المادة كاملة    
إن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها.. وهذا دليل على علم الله الأزلي السابق لجميع المخلوقات، وهي المرتبة الأولى من مراتب القدر، وذلك باتفاق جميع الطوائف، ولم ينكرها إلا غلاة القدرية، وهذا كفر بلا شك. وأنكر القدرية غير الغلاة أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد، وقالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وأهل السنة يقولون: إن الله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد.
  1. إثبات العلم الأزلي لله سبحانه وتعالى والرد على منكريه

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه.
    قال المصنف رحمه الله:
    هذا بناءً على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم: {قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء}، فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14].
    وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: [[ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا]] ].

    الشرح:
    يقول الإمام ابن أبي العز: "هذا بناءً على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها"، فالله تعالى يعلم الكائنات، "وأنه وقدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم: {قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء}" وهذا قد تقدم في المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة، قال: "فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم"، فيجب على كل إنسان مؤمن بالله سبحانه وتعالى أن يؤمن بالقدر، وأول ما يؤمن به من مراتب القدر هذه المرتبة، وهي أن الله علم كل ما سيكون في وقته متى سيكون، وعلى أي هيئة وكيفية سيكون.
    فالمرتبة الأولى: هي العلم، وهي الأساس؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى لا يحدث ولا يتجدد ولا يتغير؛ بل علمه تبارك وتعالى محيط بكل ما كان وما سيكون دائماً، فهو سبحانه وتعالى يعلم أن كذا سيكون في وقت كذا وبهيئة كذا وكيفية كذا، فيخلق سبحانه وتعالى ذلك وفق ما علم، وما كُتب -كما تقدم- فهو وفق ما علم، فلا تناقض ولا تعارض بين هذه المراتب، لكن العلم هو أصلها جميعاً.
    1. خلق المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم دليل على علم الله السابق للخلق

      يقول المصنف: [فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14] ].
      فهو سبحانه وتعالى يعلم كل ما خلق؛ لأنه هو الذي قدره وهو الذي خلقه، فعَلِمه قبل أن يوجد، ثم خلقه وفق ما علم أنه سيكون عليه سبحانه وتعالى، دون أن يحدث وقوع شيء في خلقه زيادةً على علمه عز وجل لم تكن لديه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
      فلو تأمل الإنسان حياة كل الأحياء والموجودات؛ لوجد فيها من العجائب والغرائب ما يوحي ويدل دلالة قاطعة على أن الذي خلقها هو عليم حكيم خبير سبحانه وتعالى، وأحوال الإنسان أمامنا خير شاهد على ذلك، فنتأمل كيف يولد هذا الإنسان! وكيف يعيش ويشب ثم يشيب! وما الذي يحصل له من أمور! وكيف أنه أحياناً يذهب بنفسه إلى ما يظن أن فيه خيره وفلاحه ونجاته ويكون فيه الهلاك! وكيف يكون العكس أيضاً! وكيف تجري هذه المخلوقات من الكواكب والنجوم، والبحار، والجبال، والرياح، والأمطار، وفق سنن جعلها الله سبحانه وتعالى في منتهى الدقة والحكمة والإتقان!
      فكل شيء لله تبارك وتعالى فيه آية وحكمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، أتقن كل شيء خلقه. فلا يتصور أن تكون هذه المخلوقات بهذه الدقة من الحكمة إلا من عالم قد سبق علمه على إيجاده لها، فأوجدها كذلك، ولو صدرت هذه المخلوقات من غير عالم لكان فيها من التخبط والفوضى والاضطراب الشيء الكثير، لكنها صادرة من عليم حكيم خبير لا يعجزه شيء، ولا حد لقدرته سبحانه وتعالى، بل هو على كل شيء قدير؛ ولهذا جاءت فيها هذه الحِكَمُ العجيبة التي خلقت لتدل على ما سيكون.
      ولو تأملنا حال الإنسان وهو لا يزال في بطن أمه، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه ما يؤهله إذا خرج إلى الحياة، فيجعله يتنفس، وقد كان في بطن أمه لا يتنفس، ويجعله يأكل، وقد كان في بطن أمه لا يأكل من فمه ولا يهضم بهذه الطريقة، وكذلك يعطيه ما يؤهله بعد أن تتم له مدة الرضاع فتكون له أسنان؛ لأنه في هذه الحال سينتقل من شرب السوائل إلى أكل المأكولات التي تحتاج إلى قواطع وأنياب وأضراس؛ فلولا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه ستكون له هذه الحال لما خلقه سبحانه وتعالى بهذه الصورة، وهكذا كل المخلوقات، حتى هذه الأفلاك جعلها الله سبحانه وتعالى ((كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً))[لقمان:29]، فكل له حساب يجري إليه، وكل ذلك دليل على أن الله سبحانه وتعالى يعلم كيف ستكون عليه هذه المخلوقات قبل أن يخلقها، وأنه خلقها وأوجدها وفق علمه الذي لا يتبدل ولا يتغير.
    2. غلاة القدرية ينكرون علم الله تعالى السابق لأفعال العباد

      وهذه المرتبة -مرتبة العلم- لم يجادل ويمار فيها إلا غلاة المعتزلة، فالمسلمون جميعاً بجميع فرقهم وطوائفهم يثبتونها إلا غلاة القدرية، أي: المنكرين للقدر؛ لأن القدرية تطلق على المنكرين للقدر، مع أنه يجوز من حيث العرف أن تطلق القدرية على من يغلون في إثبات القدر لكن هذا من باب إطلاق الشيء على منكره، فهم ينكرون القدر ومع ذلك سُمُوا قدرية ؛ لأنهم اشتهروا بإنكاره، أما الذين يبالغون في إثباته إلى حد أنهم يسلبون حرية الإنسان وإرادته واختياره، فهؤلاء يُسمَّون الجبرية، وقد يطلق عليهم قدرية، فإذا وجدنا كلمة القدرية فإن المقصود بها غالباً هم المعتزلة، كما ذكر الشارح، فإذا قيل: وأنكر غلاة المعتزلة، فالمقصود عموم غلاة القدرية .
      ومن المعلوم أن معبداً الجهني لم يكن هو في الأصل معتزلياً، فكيف أصبح القدر منهجاً للمعتزلة ؟
      قد سبق أن أوضحنا أنه لما اعتنق أوائل المعتزلة هذا المذهب وهم: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، -وهما أول من أسس فرقة الاعتزال- أخذوا إنكار القدر عن معبد، وعن أمثاله ممن كانوا قبله، وهم الذين أدركهم صغار الصحابة رضي الله عنهم؛ كـعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
      فغلاة المعتزلة المقصود بهم غلاة القدرية، والقدرية قسمان: الغلاة وغير الغلاة، والفرق بينهما: أن الغلاة وصل بهم إنكار القدر إلى إنكار العلم، أما غير الغلاة فهم الذين أنكروا مرتبة الخلق لأفعال العباد؛ ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ وذلك لأن المجوس يثبتون للعالم إلهين: إله النور وإله الظلام، فإله النور خلق الخير، وإله الظلام خلق الشر، فجاء هؤلاء فقالوا: إن الأفعال التي يفعلها العباد من خيرٍ وطاعةٍ ننسبها إلى الله، أما المعاصي فإن العبد هو الذي خلقها، وذلك أن أصل النقاش كان في المعاصي وليس في عموم الخلق، فقالوا: إن العبد هو الذي خلق المعاصي وفعلها، دون أن يقدر الله ذلك؛ فلم يعلمه، ولم يكتبه، ولم يرده، ولم يخلقه.
    3. شبهة غلاة القدرية في إنكار علم الله تعالى

      قال المصنف: "وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً".
      ما هي شبهة القدرية الغلاة التي جعلتهم ينكرون علم الله تبارك وتعالى بأفعال العباد؟
      شبهتهم: هي المعاصي. فإنهم قالوا: كيف نقول: إن الله علم بالمعاصي وقدرها على العباد؟!
      إذاً: الشر المقصود هو الذنوب والمعاصي، فيقولون: لا ننسب الشر إلى الله ونقول: إن الله قدر ذلك وكتبه على العبد وعلمه، بل ننزه الله تعالى عن الشر. وقد سبق أن ناقشنا هذا الأمر كثيراً، ومما ذكرناه: أن الله سبحانه وتعالى لا يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، بل يكون شراً من وجه وخيراً من وجه آخر.
      فهم يقولون: لا ننسب الشر إلى الله -تعالى الله عن ذلك- ثم نقول: إنه علم ذلك وقدره ثم يجازي العبد عليه، فإن في هذا نسبة الظلم إلى الله، وبناءً عليه قالوا: إن الله لا يعلم بالذنب أو بالظلم أو بالمعصية والخطيئة حتى يفعلها العبد، فإذا فعلها العبد علمها الله سبحانه وتعالى، ثم يحاسب العبد عليها.
      فهم هربوا من شيء فوقعوا في شيء أعظم منه، حيث أرادوا أن ينزهوا الله سبحانه وتعالى عن نسبة الشر إليه فنسبوا إليه الجهل.. فأيهما أشنع؟! لا شك أن الجهل أشنع؛ لأن نسبة الشر إلى الله لا حقيقة لها؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق العباد هكذا، وهو الذي يبتليهم ويمتحنهم ويختبرهم، وقد جعلهم فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وخلقهم وقال: هؤلاء في الجنة، وبعملها يعملون، وهؤلاء في النار، وبعملها يعملون.
    4. حكم غلاة القدرية وكيفية مناظرتهم

      أما حكم غلاة القدرية الذين ينكرون علم الله سبحانه وتعالى فإنهم كفار، كما قال الإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهما كثير من علماء الأمة، فقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى حكم الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول: "قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: [[ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا]]"، والمقصود: أننا نناقشهم ونجادلهم ونناظرهم في علم الله تعالى.
      فكأن الإمام الشافعي رحمه الله أراد أن يؤصل في مسألة النقاش والمناظرة، فهناك قضية نحن والقدرية مختلفون عليها، فكيف نلزمهم بالحق الذي عندنا؟ نأخذ القضية من أصلها ومن أساسها، فنناقشهم ونناظرهم في العلم، فإن أقروا به فقد خصمانهم وغلبناهم وحججناهم في القضية التي نحن وهم مختلفون فيها، وإن أنكروه كفروا بأمر لا شبهة في كفر من أنكره.
      إذاً: إما أن نخصمهم ونحجهم بحجة واضحة لا تبقى لهم معها شبهة، وإما أن نكفرهم على بيان وحجة واضحة لا يبقى لهم معها عذر.
      فأصل مسألة النقاش هي: هل العبد يخلق فعل نفسه أم أن الله تعالى هو الذي يخلق فعل العبد؟
      أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء، كما أخبر عز وجل، ومن ذلك أفعال العباد، قال تعالى: ((قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ))[الصافات:95]* ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))[الصافات:96]، هذا هو دليل أهل السنة والجماعة، ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح -أو الحسن- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الله صانع -أو خالق- كل صانع وصنعته}.
      إذاً: الإنسان مخلوق لله تعالى، وإذا صنع الإنسان مذياعاً أو صنع سيارة أو طائرة أو أي شيء، فإن هذه كلها من مخلوقات الله تعالى؛ لأن العبد مخلوق، وهذه أيضاً مخلوقة، وإن كان العبد هو الذي فعلها؛ سواء كان فعله مادياً أو غير مادي.
      فالله تعالى هو الذي خلق العبد، وهو الذي خلق القدرة والتفكير والعزيمة عند العبد، وخلق ذلك الفعل في العبد مع إعطائه الإرادة والاختيار الذي به يفعل أو لا يفعل، والثواب والعقاب مرتبط بهذه القدرة والإرادة، لكن هو إن فعل هذا أو ذاك فإن الله هو الذي خلقهما سواء.
      إذاً: هم عندما يناقشوننا ويناظروننا في مسألة الخلق، لديهم شبهة ضالة لكنها قوية، حتى قال القاضي إياس -وهو الذي يضرب به المثل في الذكاء-: ( ما ناظرت أحداً بعقلي كله إلا القدرية)، فإن كل من جاء يناقشه أو يناظره فإنه لا يحتاج إلى تفكير كثير إلا القدرية، فإنه يقول: ما ناظرت أحداً بعقلي كله إلا القدرية ؛ لأن الشبهة لها مدخل، والشيطان يزينها، وكما قال الشاعر الخبيث أبو العلاء المعري :
      هذا الذي جعل الأفهام حائرة            وصير العالم النحرير زنديقا
      أي: اشتباه الناس في مسألة القدر.
      لكن أئمة السلف الصالح من أهل السنة والجماعة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، بينوا لنا الطريق الصحيح لهذا المنهج، بحيث أننا لا نتعب ولا نحار في كيفية مناظرتهم والتغلب عليهم.
      قال الأئمة: إذا ناقشوكم في قضية الخلق والإرادة -والمسألة فيها اشتباه- فانقلوهم إلى المرتبة الأولى وهي العلم، فإن أقروا به خصموا. فإذا قال عمرو بن عبيد أو أحد تلاميذه كـالعلاف والنظام وغيرهم، إذا قالوا: إن الله لم يقدر أفعال العباد، ولم يخلقها، وإنما هم يفعلون، فإذا فعلوا ذلك جازاهم عليها بالخير أو بالشر. وهم يريدون بذلك أن ينزهوا الله سبحانه وتعالى، كما قال أحدهم: سبحان الذي تنزه عن الفحشاء، فرد عليه السني فقال: سبحان الذي يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقضي ما يشاء.
      فنقول لهم: ما تقولون في علم الله تعالى بهذه الأفعال، أي: العلم الأزلي قبل خلق الإنسان وقبل خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: نثبت علم الله تعالى، وكيف لا نثبته؟! فإن كل مسلم بل كل إنسان عاقل في الدنيا لابد أن يثبت أن الله تعالى عليم؛ لأن ما في هذا الكون يشهد أن خالقه ومدبره عليم حكيم سبحانه وتعالى.
      فنقول: هل آمنتم بالعلم؟ فسيقولون: نعم. فنقول: فهذا العلم في الأزل لا يتجدد ولا يتبدل ولا يتغير؟ سيقولون: نعم. فنقول: فإذا كان الله تبارك وتعالى عليماً وأنتم تثبتون أنه عليم، فما المانع أنه كتب ما علم؟ سيقولون: لا يوجد مانع، ثم نقول لهم: شيء علمه الله وكتبه ما المانع أن يريد وقوعه، لاسيما أن ما كتبه الله لابد أن يقع؟ فإذا علم الله الشيء وكتبه وأراده، فما المانع أن تقولوا: خلقه؟ لا يوجد أي مانع!
      وبهذا نعلم أنهم قد خصموا؛ لأنهم أقروا بالعلم، إذاً الله تعالى علم وكتب وقدر وخلق، وهذه هي مراتب القدر الأربع، وبهذا يصبح المجادل مغلوباً، فإما أن يعود إلى السنة، وإما أن يصر ويعاند فيكون عناد المستكبرين عن الحق لا الباحثين عنه، ونكون قد كشفنا هذه الشبهة بأيسر جواب وأوضح برهان.
      وإن جئنا إليه وقلنا له: هل تقول: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد؟ وهل تقول: إن إرادة العبد مطلقة ولا إرادة لله تعالى في خلق أفعال العباد؟ فسيقول: نعم، حتى ننزه الله عن الفحشاء، وأنه إن عاقبهم فلا يعاقبهم إلا بما أرادوا وعملوا وخلقوا هم وحدهم. فنقول: ما تقول في علم الله سبحانه وتعالى؟ فسيقول: لو لم أنكر العلم للزمني التراجع عن هذا، فينكر العلم عياذاً بالله تعالى! فنقول: إذاً أنت بهذا العمل قد حكمت على نفسك بالكفر؛ لأنك أنكرت العلم. ولو بقيت المسألة في الخلق والإرادة لكان هناك لبس؛ لأن هناك إرادة شرعية وإرادة كونية، وهناك إرادة للخالق وإرادة للمخلوق، أما في العلم فليس هناك شبهة، فكل من أنكر علم الله فهو كافر، لا شك في ذلك، ولا يختلف المسلمون في ذلك أبداً على اختلاف فرقهم؛ ولهذا عاد كثير من القدرية إلى الصواب لما رأوا أن لازم كلامهم ومقتضاه إنكار علم الله سبحانه وتعالى، وهذا كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه، وكلامه دليل على فقه علمائنا رضي الله تعالى عنهم، هؤلاء الأئمة الأجلة الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى البيان والحجة بأوجز الألفاظ وبأجمعها وأدقها، لنعرف فضل علم السلف على علم الخلف، فمنهجهم أعلم وأحكم وأسلم رضي الله تعالى عنهم، فقد كانوا مصابيح الدجى، كشفوا كل شبهة وأقاموا الحجة؛ لأنهم ورثوا ميراث النبوة -العلم- الذي ورثه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فنعلم بذلك فضلهم وسابقتهم، وأنه لا خير لنا إلا باتباع طريقهم.
    5. سبب وجود علم الكلام وبيان بطلانه وفساده

      بمثل هذه العبارة نعلم بطلان وفساد علم الكلام؛ لأن من أسباب وجود علم الكلام كما يزعم أصحابه: أن السلف الصالح والجيل الأول كانوا مشغولين بالجهاد وبالفتوحات، فلم يكن لديهم اهتمام أن تكون العقائد الإيمانية مبنية على البراهين والحجج، فقد كانوا يأخذونها مأخذ التسليم فقط لا بالإقناع المبني على الحجة والبيان والبرهان، وقد كان هذا حال العرب وهم أمة أمية، فلما انتشر الإسلام في الآفاق، واستقرت الفتوحات، وجاءت الأمم بما معها من حضارات ومجادلات وعلوم؛ أصبح لا يكفي التسليم، بل لابد من حجة وبيان، ولابد من إقناع، وهذا الأمر لا يوجد عند الصحابة والتابعين، فقالوا: إذاً لابد من علم الكلام.
      ويمثلون لذلك بأن العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام كان الرجل منهم يتكلم بالعربية على السليقة، فلا يلحن ولا يخطئ في كلامه، فلما اختلط العرب بالعجم، وتزوج العرب من الجواري وغير ذلك، أصاب الناس العجمة واللكنة، فاحتاجوا إلى علم النحو، فعلم النحو ليس علماً جديداً، إنما هو وصف وتقرير واستقراء لأمور موجودة وضعت كقواعد يمشي عليها الناس.
      فجعلوا علم الكلام مثل علم النحو أو ما أشبهه، فنقول: هذا الكلام باطل ولا حجة له ولا أساس.
      وقد سبق أن شرحنا هذا وذكرنا الحيرة والاضطراب الذي وقع فيه أهل الكلام. فنقول: علم الكلام باطل؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح كان إيمانهم قائماً على الحجة والبرهان والبيان؛ وذلك لأن القرآن نفسه ليس مجرد كلام خطابي يؤمن به من سمعه لأنه يؤمن به؛ بل هو مشتمل على اقوى البراهين وأعظم الحجج، فلا توجد حجة أعظم من الحجج القرآنية، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاءه أحد ليفهم حكماً أو ليتدبر أو ليناظر أو لديه شبهة إلا جلاها له بأقوى حجة تقطع شبهته وتستأصلها من أصلها، وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أقوى الناس بياناً وأعظمهم حجة، فما ناظرهم مناظر إلا قطعوا حجته واستأصلوا شبهته، وكذلك كان التابعون، ولهذا لم يقف أحد من أهل البدعة في وجه أحد من أهل السنة ؛ لا في أيام الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم؛ فقد ناظرهم الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأفحمهم، وقد كان بعضهم من المعتزلة، وبعضهم من الضرارية، وبعضهم من البكرية، وبعضهم من النجارية فرق كثيرة كانت تناظر الإمام أحمد في مجلس المعتصم ومن قبله، ومع ذلك أفحمهم الإمام رحمه الله تعالى.
      وكذلك ناظر الإمام الشافعي رحمه الله حفصاً الفرد، وناظر أيضاً هؤلاء القدرية وأمثالهم، وكذلك كان عبد الله بن المبارك ووكيع ونعيم بن حماد، وغيرهم ممن لهم صولة وجولة مع أهل البدع.
      فلم يكن هذا مجرد تسليم، وإنما كان مبنياً على الحجة والإقناع، ومن ذلك عبارة الإمام الشافعي التي استطردنا في بيانها، فهي دليل على أن السلف كانوا يعلمون القواعد الجدلية، وكيف يقنعون الخصم ويلزمونه بالبراهين والحجج، لا بمجرد أن يقال: إن هذا قد ورد، وحسب.. لا شك أن كل ما ورد في الكتاب والسنة فيجب علينا أن نؤمن ونسلم به؛ لكن هل يعني ذلك أنه خال من الحجة والبرهان والبيان؟ كلا. بل ديننا كله براهين، وكل آيات الله تعالى حجج وآيات، ولهذا سمى الله تبارك وتعالى الآية من القرآن التي تبتدئ وتنتهي بفاصلة، سماها آية، وكذلك ما أعطى الله تعالى الرسل من البراهين مثل عصا موسى عليه السلام سماها آية، وكذلك الناقة التي أعطاها صالحاً عليه السلام سماها آية، فقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه آية وسمى تلك آية؛ لأن هذه برهان قاطع وتلك برهان قاطع، فليس الأمر مجرد تسليم لألفاظ أو أساليب خطابية كما يزعم هؤلاء المتكلمة.
    6. علم الله سبحانه وتعالى مطابق للواقع والواقع مطابق له

      قال المصنف رحمه الله: [فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة].
      المقصود هنا فعل المأمورات والطاعات، فإن الله تبارك وتعالى أمرنا بمأمورات وطاعات، وافترض علينا فرائض وأمرنا أن نؤديها، وأعطى العبد الاستطاعة على الفعل مع أمره بالفعل، فهو يعلم أنه يستطيع ويعلم أنه سيفعل، فيثيبه على ذلك، وهو سبحانه يعلم أن الآخر مستطيع ولكنه لا يفعل ما استطاعه، فيعذبه لأنه لم يفعل ما أمره الله به مع قدرته واستطاعته على فعله، فهو إنما عذبه لأنه لم يأت بالطاعة مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، أما من لا يستطيع -وهو العاجز- فإن الله لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه؛ فإن الله تعالى لم يكلف الصغير، ولم يكلف المجنون؛ لأنه ليس لديهم استطاعة لأن يتحملوا الأمر والنهي.
      إذاً: فالله عز وجل لا يأمر إلا المستطيع، وهو يعلم أن هذا المستطيع يفعل ما يستطيعه، أو أن هذا المستطيع لا يفعل مع استطاعته وقدرته، والثواب والعقاب مرتب على هذا، فاستطاعة هذا وطاعته يستحق عليها الثواب، واستطاعة ذاك وعدم طاعته يستحق عليها العقاب، وهذا هو الذي يجلي هذا الأمر ويوضحه.
      قال المصنف: [وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله؛ لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله. قيل: هذه مغالطة]، وما أكثر ما يغالط أهل البدع والضلال! يقولون: هل أعطى الله تعالى العبد الاستطاعة أن يفعل أو لا يفعل؟ فإن قلنا: نعم. قالوا: إذاً من الممكن أن يغير العبد علم الله؛ لأنه قد يفعل وقد لا يفعل. وهذه مغالطة؛ لأن الله سبحانه وتعالى علم ما سيفعل العبد.
      ونقول -اختصاراً لكلام الشارح-: إن علم الله سبحانه وتعالى مطابق للواقع، والواقع مطابق لعلم الله، فالفعل الذي وقع ليس في علم الله أنه لن يقع، والفعل الذي لم يفعل ليس في علم الله سبحانه وتعالى أنه يقع، وهذه قاعدة واضحة.