المرتبة التاسعة التعبد: ومعناها أن يصل به الحب إِلَى أن يتعبد تعبداً ويقول إنه عبد، كما في البيت المشهور عن عنترة بن شداد:
وأنا يا عبل عبد في الهوى            ملك يمناك وفي القرب ابن عم
يعني هو ابن عمها في النسب، ولكنه في الحب عبد، وكثيراً ما يذكر ذلك الشعراء.
يقول: وأصبحت في الحب عبدا، أي: أنه قد أصبح في الحب عبداً رقيقاً يملكه المحبوب أو المحبوبة، نسأل الله أن يعافينا وإياكم من هذا الداء الخبيث وكتاب الجواب الكافي لـابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ سبب تأليفه أن رجلاً عشق واجتهد في أن يزيل هذه المصيبة عن قلبه، فلم يستطع ويريد السبيل إِلَى علاجها أو إِلَى حلها.
فكتب إِلَى ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ سؤالاً فيه الحياء وفيه اللطف والرقة، قَالَ: ما تقولون رحمكم الله أو ما رأيكم في رجل ابتلي ببلية فصبر وسكت ... الخ، ففهم ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ المعنى بأنه ابتلي بعشق امرأة وتمكن ذلك من قلبه ولم يستطع أن يفارقه فما هو الحل؟ فكتب الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وكان هذا جواباً كافياً فعلاً، تحدث فيه عن أضرار المعاصي جملة وخطرها، ثُمَّ فصل الكلام في ضرر العشق - ومفاسده وفيما يجره عَلَى الإِنسَان، ومن أعظم ما ذكره وما نبه عليه في ذلك أن الإِنسَان إذا تعلق قلبه شيئاً ما وعشقه وأحبه فإنه يذكره عند موته، وعند الخروج من هذه الدنيا والإقبال عَلَى الآخرة، وينسى الأمور الثانوية، ولا يكون في قلبه إلا الشيء الذي كَانَ في دنياه والأساس الذي كَانَ متمكناً من قلبه وشاغلاً ذهنه هو الذي يذكره عند الموت، ولذلك يخشى عَلَى هَؤُلاءِ العشاق أن يموتوا عَلَى غير الإسلام؛ لأن أحدهم يأتيه الموت وهو لا يتذكر إلا هذه المعشوقة أو هذه الحبيبة.
وذَكَرَ عَلَى ذلك أمثلة من واقع التاريخ مثل الرجل الذي جاءته امرأة تريد حمام، والحمام معروف عند العرب قديماً أنه مكان كبير فيه أدوات النظافة والاستحمام وما أشبه ذلك، فكانت تريد الحمام، وكان بجواره حمام منجاب فوقفت وسألت هذا الرجل، فقالت له: أين حمام منجاب، فَقَالَ لها من هنا، ودلها عَلَى بيته فدخلت البيت ودخل هو معها البيت وأراد أن يفعل بها الفاحشة ولم يستطع، المهم أنه تعلقها من ذلك الوقت، فابتلاه الله بمحبتها فوقعت في قلبه فعمل في ذلك أبياتاً:
يارب قائلة يوماً وقد سألت            أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وكان يكرر هذه القصيدة، فلما جاءه الموت -نسأل الله السلامة والعافية ونسأل الله لنا ولكم حسن الختام- قالوا له: قل لا إله إلا الله، اذكر الله، فقَالَ:
يارب قائلة يوماً وقد سألت            أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وما زال والعياذ بالله يكرر هذا البيت حتى قبضه ملك الموت - نسأل الله السلامة والعافية - فهذا داء خطير ابتلى به النَّاس في كل زمان وفي كل مكان، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ السَّلام في القُرْآن ذكر من العبر المستفادة: كيف تتمكن هذه الشهوة، وكيف يكون العشق، وما هو العلاج الذي يتخذ في علاج هذا المرض،
وسبق أن قلنا: إن التعبد هو: أن يستشعر المحب أنه قد صار عبداً لمحبوبه، وهذه اللفظة تطلق عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منا وهذا معلوم ولا خلاف فيه، لكن -كما تعلمون ولا خلاف في ذلك- لا يطلق عَلَى محبة الله لنا أنها تعبدية، تَعَالَى وجل شأنه عن ذلك.