وكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم لا غبار عليه، ولا إشكال فيه، وإنما الشبهة التي تثار وخصوصاً عند المتأخرين حول إطلاق كلمة سيدنا عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيرى بعضهم: أن هذه الكلمة تصلح لأن تكون شعاراً وتتخذ سنة في الخطب، والمقالات، والمواعظ، حتى أن بعضهم يذكرها في التشهد في الصلاة!
ويقول: لماذا لا نقول: وأشهد أن سيدنا، أو اللهم صلى عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعلى آل سيدنا محمد؟ ويقولون: إن هذا اللفظ قد ثبت من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو سيد ولد آدم! وأن الذي يقول: اللهم صل عَلَى سيدنا مُحَمَّد في صلاته، أو في خطبة الجمعة، أو غير ذلك أفضل من الذي لا يذكر لفظ سيدنا!
بل ليت الأمر وقف عند حدود الأفضلية، وإنما يقولون: عن الذي يقول: أشهد أن محمداً عبده ورسوله ولا يضيف سيدنا، هذا جافٍ يكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعياذ بالله.
وقد سبق أن قلنا: إن مما أجمع عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن من كره شيئاً مما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كَانَ في قلبه أدنى كراهية للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كافراً قطعاً، وإن أظهر الإسلام، وأظهر الشعائر، فهو من المنافقين الذين لا يقبل منهم عمل بل هم في الدرك الأسفل من النار، فمن الخطورة بمكان أن يُقَالَ: إن فلاناً يكره الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه لا يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رَسُول الله، وإنما يقول: أشهد أن محمداً رَسُول الله!
والقول الصواب في هذه المسألة أننا نقول: أولاً: لا بد أن نعلم أننا متبعون ولسنا مبتدعين، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذا الدين اتباعاً ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31] وكذلك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له الله عَزَّ وَجَلَّ: ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ))[الأنبياء:45]، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينذرنا بالعقل ولا بالهوى، ولا بالرأي، وإنما هو وحي ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قال قولاً أو فعل فعلاً عَلَى خلاف ما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لنزل عليه العتاب، وينزل تصحيح ذلك الخطأ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو لا يأتي بشيء من عند نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو متبع لما يوحى إليه ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [الأحزاب:2] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع ما يوحى إليه من ربه، وأن يقول للناس ((إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء:45].
وكذلك يأمرنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نتبعه، لأنه لا ينطق عن الهوى، فالمسألة إذاً اتباع، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله أصحابه قالوا يا رَسُول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ علمهم، ولا يوجد في أي حديث صحيح أنه علمهم إضافة كلمة "سيدنا"، فضلاً عن أن تكون شعاراً، بحيث لا يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وتوضع قبله هذه الكلمة، ونحن نؤمن بثبوت هذه الصفة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ننكرها، بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم.
لكن يجب أن نفهم أن هذا لا يقال في أمر تعبدي، فلا يقال في الصلاة، ولا يقال في الأذان كما تفعله بعض الدول، وإذا قيلت اللفظة فلا تقال عَلَى سبيل اللقب، ولا بأس أن يقال خارج الصلاة والأذان، كما لو كَانَ في موعظة أو في درس أو في مقالة، فلا مانع أن يقَالَ: سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا عَلَى سبيل الالتزام المطلق الذي يجعل شعاراً.
إذاً فهذه الصفة ثبتت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنها لا تدخل في أي أمر تُعبدنا به جاءت صفته الشرعية التعبدية منقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحة بدون هذه الصفة.
الأمر الثاني: أننا إذا قلنا: نشهد أن محمداً عبده ورسوله، أو إذا قلنا: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلتم: لا؛ بل قولوا: سيدنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه أبلغ!
فنقول:
أولاً: تعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون إلا بما ورد، عند البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما كالإمام أَحْمَد.
فلم يرد مثلاً عند أَحْمَد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن سيدنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وهمُ السلف الصالح الذين يعرفون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحبونه ويقدّرونه أعظم منا، مع أنهم لم ينكروا أنه سيد ولد آدم، كما جَاءَ في الحديث، ولكنهم لم يستخدموه شعاراً ولقباً، فنقف حيث وقف القوم.
والأمر الآخر: الذي يظهر أن هذا اللفظ ليس فيه زيادة توقير، ولا زيادة تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن العرب وجميع الأمم تسمي كل من يتزعمها سيداً لها، كَانَ يُقَالَ: أبو سفيان سيد قريش، والأقرع بن حابس سيد بني تميم، وفلان سيد بنى حنيفة، وفلان سيد بنى كذا من قبائل العرب، فليس هناك غرابة أن يقَالَ: فلان سيد قبيلة، أو أمة من الأمم، بل لما جَاءَ الرسل من الفرس إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا يحلقون اللحية ويطيلون الشارب، فَقَالَ لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمركم بهذا، قالوا: أمرنا ربنا أي: ملكهم كسرى، ومعنى ربنا أي: سيدنا، كما جَاءَ في القرآن: ((وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)) [يوسف:25].
أي: زوجها وصاحبها، فالمقصود أن هذه الكلمة تطلق عَلَى من يملك عبداً مملوكاً رقيقاً، فيقال له: هذا سيد فلان المملوك، وتقول للزعيم أو للأمير الذي تنتمي إليه هذا سيدنا، ويقول إنسان لأي إنسان آخر ينتمي، إِلَى أمة من الأمم: فلان سيد بني فلان، أو فلان سيد الدولة الفلانية أو الطائفة الفلانية، فليس في هذه العبارة ميزة اختصاص أو تفضيل، اللهم إلا أن هذا الرجل مفضل عَلَى قومه.
وعلى هذا يفهم من قولنا: فلان سيد بني تميم أنه سيد في حدود قرية بني تميم، وأن هذا أفضل رجل فيهم، فإذا قال بنو تميم: سيدنا الأقرع أو سيدنا فلان، وقال أصحابُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدنا مُحَمَّد استويا! وليس الأمر كذلك، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من ذلك، فلقبه أو اسمه أو صفته أعظم من كونه سيداً التي يفهم منها الزعامة الدنيوية العادية.
فلهذا كَانَ الصحابة عَلَى وعي وفهم وسنة واتباع، عندما كانوا يقولون: أمرنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَسُول الله هو رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه ميزته التي لا يشاركه فيها أحد من العالمين في عصره عَلَى الإطلاق، وهذه هي التي بموجبها يلزم جميع العالمين أن يخضعوا لأمره ونهيه، ويتبعوه، لأنه يتكلم بكلام من عند رَبِّ الْعَالَمِينَ، وبوحي من الله تعالى، فإذا قيل: قال رَسُول الله كَانَ هذا الكلام من عند الله عَزَّ وَجَلَّ بواسطة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب أن نتبعه، ولذا لما رد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صاحبي كسرى قَالَ: ولكن ربي أمرني، وما قَالَ: أنا سيد قومي، فأمرتهم بإعفاء اللحى، وسيدكم أمركم بإعفاء الشوارب، فهذان سيدان: هذا يأمر قومه، وهذا يأمر قومه، لكن هذا يقول: إن ربي الذي هو الله عَزَّ وَجَلَّ أمرني بكذا، أما ذاك فهو ربكم أي سيدكم بشر مثلكم، فالذي يختص به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويمتاز به، ويرتفع به عن سائر العالمين هو تمام العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكمال الرسالة التي اختصه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها دون العالمين أجمعين.
لكننا لو قلنا: إنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ كما جَاءَ في الحديث: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ}فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا حدد أنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وحال يَوْمَ القِيَامَةِ يختلف عن حال الدنيا تماماً، فيَوْمَ القِيَامَةِ ينادي الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أين الجبارون أين المتكبرون، فلا يجيب أحد فيأتوه مهطعين، مخبتين، شاخصة أبصارهم، ويأتيه جميع النَّاس في غاية الانكسار والخضوع، وتشخص أبصارهم فلا تسمع إلا همساً، بل المتكبرون الذين كانوا يتكبرون في الدنيا، يحشرون -كما جَاءَ في الحديث- عَلَى هيئة الذر يطؤهم النَّاس بأقدامهم، فيحشر خلق الله تَعَالَى عَلَى خلقة واحدة إلا المتكبرون، فإنهم يحشرون عَلَى هيئة الذر جزاءً ونكالاً لتعاليهم، وتفاخرهم في الحياة الدنيا، ففي ذلك الموقف الذي لا يتكلم فيه أحد، والذي يخرس فيه جميع المتكبرين، يقف جميع الأنبياء، ومنهم أولو العزم يعتذرون عن الشَّفَاعَة، وحينئذ يقوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشفع، وهي السيادة الحقيقية عَلَى العالمين، فلذلك يقول:{أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع}.
فلهذا جَاءَ الحديث بهذا القيد مع أننا نقول: لا يمنع من استعماله أو من إطلاقه في غير يَوْمَ القِيَامَةِ، لكننا لا ننسى أن هذا اللفظ إنما جَاءَ في معرض يَوْمَ القِيَامَةِ، فإن ليَوْمَ القِيَامَةِ تلك الحالة المخصوصة التي تختلف عن حال الدنيا، ولهذا فَهِمَ الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم لا يتخذون هذا اللقب دائماً، وكذلك العلماء من بعدهم.
وأيضاً إذا قيل: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المرسلين، فهو يختلف عن قولنا: إنه سيدنا، لأن المرسلين هم أفضل البشر وأعلاهم درجة ورتبة وشرفاً، فتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المرسلين بأنه سيد المرسلين، تفضيل واضح، بخلاف ما إذا قال العامي من الناس: سيدنا، فقد يفهم منها ما يستخدم عادة للعظماء أو للأمراء، أو للملوك، ولهذا إذا قال فلان: سيد العلماء
الشَّافِعِيّ، وسيد المحدثين الإمام
أَحْمَد، ففيه ميزة.
لكننا لو قلنا سيدنا الإمام
أَحْمَد، فإن هناك فرقاً بين هذا وهذا، وإذا قلنا فلان سيدهم أو أمير المؤمنين في الحديث، فهذا تفضيل، فلو فكرنا في هذه الأمور بعقل صائب سليم متزن، لوجدنا أن ما ورد في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو: أولاً: أنه المتبع الذي يجب أن يطاع.
وثانياً: أن الأليق والذي فيه توقير وتعظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر، أن نقول: إنه عبد الله، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.