان الخلاف في صفة العلم خلافاً عظيماً جداً، فهو مفرق طريق بين الإيمان وبين الكفر، وقد ذكرنا أن من أنكر علم الله تعالى من القدرية هم القدرية الغلاة، وهم كفار. وقد أخذوا دينهم من الملل والطوائف الأخرى الذين أنكروا علم الله تعالى.
    1. ضلال المشركين والصوفية والرافضة في مسألة علم الله تعالى

      يقول المصنف رحمه الله: [وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم، وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به، وكتابة مقادير الخلائق.
      وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم]، أمم وطوائف ضلوا في الإيمان بعلم الله وكتابته. وهم قد ضلوا في كثير من الأمور إلا أنه يجمعهم الضلال في هذا الأمر.
      فمنهم: المشركون الذين يزعمون أو يدَّعون لآلهتهم ومعبوداتهم العلم المطلق، فإن بعض الطوائف تدعي أن معبودها -أو من تعظمه- يعلم الغيب؛ سواء نفت ذلك عن الله تعالى وجعلته لذلك المعبود، كما تفعله بعض أمم الشرك في الأرض قديماً وحديثاً، أو جعلوا له العلم المطلق -أو علم الغيب- مع إيمانهم بعلم الله تعالى، أي: أشركوا بالله في صفة من صفاته، فجعلوا هذه الصفة التي هي من خصائص الألوهية لذلك البشر، وهذا ظاهر وموجود حتى في هذه الأمة، فإن من المنتسبين للإسلام من هذا دينه وديدنه؛ فإن منهم مَنْ جعل علم الغيب المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء البوصيري صاحب البردة حين قال:
      فإن من جودك الدنيا وضرتها            ومن علومك علم اللوح والقلم
      فجعل علم اللوح والقلم -وهي الكتابة التي هي مقتضى العلم ومطابقه- جعلها جزءاً من علوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان وما هو كائن وما سيكون، قال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12]، فمعنى البيت: أن معرفة كل شيء جزء من علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح -نسأل الله العفو والعافية- وليس بعد هذا الغلو في هذه المسألة من غلو.
      ومنهم من نسب ذلك إلى الأولياء، وما أكثر ما ينسب الصوفية ذلك إلى أوليائهم، فإن القادرية تدعي ذلك لـعبد القادر الجيلاني، والأحمدية البدوية تدعيه لـأحمد البدوي، والأحمدية الرفاعية تدعيه للرفاعي، فهم يزعمون أن الله تبارك وتعالى قد أنابهم ووكلهم، وفوض إليهم تصريف السموات والأرض، وأطلعهم على علم الغيب!!
      ومن أشهر الفرق التي ضلت في هذا السبيل الروافض ؛ فإن كتبهم تصرح بأن أئمتهم يعلمون الغيب؛ فهم يعلمون ما كان وما سيكون، وقد جعل صاحب أصول الكافي لذلك باباً، فقال: باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون.. إذاً ماذا بقي لرب العالمين سبحانه وتعالى؟!!
    2. بيان اختصاص علم الغيب بالله تعالى وشموله للكليات والجزئيات

      فهذه الفرق ضلت في هذا الأمر، وهي لم تنكر علم الله، لكنها أشركت مع الله سبحانه وتعالى غيره في علم الغيب المطلق، الذي هو من خصائص الألوهية، والله تبارك وتعالى يقول: : ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59]، وتقديم الظرف دليل على الاختصاص، أي أنه مختص به وحده، فهذه الآية -وغيرها كثير- تدل على اختصاص الله تعالى بعلم الغيب، كما قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26].
      وهذا الغيب يشمل الجزئيات كما يشمل الكليات؛ لأنه ذكر الحبة والورقة والرطب واليابس، وليس بعد هذا من شيء .. فكل شيء يعلمه الله، حتى قطرات المطر، فإنه سبحانه يعلم أين ستقع كل قطرة من قطرات المطر، ويعلم موقع كل ذرة من ذرات الرمال، فهي من اليابس المذكور في الآية، ويعلم ذرات بخار الماء مهما دقت وصغرت، وهو من الرطب، يعلم سبحانه وتعالى أين هي، وهل هي في جوف إنسان أو حيوان يتنفس، أو على ورقة، أو في باطن الأرض، أو هي في الفضاء، فلا يخفى على الله شيء أبداً، فهو مختص بهذا العلم.. علم الكليات والجزئيات، وهما سيان عنده سبحانه وتعالى.
  2. الصابئة عقدياً وتاريخياً

     المرفق    
    وممن ضل في هذه المسألة: الفلاسفة والصابئة، فقد أنكروا علم الله سبحانه وتعالى بالجزئيات.
    1. بيان أن كل من اتبع نبياً فهو على حق

      والصابئون علم على أمة ورد ذكرها في القرآن، كما في قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))[البقرة:62]، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية هذه الأصناف الأربعة: الأول: المؤمنون، وهم كل من آمن بالرسل، ولكن يختصون كثيراً بمن اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، الثاني: الذين هادوا، ولم يقل: اليهود؛ وذلك لأن الذين هادوا هم الذين قالوا: ((إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ))[الأعراف:156] فهم الآيبون التائبون العائدون إلى الله؛ لأن (هدنا) بمعنى: تبنا أو عدنا؛ فإن أصول اللغة العربية والعبرية متقاربة، وهذه الكلمة مما هو مشترك بين اللغتين، فالله عز وجل أراد هنا الآيبين إلى الله، لا اليهود كلهم.
      الثالث: النصارى، وهم الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، الرابع: الصابئون.
      وإذا نظرنا إلى ظاهر الآية -بغض النظر عن اختلاف العلماء في تفسيرها- فهمنا أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره ولا يحبط عمله، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليه ولا هو يحزن، وله العاقبة الحسنى، وعمله مقبول ما دام مؤمناً بالله واليوم الآخر، عاملاً بالصالحات، سواء كان من الذين آمنوا أو من الذين هادوا أو من النصارى أو من الصابئين، وبناءً على هذا: فإن كل من آمن بنبي من الأنبياء، واتبع شرعه ودينه الذي جاء به؛ فإن الله تعالى لا يضيع عمله، سواء اتبع موسى وهم الذين هادوا، أو اتبع عيسى وهم النصارى، أو اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وهم الذين آمنوا.
      إذاً: من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم مؤمناً بالله واليوم الآخر، عاملاً للصالحات، فله أجره عند ربه ولا خوف عليه ولا هو يحزن، وهكذا من اتبع موسى وكذلك عيسى عليهما السلام.
      والذي يترجح من هذا ويظهر أن الصابئين هم من اتبع نبياً من الأنبياء، وعبد الله على شريعته، ولقي الله مؤمناً به غير مشرك، عاملاً بالأعمال الصالحة.
      وقد اختلف السلف والمفسرون رحمهم الله في معنى الصابئين، ولعل مرجع الاختلاف هو أنهم نظروا إلى أن الصابئين عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانت تطلق على كل من فارق دينه إلى دين آخر، لكن لو نظرنا إلى الصابئين بغض النظر عن هذا، فإن كل نبي اتبعه قوم مؤمنون فإنهم مقبولون عند الله.
      والذي يترجح أن الصابئين هم مَنْ عبد الله على دين إبراهيم عليه السلام، وقد قال بعض السلف : إنهم قوم من أهل الكتاب يقرءون الزبور، والزبور إنما أنزله الله عز وجل على داود، قال تعالى: ((وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا))[النساء:163]، لكن الراجح أنهم من آمن بصحف إبراهيم عليه السلام؛ لأن داود عليه السلام كان من قوم موسى، من بني إسرائيل، ومن أتباع شريعة التوراة.
    2. الصابئون عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

      إذاً: سبب الخلاف هو أنهم نظروا إلى الصابئين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبل مبعثه أيضاً، فإن الصابئين -من الناحية الجغرافية التاريخية- قوم يسكنون في بلاد الشام في جهة حران شمال العراق، ولذلك يقال لهم: الحرانيون، أو الحرنانيون.
      ففي ذلك الوقت عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى عند مبعث موسى وعيسى عليهما السلام، وإلى اليوم يوجد منهم بقايا وهم كفار مشركون، كما أن اليهود والنصارى كفار مشركون.
      لكن المقصود من الآية: أن كل من آمن بنبي واتبعه فهو مقبول عند الله، أما من ابتدع وانحرف ووقع في الشرك من أتباع أي نبي كان؛ فهو كافر مشرك. فرسالة إبراهيم عليه السلام -مثلاً- من آمن بها واتبعها فهو مؤمن، أما بعد أن بعث الله تعالى موسى في بني إسرائيل، فيجب على كل أحدٍ من بني إسرائيل أن يؤمن بموسى، وأن يتبع دينه، وبعد أن أرسل الله تعالى في بني إسرائيل عيسى عليه السلام، وجب على كل إسرائيلي أن يؤمن به، وبعد أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، وجب على كل من بلغ من البشر أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. ولو أن رجلاً آمن بعيسى عليه السلام على التوحيد الذي جاء به، ثم أدرك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فآمن بها، كان له أجره مرتين، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من اتبع نبياً وبقي على التوحيد الذي جاء به نبيه، فإذا بُعِث بعده نبي ناسخ لشرعه، وجب اتباع شريعة ذلك النبي الناسخ.
    3. الصابئة هم عبدة الكواكب وأرباب السحر

      إذاً: الصابئون أمة موجودة في جهة حران، ويعبدون الهياكل وهي الكواكب، وعلمهم التنجيم، وهذا مما يرجح أنهم قوم إبراهيم عليه السلام؛ لأن إبراهيم عليه السلام في مناظرته لهم -كما في سورة الأنعام- يتبين أنهم كانوا يعبدون الكواكب، قال تعالى: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ))[الأنعام:76] إلى آخر الآيات.. فهم قوم يعبدون الكواكب، ويسمون عبدة الكواكب، أو الهياكل، فقد بنوا هياكل للمشتري والمريخ والزهرة وعطارد وعبدوها من دون الله.
      ثم أخذوا يتعلمون التنجيم، وبقوا على ذلك في الإسلام، وهم معروفون في التاريخ الإسلامي، ومنهم الأديب أبو هلال الصابئ، وقد كان موجوداً أيام الدولة العباسية، ومن أشهر من ذكر منهم في التاريخ الإسلامي أبو معشر المنجم -وهو من المشهورين بالتنجيم- وهو الذي ورَّث هو وأصحابه علم التنجيم، وضرب الرمل، والتعلق بالهياكل وبعبادتها -ورثوا ذلك لمن أخذه عنهم من ضلال الصوفية وأمثالهم، ولهذا نجد أن كتب التصوف التي اعتنت بالسحر والشعوذة والدجل ينتهي سندها إلى الصابئين، كما فعل البوني صاحب شمس المعارف، وأمثاله، ثم إنهم ينسبون علومهم تلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى آل البيت، وحاشاهم من ذلك! وإنما هي في الحقيقة من علوم الصابئين الذين مزجوا بين التفلسف وبين عبادة الأصنام والهياكل وبين التنجيم.
    4. الصابئة عند الشهرستاني هم الروحانيون

      ومن أكثر من تحدث عن الصابئين وأطال الحديث فيهم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل، وقد عقد مناظرة بين الصابئين وبين الحنفاء، وعلى مذهبه فـالصابئون هم الرَّوحانيون أو الرُّوحانيون -يجوز الأمران كما قال الشهرستاني- وهم عبدة الهياكل، وهم الذين لا يؤمنون بالأنبياء ولا بالماديات، وإنما هم روحانيون يتعلقون بالروحانيات.
      فمن أسباب كفرهم -عياذاً بالله- وتكذيبهم للأنبياء: أن الأنبياء بشر ماديون، وهم لا يعترفون إلا بالعوالم الروحانية، فيبنون الهياكل الدنيوية للعوالم الروحانية بزعمهم! ولهذا فإنهم قد يعبدون الملائكة، وقد يطلق عليهم عبَّاد الملائكة.
      وقد ذكر ذلك بعض السلف، كما في تفسير الإمام الطبري أو ابن كثير، فمن السلف من قال: هم قوم يعبدون الملائكة، ومنهم من قال: هم من أهل الكتاب، ومنهم من قال: هم قوم لا يدينون بدين، فليسوا من المجوس، ولا من اليهود، ولا من النصارى، وإنما هم على فطرتهم، يقولون: لا إله إلاَّ الله، ويقرون بالله عز وجل، ويوحدونه، ولا يتبعون أي دين، وهذا القول هو الذي رجحه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، ورجح بعض السلف أنهم من المجوس أقرب.
      ولا خلاف في الحقيقة بين من قال: إنهم أقرب إلى المجوس، أو أقرب إلى أهل الكتاب، أو عبدة الملائكة، أو الكواكب، فكل هذا قد وقع بعد انحرافهم، ومن قال: إنهم مؤمنون وليسوا يهوداً ولا نصارى، ولا مجوساً، فيعني: ما كانوا عليه قبل ذلك، فقد كانوا على دين إبراهيم عليه السلام.
      والمعنى الآخر الذي قد يفهم من كلام ابن كثير رحمه الله وغيره: أن هؤلاء قد يكونون أشبه بأهل الفترة، فما عرفوا الله، ولا عرفوا رسولاً، ولا عرفوا شريعة، لكنهم مؤمنون بفطرتهم وعقولهم بأن لهذا الكون إلهاً واحداً، وأنه وحده مستحق للعبادة، لكن ليس لهم دين يدينون به.
      وحالهم في هذا يختلف عن حال الصابئين الموجودين فعلاً، حتى الذين كانوا موجودين في عهد الشهرستاني، فإنهم كانوا يعبدون الكواكب ويشتغلون بالتنجيم، وقد اشتهر عنهم نفيهم للصفات، وعنهم تلقى بعض نفاة الصفات مذهبهم.
    5. الصابئون في التاريخ الأوروبي

      وهذا الاتجاه وهو: الإيمان بإله من غير اتباع دين، هو اتجاه عالمي موجود في الأديان القديمة وفي العصر الحديث، والآن يوجد لهذا الاتجاه أتباع في أوروبا، وقد كثر أتباعه في القرن الثامن عشر بعد أن ظهرت الكشوفات العلمية -وخاصة نظرية نيوتن - فمن خلال ما عرفوه عن الأرض وعن المجموعة الشمسية، وعن الجاذبية؛ تبين لهم كذب وتناقض ما في أناجيلهم، فكفروا بـالنصرانية، ولم يدخلوا في اليهودية؛ وذلك لأنهما شيء واحد، فإن النصرانية تؤمن بالتوراة، وكذلك فإن اليهودية لن تقبلهم، ولم يسلموا، فقد منعهم من ذلك الكبر، ومنعتهم دعاية البابوات التي غطوا بها أوروبا طوال قرون كثيرة، وهي أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كذاب ودجال ومفترٍ، فوصفوه بأقبح ما يمكن من الصفات، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك! وأن المسلمين أحط أمة، وأنهم وثنيون ومشركون... إلخ، فرأوا أن يتدينوا بهذا الدين، وهم مشهورون جداً، ومعروفون في التاريخ الأوروبي.
      ويسمون بـالمؤلهين، أي: الذين يؤمنون بإله، لكن ليسوا على دين النصارى، وبعضهم يترجمها فيقول: الربوبيون، أي: الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية، فيؤمنون بالرب لكن لا يتدينون بالدين الذي جاء به، وهذا المذهب اسمه في لغتهم (الدايزم )، أي: الإيمان بإله مع إنكار الشرائع، أو مع إنكار الوحي والرسالات.
      ومن أمثلتهم: جان جاك روسو، العالم الشهير في علم التربية والسياسة والاقتصاد، وغيرها من العلوم.
      ومنهم: الأديب والشاعر الفرنسي فولتير، ومنهم: الكاتب الفرنسي المشهور ديدرو، صاحب الموسوعة، وهي أول موسوعة علمية حديثة عرفها الغرب، وأمثالهم.
      يقول هؤلاء: إن الإله الذي تؤمن به الكنيسة لا وجود له، فلا يمكن أن نصدق أن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وأن هذا الواحد نزل إلى الأرض فقتل وصلب! وأيضاً لا يمكن أن نصدق أن هذا الكون جاء من غير إله. قالوا: إذاً نؤمن بإله الطبيعة، ولهذا اعتزل روسو في مقاطعة سافوي، وكتب كتاب راهب سافوي، ويعني به: أنا راهب الطبيعة، لست منعزلاً في صومعة كرهبان النصارى، بل منعزل في أحضان الطبيعة، ويعبد هذا الرب الذي يقول عنه: نؤمن به ولم يكلفنا بأي التزامات، بل تركنا نعبده ونخطط كما نريد، ولهذا قال: نضع بديلاً عن الدين وعن الشريعة شريعة يصطلح عليها البشر، فوضع مبدأ العقد الاجتماعي، وألف كتابه : العقد الاجتماعي . ولهذا فإن نظريات الحكم الحديثة، ونظريات الاقتصاد والتربية، تعتمد على هذه النظرية أو تذكرها -على الأقل- كتاريخ، وهي نظرية العقد الاجتماعي.
      إذاً: هؤلاء ممن يمكن أن نسميهم بهذا المفهوم الصابئين؛ وذلك لأنهم تركوا ما عليه أقوامهم من الدين، ولم يتبعوا أي شرع.
      وقريش عندما كانت تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم الصابئ، وكانت تسمي أتباعه الصُباة، كانت تعني بذلك هذا المعنى، أي: الذين خالفوا ما عليه الناس من دين.
    6. طائفة السيخ أصلها فرقة صابئة

      وهناك دين في الهند أصله ناشئ عن هذه الفكرة الصابئة، وهي الاعتراف بإله واحد يعبد دون الالتزام بشرع من الشرائع، هذا الدين هو دين السيخ، أو السيك، فإن أصل هذا الدين: أن رجلاً من الهندوس -وهم عبدة الأبقار- اسمه: نانك، هذا الرجل كان هندوسياً، ثم أخذ يفكر فوجد أن هذا الدين باطل؛ إذ كيف يكون البراهمة خلقوا من رأس الرب، والكاشتر خلقوا من ذراع الرب، والويش خلقوا من فخذ الرب، والشودر خلقوا من قدم الرب؟! أربع طبقات متمايزة، وكيف تكون البقرة إلهاً؟! أمور لا يقبلها العقل!!
      فكَّر في هذا فوجد أن هذه وثنية لا تليق، وقال: لابد أن يكون لهذا الكون إله حق يعبد، فقال له بعض الهندوس: إنك كافر بدين الهندوس، وكلامك قريب من كلام المسلمين.
      فبدأ يبحث حتى جاء إلى بلاد الإسلام، وقيل: إنه ذهب إلى كربلاء، وقيل: إنه وصل إلى مكة أيضاً، وأخذ يطوف في الهند وباكستان وهو يبحث عن الدين الإسلامي.
      ومع ذلك لم يعتنق الإسلام؛ وذلك لأنه خرج من دين الهندوس الذين يعبدون البقر، فوجد المسلمين يعبدون الأصنام وهي القبور.. فسأل: لماذا تفعلون هذا؟ فقالوا: نحن لا نعبدها؛ لأننا مسلمون، إنما هي واسطة بيننا وبين الله. فقال: كذلك الهندوس يقولون: هناك واسطة بين الإله وبين العباد، ثم سمع بمذهب الشيعة فذهب إلى كربلاء، فإذا الشرك الأكبر!! ثم وجد شيخاً من مشايخ الطرق الصوفية اسمه: سيد حسين درويش، فقال له: عندي الدين الصحيح، وهو وحدة الوجود، فعلمه هذا المذهب القائل: إن الله هو الكون والكون هو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
      فقال هذا الرجل: نحن هربنا من عبادة اثنين وثلاثة وأربعة... في الهند والآن نعبد كل شيء! فلم يهتد إلى شيء، وفي الأخير قال: لقد عرفت الدين الصحيح، فوضع ديناً جديداً، ودعا أتباعه إليه، ويقوم هذا الدين على أن المعبود إله واحد لا شريك له، وليس مثل البشر، ولا يتمثل بالبشر، وليس هو أصنام ولا بقر... ثم أخذ يفصل لهم الشرائع، فأخذ بعض ما عند المسلمين، وبعض ما عند الهندوس، وبعض ما عند اليهود، وكتب من ذلك كتاباً يسيرون عليه، وبقي أتباعه أشبه بالفرقة الصوفية؛ لأن هناك تقارباً بينهم وبين القائلين بوحدة الوجود، وإن كانوا لم يقولوا بهذا القول كما هو، لكنها أصبحت كأنها فرقة من الفرق.
      ثم جاء الإنجليز المجرمون، الذين هم أجرم أمة في التاريخ قبل الأمريكان في السياسة والتخطيط، فعرفوا كيف يدمرون جميع الشعوب بالتفرق، فلما جاءوا إلى الهند أوجدوا القاديانية، والعليكرية، نسبة إلى جامعة عليكرة، وهي طائفة تتبع السير أحمد خان، وفرقوا بين الهندوس والمسلمين، وفرقوا بين طبقات الهندوس، وفرقوا بين المسلمين مع بعضهم، فوجدوا هذه الفرقة -السيخ- فتبنوها وأيدوها، وقد كانوا يعيشون في مناطق جبلية وعرة، فجاء أحد خلفائهم وقال: لابد أن نترك اسم الراهب -وهو الاسم الذي كانوا يتسمون به- ونتسمى بـ(سنق) وهو الأسد، فنحن الآن أسود، فحولهم إلى جماعة محاربة، فأقلقت الدول إلى اليوم، فأصبحوا من أشد الناس عتواً وحرباً وجلاداً.
      الشاهد: أن أصل دينهم هو نانك الصابئ الذي قال: أؤمن بإله واحد، ولا أتقيد بأي شريعة، بل أضع ديناً يخالف جميع الأديان، فوضع لهم ما أراد من الشرائع.
      مما سبق نستطيع أن نقول: إن هؤلاء الذين خالفوا أديان الناس، وتعبَّدوا الإله بلا دين وبلا شرع معين، هم من الصابئين.
    7. التعريف العام للصابئة

      وبهذا التعريف العام لكلمة (صابئ)، يدخل تحتها كل من كان كذلك، ويدخل تحتها أصحاب الفترات، وأصحاب الجزر النائية، أو المناطق البعيدة، ممن قد يؤمن بالله أو بإله واحد لكن لا يعبده بشيء.
      ثم بعد ذلك منهم من يكون على الحق ومنهم من يكون على الباطل، فعلى التعريف الأول: من كان ملتزماً بما في صحف إبراهيم عليه السلام متبعاً لها، فهو مؤمن وعلى الحق، ومن وقع في الشرك -كما هو حال الصابئة اليوم ومنذ عصور طويلة- فهو مشرك وإن انتسب إليها وسمى نفسه صابئاً.
    8. إنكار الصابئة لعلم الله بالجزئيات

      وقول الصابئة في مسألة علم الله كقول الفلاسفة، فإنهم بحكم تعلمهم للحكمة -كما تسمى- أو الفلسفة، واطلاعهم على كتب التنجيم والسحر وكتب الفلك، اطلعوا على كتب اليونان والرومان، وبعضهم من أصول يونانية ورومانية أيضاً؛ فاختلطت وامتزجت هذه العلوم لديهم، فأصبح كلامهم فيه كثير من كلام فلاسفة اليونان.
      فمما اتفقت فيه عقيدتهم مسألة إنكار علم الله تعالى بالجزئيات، وإثبات علمه بالكليات فقط، وعلى هذا الفلاسفة .-
  3. إجماع الفرق الإسلامية على تكفير الفلاسفة

     المرفق    
    إذا أطلق مصطلح الفلاسفة فإنه يشمل الإسلاميين وغير الإسلاميين، فتطلق على أفلاطون، وأرسطو، وفورفوريوس، وفيثاغورس، وسقراط، وكل من له قول في الفلسفة، ثم تطلق على من اتبعهم ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويقال لهم: الفلاسفة الإسلاميون، وهم مذاهب وأنواع.
    ومن أشهر الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام الرئيس أبو علي بن سينا، والفارابي، والكندي، والرازي الطبيب .
    وكل هؤلاء الفلاسفة كفرتهم جميع الطوائف الإسلامية، كـالمعتزلة، والأشعرية، وأهل السنة والجماعة، وقد تصدى لهم أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى بالرد في كتابه تهافت الفلاسفة، وقد رد عليه ابن رشد، في كتابه تهافت التهافت، لكن أكبر وأعظم وأشهر من رد عليهم هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة مثل: درء تعارض العقل والنقل والرد على المنطقيين، وأول كتاب منهاج السنة، فهو يكاد يذكرهم في كل كتبه ويدمر أصولهم.
    1. سبب تكفير الفرق الإسلامية للفلاسفة

      لقد اتفقت الطوائف والفرق الإسلامية على تكفير الفلاسفة بسبب أقوال وعقائد صدرت عنهم، منها: قولهم بقدم العالم، أي: أن العالم أزلي لا أول لوجوده. بمعنى: أن الله لم يخلق هذا العالم، هم يقولون: إن الله موجود، وكذلك هذا العالم موجود وجوداً أزلياً؛ فإن قيل: فكيف خلقه؟
      قالوا: فاض عنه فيضاً، أو صدر عنه صدور العلة من المعلول، وهذا كلام باطل.
      ومما كفروا به: قولهم بأن المعاد أو البعث روحاني لا جسدي، وهم في الحقيقة قد أولوا جميع أمور الدين، وأولوا معها أمور المعاد من الجنة والنار وغيرها، ولذلك يسمى بعضهم: أصحاب التخييل، وهم القائلون: إن الأنبياء صوروا للناس خيالات أو ضربوا لهم أمثالاً على أشياء لكنها غير صحيحة -عياذاً بالله من هذا الكفر والضلال- لذا كفرتهم جميع فرق الإسلام، وهم بتأويلهم هذا أشد كفراً من الباطنية، بل إنالباطنية في الحقيقة إنما أخذوا عقيدتهم منهم، فإن أشهر كتب الباطنية الإسماعيلية هي رسائل إخوان الصفا، وهي كلام فلسفي، بل حتى من ضل من المتكلمين من الأشاعرة كـالفخر الرازي، فإن كلامه أقرب إلى المتفلسفين.
      إذاً: الفلاسفة أصل من أصول الضلال، وقد قلدهم في ضلالهم طوائف من المسلمين.
    2. إنكار الفلاسفة لعلم الله تعالى بالجزئيات

      ومما كفروا به وأجمع المسلمون على تكفيرهم بسببه: القول الثالث: إنكارهم أن الله تعالى يعلم الجزئيات. قالوا: إنه تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
      أرسطو وأفلاطون أصحاب العقول التي عبدتها الإنسانية، وقدستها تقديساً عظيماً.. هذه العقول الكبيرة تقول: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، ولكن يعلم الكليات! وهذا القول ناشئ عن قولهم بأن الله لم يخلق هذا الكون، كما نعتقد نحن بأنه سبحانه وتعالى إله حكيم عليم قادر خلق هذا الكون، وكما هو دين جميع أتباع الأنبياء من اليهود والنصارى وغيرهم، فهم قد فارقوا جميع الملل؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة، وفي الجواب الصحيح إنَّ النصارى عندما تحولوا عن دين اليونان الفلسفي إلى النصرانية وإن كانت محرفة؛ فذلك أهون وأخف كفراً.
      بمعنى آخر: إذا تحول إنسان من أهل الكتاب إلى ملة أخرى فقد قال بعض العلماء: إنه يقتل؛ لحديث: { من بدل دينه فاقتلوه}، فإذا أقررناه على أن يكون نصرانياً فيجب أن يبقى نصرانياً، إلا أن يسلم، لكن أن يدخل في اليهودية فلا نقره، أما إذا تحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية فإنه يقر -وإن كان الكاثوليك يكفرون البروتستانت- لأن هذا أخف، وعليه أن يدفع الجزية ويبقى في ظل الدولة الإسلامية، لكن إذا تحول اليهودي أو النصراني إلى دين الفلاسفة، فإنه يقتل؛ لأننا لا نقر التدين بدين الفلاسفة، وإذا تحول فيلسوف إلى النصرانية فإننا نقره ونقبل منه الجزية، ويصبح من أهل الكتاب.
      إذاً: هناك فرق في التعامل الدنيوي، وإن كانوا كلهم كفاراً.
      إذاً: الفلاسفة أشد الناس كفراً، ومن كفرهم قولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات؛ لأنهم لا يقولون: إن الله خلق هذا الكون خلقاً -كما يقول بذلك جميع العقلاء من جميع الأديان- بل يقولون: صدر عنه صدور العلة من المعلول، أو فاض عنه... على اختلاف بينهم في ذلك.
      برر به معلمهم الأكبر أرسطو -لا بارك الله في علمه ولا فيمن اتبعه- قوله بأن الله لم يخلق الكون أن قال: إن الله كامل، والكامل لا يفكر بالناقص ولا يشتغل به، والكون ناقص، فلو علمه ودبر أحواله وشئونه لكان اشتغالاً بالناقص، فيجب أن ننزه الله عن ذلك. فأنكر أن الله عالم مدبر محيي مميت، يفعل في ملكه ما يشاء؛ بغرض أنه يريد أن ينزه الله!
      وقد استخدم هذه الشبهة كثير من الناس، يقول أحدهم: لا نؤمن بصفات الله، لأننا نريد أن ننزه الله، فليس له يد ولا عين ولا وجه... إلخ، فلا نقول: إنه يريد أن ينزه الله، ونعذره؛ لأن الكلام في هذه القضايا وأمثالها إن كان كفراً يقال عنه: كفر، وإن كان بدعة يقال عنه: بدعة، فإن كان له تأويل سائغ من النصوص الشرعية، وإلا فهو قول بالكفر المحض، أما أن نقول: إنه حسن النية ونعذره، فهذا غير صحيح. وليتهم أعذروه فقط، فإن ابن سينا لم يقل: إن أرسطو معذور؛ لأن قصده التنزيه، بل قال: إن هذا هو الدين الحق الذي يجب أن يتبع، ويقول ابن رشد : إن الشريعة رضيعة الفلسفة، فهما أختان رضيعتان، وله كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، فالشريعة والفلسفة عنده سواء، فيستوي عنده كلام أرسطو الذي اخترعه من عند نفسه بهذا التهافت، وكلام محمد صلى الله عليه وسلم الذي نزل به جبريل الأمين من عند رب العالمين!
      وبهذا يُعلم ضلال هؤلاء الناس ومن اتبعهم، وإن قولهم هذا يدخل في باب التكذيب بالقدر؛ لأنه تكذيب بالعلم، ومن كذب بالعلم فقد كذب بأول وأهم مراتب القدر، ومن هنا كانوا كفاراً، فهم من جهة القدر قدرية غلاة، ومن جهة الصفات منكرون للصفات، ومن انتسب أو ادعى الإسلام منهم فهو كافر مرتد لا دين له.