المادة كاملة    
ورد عن السلف رضوان الله عليهم في تفسير قوله تعالى: (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ))[الرعد:39] عدة أقوال، الراجح منها: أن المحو والإثبات واقع في الأقدار من أعمال العباد وشئون الخلق، وأن معنى (أم الكتاب): اللوح المحفوظ، وكل مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ لا محالة.
  1. تفسير قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

     المرفق    
    قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
    [وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39].
    وأما قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، فقال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً..! قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً.. إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء]
    .
    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39].]، وقد تقدم هذا في أول العقيدة عند قول الطحاوي رحمه الله: [خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً] وتحدثنا هناك وأطلنا الحديث في مسألة الأجل، وكيف يكون أجل الإنسان مضروباً محدداً منذ أن تنفخ فيه الروح، ومع ذلك فإن صلة الرحم تزيد في العمر، ويوضح ذلك معرفة الفرق بين القدر المعلق وبين القدر المثبت الذي في أم الكتاب... إلى أن قال المصنف في آخر الفقرة: [وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة. وحمل قوله تعالى: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة،وأن قوله: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39]: اللوح المحفوظ، ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))[الرعد:38] ثم قال: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ))[الرعد:39]" أي من ذلك الكتاب، ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39] أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ]. هذا القول الأول كما ذكره رحمه الله.
    ثم ذكر القول الثاني فقال: [وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول]، وقد ذكرنا حين شرحنا هذه الفقرة أن الإمام ابن أبي العز رحمه الله رجح المرجوح، والصحيح أن الوجه الأول هو الأرجح كما سنعرض هنا إن شاء الله.
    والآية الثامنة والثلاثون من سورة الرعد هي في الحقيقة متصلة بالآية التاسعة والثلاثين منها: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39].
    إذا أردت أن تفهم آية من كتاب الله عز وجل، فاحرص على أن تقرأ ما قبلها وما بعدها؛ فإن ذلك يوضح معناها، أو يعينك على أن تعرف المراد من هذه الآية، فإذا أخذنا الآية من أولها أو من الآية التي قبلها وقرأنا: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] أمكننا أن نحدد المعنى القريب، وإن كانت قد تختلف المعاني والآراء في هذا المعنى كما سنلاحظ.
    والإمام ابن جرير الطبري رحمه الله أطال في هذه الآية بذكر الآثار والأقوال، والحافظ ابن كثير رحمه الله أتى بملخص كلام ابن جرير مع بعض الإضافات المهمة.
    1. القول الأول في تفسير: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

      والذي نوجزه في هذه الآية هو: أن المراد (يمحو الله ما يشاء) من الأقدار ومن أمور العباد (ويثبت، وعنده أم الكتاب)، أي: أن المحو والإثبات في الأقدار، وأن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ، هذا هو القول الأول، فيمحو ما يشاء ويثبت في الأقدار ما يشاء؛ من أعمال العباد، ومن أمور وشئون الخلق، (وعنده أم الكتاب) أي: اللوح المحفوظ، وهو الذي لا يتغير ما فيه ولا يتبدل، وهذا القول ورد عن بعض السلف بإطلاق، وورد عن بعضهم باستثناء، أما الذين أطلقوا فقالوا: يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما يشاء، (وعنده أم الكتاب) التي لا محو فيها ولا تغيير ولا تبديل، وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الأرزاق والآجال (الحياة والموت)، وبعضهم قال: إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت، وهما متلازمان، فالله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت إلا هذه الأشياء، فكون الإنسان كتب شقياً أو سعيداً، وأجله (حياته وموته)، فهذه لا يدخلها التبديل على قول بعض السلف، وهي المذكورة في حديث عبد الله بن مسعود عن الصادق المصدوق.
    2. أدلة القائلين بأن المحو والإثبات هو في الأقدار

      هذا القول الأول وهو: أن المحو والإثبات واقع في الأقدار، هو الذي ورد عن كثير من السلف الصالح، وأورد ابن جرير رحمه الله ذلك بالسند إلى أئمة التفسير من الصحابة والتابعين كـابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أجمعين، واستدل على ذلك أيضاً بما ورد من آثار عن بعض السلف تؤيد هذا المعنى، أن الله سبحانه وتعالى يمحو ما يشاء ويثبت من الأقدار، حتى في الشقاء والسعادة.
      ومن ذلك ما روي من دعاء بعض السلف: اللهم إن كنت كتبتني في ديوان الأشقياء فامحني، واكتبني في ديوان السعداء] وقد ورد هذا الدعاء عن شقيق بن سلمة أبي وائل التابعي المشهور، وعن عبد الله بن مسعود شيخ شقيق، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.. فدعاء هؤلاء السلف يتضمن أنهم يعلمون ويقرون بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب الشقاوة والسعادة، ولكنه يمحو منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، ونقل أن مجاهداً رحمه الله سأله رجل عن هذا الدعاء فأقره، وقرأ عليه هذه الآية، وهؤلاء جمع من السلف رأيهم في تفسير هذه الآية: أن المحو والإثبات في الأقدار، وعلى هذا المعنى يكون معنى قوله تعالى: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) وعنده اللوح المحفوظ.
      وأيد الحافظ ابن كثير هذا القول بخلاف ابن جرير رحمه الله؛ لأن هذا القول يؤيده ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه} ورواية الإمام أحمد : {ولا يرد القدر إلا الدعاء} وأيده بما في الصحيح: {من أراد أن ينسأ له في أجله، وأن يبسط له في رزقه، فليصل رحمه} إذاً: صلة الرحم تزيد في العمر، والدعاء يرد القضاء. وأيده أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الدعاء والقضاء ليعتلجان ما بين السماء والأرض} .
      استدل الحافظ ابن كثير رحمه الله بهذه الأدلة على تأييد هذا القول، ويمكن أن نضيف نحن دليلاً آخر وهو تابع لذلك، وذلك أننا قررنا أن المحو والإثبات في الأقدار، فما هو أم الكتاب؟
      والجواب: هو اللوح المحفوظ. وهل جاء في القرآن ما يدل على أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب؟
      الجواب: نعم. قال الله تعالى: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ))[الزخرف:4]، وفي سورة البروج قال تعالى: ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ))[البروج:21-22] إذاً: اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، واللوح المحفوظ له أسماء، منها: أم الكتاب، ومنها: الإمام المبين، ومنها: الذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وكتب في الذكر كل شيء } وكما قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] أي: في اللوح المحفوظ على أرجح الأقوال.
      وعلى هذا النسق نفهم قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[الرعد:38] ثم قال: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))[الرعد:38] فالله سبحانه وتعالى قد قدر آجال الخلق وآجال إرسال الرسل وآجال إنزال البينات والآيات عليهم، ومع أنه سبحانه وتعالى قد قدر كل شيء وضرب له أجلاً لا ريب فيه، لا يستقدم عنه ولا يستأخر؛ إلا أنه سبحانه وتعالى يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده اللوح المحفوظ الذي لا تبديل ولا تغيير لما كتب فيه من الأقدار، ويؤيد ذلك أن بعض السلف نصوا على أن ما يقدره الله سبحانه وتعالى في رمضان قد يغير، ولكن ما في اللوح المحفوظ لا يغير، وفي رمضان تكون الكتابة السنوية في ليلة القدر التي يكتب الله سبحانه وتعالى فيها ما يكون إلى مثلها من السنة القادمة، وأيضاً يغير ما يكتبه الملك عند نفخ الروح فيه؛ حين يأمره الله تعالى أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فيغير ذلك، ولكن لا يغير ما في اللوح المحفوظ، هذا هو القول الأرجح.
    3. الحكم الظاهرة من المحو والإثبات في الأقدار

      قد يقال: هل من فائدة أو حكمة من هذا إذا كنا لا نعلم ماذا كتب في صحيفتنا، وماذا كتب في ليلة القدر، وكذلك لا نعلم ما في اللوح المحفوظ، ولم يظهر لنا ما محي وما أثبت؟
      فنقول: في ذلك حكمة، ولا يشترط في الحكمة أن نعلم بها نحن البشر.
      ومما يمكن أن يكون من الحكم في ذلك ما يلي:
      الأمر الأول: أننا ينبغي لنا أن نتنافس ونتسابق في فعل الخير، مثلاً: نجتهد في الدعاء لأنه يرد القضاء، ونجتهد في صلة الرحم لأنها تبسط في الرزق وتزيد في العمر، ونأخذ بالأسباب كما أمر الله سبحانه وتعالى، وكون ذلك يقع ولا نعلمه أولاً يقع؛ فعلمه عند الله، لكن فائدة هذا لنا نحن هو الاجتهاد في السعي للأخذ بأسباب السعادة والابتعاد عن أسباب الشقاوة، فكما ندفع الجوع بالأكل، ندفع أيضاً الموت أو الأجل بالدعاء، وكذا المصائب ندفعها بالدعاء أو بصلة الرحم وبفعل الخير.
      إذاً: نحن عندما نجتهد في الطاعات ننازع القدر بالقدر، ونرد القدر بالقدر، وندفع القدر بالقدر، هذا الذي ينبغي أو يجب أن يكون عليه المؤمن.
      الأمر الثاني: أن الملائكة التي تكتب آجالنا وأعمالنا، وشقاوتنا وسعادتنا -جعلنا الله وإياكم من السعداء في الدنيا والآخرة- هم عباد مكرمون، مصطفون أخيار عند الله سبحانه وتعالى: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6] لا يعصونه طرفة عين؛ يستغفرون للذين آمنوا، ويحرصون على أن نفعل الطاعات، وأن نجتنب الموبقات، فإذا رأى الملك أن الله سبحانه وتعالى كتب أن فلاناً يموت بعد كذا من العمر، ثم علمت الملائكة أن الله قد غير ذلك فتدعو له وتفرح وتسر أنه يطيع الله سبحانه وتعالى؛ لأنها مطيعة له عز وجل، فكوننا لا نعلم فالملائكة تعلم ويطلعها الله سبحانه وتعالى كما يطلع من يشاء من خلقه على ما يريد، فكما أطلعهم على آجالنا وأرزاقنا وأعمالنا وأمرهم بكتابتها، فكذلك يطلعهم على مغفرته سبحانه وتعالى، وعلى عفوه ومحوه وإثباته، فإذاً الأمر ليس خاصاً بنا وحدنا، بل له تعلق أيضاً بهؤلاء العباد المكرمين، وأيضاً هؤلاء العباد المكرمون علاقتهم بالله سبحانه وتعالى هي أنهم يرون سعة فضل الله ورحمته، فيكون ذلك أيضاً فيه حكمة ومصلحة، وهو أنهم يعلمون ذلك ويرونه عياناً.
    4. القول الثاني في تفسير: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

      القول الثاني في قوله تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39] أن ذلك في الكتب المنزلة فقوله: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))[الرعد:38] أي: أن الرسل لا يأتون بالآيات أو الكتب المنزلة أو المعجزات والبراهين إلا بإذن الله، وقد جعل الله لكل أجل كتاباً؛ فيكون المعنى: أن الله يمحو ما يشاء من الآيات أو الكتب ويثبت، وعنده أصل الكتاب.
    5. القول الثالث في تفسير: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

      هذا القول هو فرع من سابقه، وهو: أن المحو والإثبات في الشريعة الواحدة، أي: ليست شريعة تنسخ شريعة فقط، بل هناك نسخ في نفس الشريعة الواحدة، فهو كقوله تعالى: ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا))[البقرة:106] فهو سبحانه وتعالى ينسخ ويمحو من القرآن ما يشاء، ويثبت ما يشاء؛ من أحكام الحلال والحرام، (وعنده أم الكتاب) أي: أصله وجملته؛ فالحلال والحرام مثبت فيه، ولكن يحلل لعباده ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء كما يشاء عز وجل، أو ينزل من الآيات على الرسل ما يشاء، ويمحو تلك الآيات ويأتي بآيات أخرى كما يشاء.
      فإن قلنا بالمحو والإثبات في الشرائع عامة، فمثاله أن الله سبحانه وتعالى أيد عيسى بن مريم بالإنجيل، وأعطاه الآيات البينات، ثم محا ذلك وأنزل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأعطاه الآية الكبرى وهي القرآن، وهو ناسخ لما قبله، هذا على القول الثاني.
      أما على القول الثالث الذي هو جزء من الثاني -تقريباً- فيكون المعنى: أن الله سبحانه وتعالى ينزل آيات في القرآن، ثم يمحوها وينسخها، وينزل آيات أخرى في نفس الكتاب، وعنده أم الكتاب، فالقرآن الذي في اللوح المحفوظ لا تغيير فيه، لكن بعض الآيات التي نسخت أحكامها وتلاوتها، أو تلاوتها هذه ليست مثبتة في اللوح المحفوظ، ولا تغيير في اللوح المحفوظ، هذا هو القول الذي ذهب ومال إليه بعض السلف.
    6. القول الرابع في تفسير: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

      القول الرابع في المحو والإثبات: وهو أنه يكون في صحف الملائكة، وقد قيل في قوله تعالى: ((هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] أن معناه: كنا ننقله من اللوح المحفوظ، والإشكال هو أنه: ما دامت الملائكة تنقل من اللوح المحفوظ، فكيف يكون المحو والتغيير واللوح المحفوظ لا محو فيه ولا تغيير؟!
      الجواب: أن الملائكة تكتب ما يعمله العبد طبقاً لما تراه، لا نقلاً عن اللوح المحفوظ، لكن إذا رفعت الأقلام وجفت الصحف وطويت، فإنها تطوى مطابقة لما في اللوح المحفوظ، ولهذا يوجد من تكتب له الملائكة الطاعات وتظن -كالبشر- أنه قد يموت على هذه الطاعات، ولكنه في اللوح المحفوظ مكتوب في ديوان الشقاوة والعياذ بالله؛ فيختم له بذلك، ويمحى ما كتبته الملائكة له من أعمال الخير، ويثبت في ديوان الشقاوة، وتطوى صحيفته بحسب ما في أم الكتاب.
      وهذا معنى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: { فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها } فصحف الملائكة وما تكتبه فيها ليس من القدر في شيء، وإنما هي تكتب أعمالنا، بخلاف الملك الذي ينفخ الروح، فإنه يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، فهذا قدر، أما ما تكتبه الملائكة فهو الواقع الموجود، فإن صلّى العبد كتبوا أنه صلى، وإن زنى كتبوا أنه زنى عياذاً بالله، وهذا الواقع قد يقتضي السعادة وقد يقتضي الشقاوة، وقد تكتب الملائكة أنه زنى وسرق وفعل وفعل، لكنه عند الله تعالى من السعداء، كالرجل الذي قتل مائة نفس، ثم بعد ذلك تاب الله سبحانه وتعالى عليه.
      وكم من رجل كان يعمل في ظاهره بالخير والصلاح، ثم كتبت له سوء الخاتمة..! أعاذنا الله وإياكم من ذلك..!
      وهناك الذين يظلمون ويغتابون الناس، ويؤذون خلق الله، تكتب لهم الملائكة صلواتهم وصدقاتهم وأعمال برهم؛ ويأتي أحدهم يوم القيامة وله حسنات كالجبال، لكنه هو المفلس كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أتدرون من المفلس؟} وذلك أنه يأتي وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا.. وكلها مظالم للعباد، فما بينه وبين الله حسنات، لكن ما بينه وبين العباد مظالم وسيئات؛ فيؤخذ من هذه الحسنات يوم القيامة ويعطى لأولئك الخصوم المظلومين، حتى إذا ما نفدت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه.
      فقد تكتب الملائكة حسنات وتكون النهاية شقاءً، وقد تكتب سيئات وتكون النهاية سعادة، وهذا شيء آخر ولا علاقة تلازمية بينهما.
      فهذا الإشكال كيف تستنسخ الملائكة من اللوح المحفوظ، ومع ذلك نقول: إنه لا تغيير ولا تبديل في اللوح المحفوظ، مع وقوع التغيير والتبديل فيما تكتبه الملائكة؟! نقول في الجواب عنه: إن هذا إذا طويت الصحيفة وانتهت، وهذا الخطاب للكفار إنما هو يوم القيامة وقد طويت صحائفهم، وكتبت عليهم الشقاوة؛ فتشهد عليهم الملائكة بما كتبت في هذه الصحف المسطورة، فلا إشكال ولا تعارض إن شاء الله.
    7. القول الخامس في تفسير: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

      هناك قول خامس في قوله تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39]، وهو: أن الله سبحانه وتعالى ترفع إليه أعمال العباد جميعها، حتى قول العبد: (أكلت، أو شربت، أو أخذت)، والله سبحانه وتعالى يمحو منه كل شيء إلا ما له علاقة بالثواب والعقاب، ولكن أرجح الأقوال وأولاها هو القول الأول: أن المحو والإثبات في الأقدار، وأن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ، وهو ثابت لا تغيير فيه ولا تبديل.
      هناك نوعان من القدر: قدر نافذ، وقدر معلق، فالمعلق مرتبط بسببه؛ إن وقع سببه كان، وإن لم يقع السبب لم يكن، وأما القدر الثابت فهو نافذ لا محالة، وهو الذي في اللوح المحفوظ، كما نطق بذلك القران.
  2. التقدير اليومي

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [أما قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فقال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت]، وهذه هي الكتابة اليومية أو القدر اليومي: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، ومعنى الآية كما ورد عن أكثر السلف: أنه سبحانه وتعالى في كل يوم يقضي وينفذ الأقدار؛ فهو يعز ويذل، ويحيي ويميت، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع. فهذا تدبيره للملك سبحانه وتعالى في هذا اليوم.
    وهنا نأتي إلى مسألة أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى؛ حيث إن اليهود يقولون -كما في التوراة المحرفة الموجودة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى ضمن ما يسمونه الكتاب المقدس- يقولون: إن الله سبحانه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وانتهى ذلك في يوم الجمعة، ثم استراح الرب في اليوم السابع من العمل الذي عمله! ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))[المؤمنون:91] يصفون الله تعالى بما لا يليق به؛ ولهذا عزى الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لما قال له المشركون: شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، يعلمه بشر، مفترٍ، أساطير الأولين اكتتبها... بقوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ))[ق:38-39] أي أن الذين يتهمون الله سبحانه وتعالى، وينتقصون من قدر الله عز وجل، ويصفونه بالعجز والإعياء والضعف، وأنه في حاجة إلى أن يستريح؛ لا تستغرب منهم أن يقولوا فيك يا محمد ما يقولون، سواء كانوا من اليهود أو من المشركين عامة.
    (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) واللغب في لغة العرب هو التعب والعناء، فالله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه ذلك لكمال قدرته.
    والقاعدة في الصفات: أنه ليس هناك سلب مطلق، وإنما إذا ورد السلب (النفي) فلإثبات الكمال المقابل لذلك السلب، قال تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))[البقرة:255] وهذا سلب (نفي)، والمراد به إثبات كمال الحياة وكمال القيومية.
    وهذه الآية (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) فيها إثبات كمال القدرة وكمال القوة لله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا يعتريه ما يعتري البشر من الإعياء أو الضعف أو العجز.
    وهذه المقالة التي قالتها اليهود -قبحهم الله- قد قالوا مثلها كثيراً، مثل: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64]، ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! ومن ذلك أنهم يقولون: إنه استراح في اليوم السابع، ومن هنا كان السبت يومهم المقدس وعطلتهم التي يستريحون فيها.
    يقول: "قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً -العاني هو الأسير- ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً... إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء" وهذه هي مرتبة القدر اليومي، مرتبة الخلق والإيجاد، وهي آخر مراتب القدر، فهي إنفاذ لما في القدر الكوني السابق في علمه سبحانه وتعالى.
    فائدة: القدر اليومي من أنواع الكتابة، وهو المرتبة الرابعة من مراتب القدر (مرتبة الخلق والإيجاد) لكن لذلك تفسير آخر، وهو: أن القدر قدران: منه مثبت ومنه معلق، فالمثبت ما في اللوح المحفوظ، أي: الذي لا تغيير فيه وهو المطابق لعلم الله سبحانه وتعالى؛ لأنا قلنا: المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم، وعلم الله تعالى لا يتغير؛ لأنه يعلم ما كان على الوجه الذي كان، وما يكون على الوجه الذي سيكون، وكتب في الذكر ما يطابق ذلك العلم، فإذاً لا محو فيه ولا تغيير، والقدر المعلق هو الذي علق على أسباب من أفعال البشر.
    ولا إشكال في الجمع بين قوله تعالى: ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[الأعراف:34] وبين أن صلة الرحم تزيد في العمر كما في الحديث؛ لأنهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون عما في اللوح المحفوظ، وليس عما في الأقدار المعلقة.
    عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فيسبق عليه الكتاب} فما هو الكتاب هنا؟ أهو الذي في اللوح المحفوظ؟ أم هو الذي كتب الملك؟
    الجواب: الذي في أول الحديث: {فيؤمر بكتب أربع كلمات} ويطابق ما في اللوح المحفوظ، أي: إن كان في ديوان أهل السعادة فهو كذلك، وإن كان في ديوان أهل الشقاوة فهو كذلك، فيجب على المؤمن أن يحذر ويخاف من سوء الخاتمة، وألا يغتر بعمل طاعة عملها، بل يجتهد في أن تتصل الطاعة بالطاعة إلى أن يلقى الله سبحانه وتعالى، ويخشى الفتنة والنفاق، كما كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومع ذلك يجتهد في الدعاء، ومما يدعو به أن يجعله الله تعالى في ديوان السعداء، وأن يكتبه معهم، فيكون قد أخذ بالأسباب واحتاط لنفسه.
    قال بعض السلف رضوان الله تعالى عليهم في حديث أبي ذر رضي الله عنه... {يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه} قال: [[والله لنجتهدن في طاعة الله حتى إذا أدخلنا النار لم نلم أنفسنا، ونكون قد أعذرنا إلى ربنا، فنقول: قد اجتهدنا ولم ينفعنا]]، انظروا إلى إيمان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بالقدر، فقد كان إيمانهم بالقدر يدفعهم للعمل، أما نحن فلا نجتهد، بل نقول: برحمة الله.. كما يقول أكثر المسلمين اليوم، فيتركون السبب ويعلقون على ما قد كتب، وما قد كتب هو مطابق لما يفعلونه من الأسباب.
  3. قدر الله في رزق العباد

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه].
    قال المصنف رحمه الله:
    [هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
    ما قضى الله كائن لا محاله            والشقي الجهول من لام حاله
    والقائل الآخر:
    اقنع بما ترزق ياذا الفتى            فليس ينسى ربنا نمله
    إن أقبل الدهر فقم قائماً            وإن تولى مدبراً نم له
    ].
    الشرح:
    قال الطحاوي رحمه الله: [وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه]، وهذه الفقرة من كلام الطحاوي رحمه الله هي مقتضى حديث ابن عباس الذي سبق شرحه.
    يقول المصنف رحمه الله: [هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
    ما قضى الله كائن لا محاله            والشقي الجهول من لام حاله ].
    أي: من لام القدر الذي كتب عليه ولم يلم نفسه في أنها لم تأخذ بالأسباب، فكل ما قدر الله كائن، وهذا مطابق لما قال الآخر:
    وعاجز الرأي مضياع لفرصته            حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
    يضيع الفرصة، وإذا ذهب الأمر عاتب القدر. لا يلوم نفسه بل يلوم القدر، وهذا خلاف ما يجب أن يكون عليه المسلم.
    ثم قال: "والقائل الآخر:
    اقنع بما ترزق يا ذا الفتى            فليس ينسى ربنا نمله
    إن أقبل الدهر فقم قائماً            وإن تولى مدبراً نم له "
    وهذه الأبيات من أشعار المتأخرين الذين أولعوا بالمحسنات اللفظية؛ يأتي أحدهم بالكلمة الواحدة ولها معنيان، أو يأتي في البيت الأول بكلمة وفي البيت الثاني بما يجانسها في اللفظ ويختلف عنها في المعنى.
    ويشهد لقوله (فليس ينسى ربنا نملة) قوله تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[هود:6] لا يضيع الله سبحانه وتعالى أي مخلوق على الإطلاق، ولو وكل الله تعالى أمر هذه المخلوقات إلى غيره لحظة لهلك كثير منها؛ لأنه لن يستطيع أن يحرك هذه المخلوقات ويدبرها، ويعلم مستقرها ومستودعها ويطعمها، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر ذلك، وقد فهم السلف الصالح من هذه الآية وأمثالها التوكل على الله، لا التواكل الذي قالت به الصوفية ونسبه الغزالي إلى الخوَّاص ونظرائه، ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن قوماً يجلسون في المساجد ويقولون: نتوكل على الله، كما تتوكل الطير، قال: لا. إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نسعى وأن نعمل، انظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الطير: {تغدو خماصاً وتروح بطاناً} -خماصاً، يعني: جائعة ضامرة البطون، ولكنها تروح بطاناً ممتلئة- قال الإمام أحمد: (فقال: إنها تغدو وتروح). ومن الإيمان بالقدر التوكل أن تغدو وتروح وتسعى، ثم إذا سعيت فإنك تأخذ ما كتب الله لك، وعدم السعي ليس توكلاً على الله، بل هو تواكل مذموم.
    ومن المذموم كذلك أن تقول: إنني سعيت واجتهدت فحصلت على هذا الرزق، كما قال قارون وأمثاله: ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))[القصص:78] فلا تقل ذلك، فإن ما معك إنما هو رزق من الله سبحانه وتعالى، بل قل كما قال العبد الصالح سليمان عليه السلام: ((هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي))[النمل:40] فعباد الله الصالحون يضربون لنا المثل بأنهم ينسبون كل خير وفضل إلى الله سبحانه وتعالى، مع أنهم اجتهدوا وأخذوا بالأسباب، أما المتواكلون والمبتدعون والمنحرفون فيتركون الأسباب، ويظنون أنهم بهذا يؤمنون بالله وبأقداره؛ فلهذا قال الإمام أحمد رحمه الله قال: (تغدو وتروح)، إذاً لابد من السعي وهو الغدو والرواح، لكن ليس الغدو والرواح هو الذي رزقنا، بل إن الله هو الذي رزقنا، والغدو والرواح إنما هو سبب ظاهري أمرنا أن نأخذ به، فمن جهة العبد هو سبب، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب أن يكون في هذا الغدو خير أو لا يكون.
    والقناعة التي أمرنا بها: هي أن نقنع بما أوتينا، ولا يلزم من ذلك ألا نعمل ولا نسعى، بل علينا أن نعمل ونسعى، ثم نرضى بما قسم الله تبارك وتعالى لنا، ونعلم أن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب} فلا يذل الإنسان نفسه ولا يحرص حرصاً شديداً زائداً عن الحد، نعم يحرص على ما ينفعه: { احرص على ما ينفعك }، لكن لا يؤدي هذا الحرص إلى الشح وطول الأمل، والغفلة ونسيان أوامر الله سبحانه وتعالى، والخوف على هذا الرزق، والاتكال والاعتماد على الأسباب وترك الصلة بالله سبحانه وتعالى والتوكل والاعتماد عليه، هذا حرص مذموم، أما الحرص على الخير وعلى ما ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، فهذا أمر مطلوب شرعاً، لكن مع معرفة أن كل شيء بيد الله، وأنه سبحانه بيده الخير يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، كما نقول بعد صلواتنا: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت} هذه عقيدة عظيمة، ولو كان المسلمون الذين يرددونها يؤمنون بها، لغيرت حياتهم كلها.
    لابد أن يتوكل الإنسان ويعمل بالأسباب، ومع ذلك يعلم أن لا مانع لما أعطاه الله، ولا معطي لما منعه الله، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
    إن أقبل الدهر فقم قائماً            وإن تولى مدبراً نم له
    هذا من كلام المتأخرين، وقد يحتمل كلامهم بعض الخطأ؛ لأن المسألة ليست مجرد إقبال وإدبار، فالله سبحانه وتعالى قد يبتليك بأن يكرمك وينعمك، فإذا أعطاك الله، فلا تقل: ربي أكرمني! أنا من أهل الخير والفضل، أما الآخر الذي يضيق الله عليه معيشته ويقدر عليه رزقه، وتدبر عنه الدنيا، فلا يقل: ربي أهانني! كلا..! ليس الإعطاء إكراماً ولا المنع إهانة، وإنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، يبتلي الإنسان بالخير والشر، بالسراء والضراء.
    فالمسألة ليست مجرد إقبال دهر، ولكن هكذا عادة الشعراء، وكثيراً ما ينسب الشعراء كل شيء إلى الدهر.