المادة كاملة    
إذا أحب الله العبد نادى جبريل بأن يحبه فيحبه، ثم ينادي جبريل أهل السماء بأن يحبوه فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض، ولا تنال محبة الله إلا بالطاعة والاستقامة والتقوى، وبرهان محبة العبد لله متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن توكل على الله كفاه، فلم يحوجه إلى غيره، فلا بد من التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب وترك الاعتماد على النفس.
  1. أسباب محبة الله للعبد

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وأيضاً فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مؤنة الناس.
    كما كتبت عائشة إلى معاوية -روي مرفوعاً، وروي موقوفاً عليها: {من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس له ذاماً}، فمن أرضى الله كفاه مؤنة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون؛ إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وقال في البغض مثل ذلك.
    فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل التقوى، وهو أيضاً أهل المغفرة؛ فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، قال بعض السلف: [[ما احتاج تقي قط، لقوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))[الطلاق:2-3]]]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً؛ فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه لا يحوجه إلى غيره.
    وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب. وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام.. كما قد عرف في موضعه.
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، يلبس لأْمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكّاس، أو والي شرطة، أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر]
    اهـ.
    1. طلب رضا الله والحرص عليه سبب لمحبة الله للعبد

      الشرح:
      ذكر رحمه الله الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرائيل -عليه السلام- ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض} وهذا الحديث يدخل ضمن السياق المتقدم الدال على أن الإنسان إذا آمن بالقدر على الحقيقة، فإنه لا يخشى إلا الله، ولا يتقي إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يبالي ببغض الناس أو محبتهم، وإنما يراعي ويراقب أن يكون محباً لله، وأن يكون الله سبحانه محباً له راضياً عنه، وإن سخط الناس عليه وغضبوا، وهذا الحديث مصدق للذي قبله الذي بيّن أن من التمس رضا الله سبحانه وتعالى، ولو كان ذلك بما يسخط الناس ويغضبهم ؛ فإن الله يرضى عنه ويرضي عنه الناس.
      في الحديث أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبرائيل رسول الوحي عليه السلام: {يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه} فالله سبحانه وتعالى .. الكبير المتعال .. العلي العظيم .. من لا تنفعه طاعتنا ولو كنّا على أتقى قلب رجل واحد، ولا تضره معصيتنا ولو كنّا على أفجر قلب رجل واحد؛ عندما ينادي باسم أي مخلوق في الملأ الأعلى، ويقول: {إني أحب فلاناً} ويذكره باسمه، فإن في هذا شرفاً عظيماً جداً، فإن الإنسان إذا ما ذكر باسمه في الملأ الدنيوي فرح واستبشر، ولو أن ملكاً من الملوك ذكر فلاناً باسمه فقال: إنني فخور بفلان، لكانت هذه منقبة عظيمة يتسابق إليها الناس، فكيف إذا كان الذي يذكر هذا العبد هو ملك الملوك سبحانه وتعالى، ويناديه في الملأ الأعلى باسمه؟! كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه: {أوقد سمّاني؟ قال: نعم. فبكى}.
      إن من يدرك عظمة الله وملكه، ويعرف الله حق معرفته؛ لا يكاد يتصور أو يصدق أن الله سبحانه وتعالى يذكره باسمه وهو العبد الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، والذي قد يغفل عنه كثير من خلق الله فلا يذكرونه، ولكن الله سبحانه وتعالى يذكره ويسميه، فيقول: {يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه} فيحبه جبرائيل وتحبه الملائكة الكرام؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولأنهم مجبولون على طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يخالفونه أبداً، فهم يلهمون الطاعة كما أن الناس في الجنة يلهمون الذكر كما يلهمون النفس، فإذا أمرهم الله بشيء، امتثلوا الأمر فلم يعصوه، ثم يوضع له القبول في الأرض من أثر المحبة في الملأ الأعلى، فيكون محبوباً عند المؤمنين الأخيار -لأن هؤلاء الأخيار في الدنيا هم بنفس عبودية الملائكة لله- كما هو هنالك في الملأ الأعلى، فتكون محبة هذا العبد متصلة ما بين الملأ الدنيوي والملأ الأعلى إلى جبرائيل إلى رب العزة والجلال سبحانه وتعالى؛ فكلهم يحبونه لأن الله سبحانه وتعالى قد أحبه؛ لأنه التمس محاب الله ومراضيه تبارك وتعالى، وتجنب ما يسخط الله ويبغضه عز وجل.
    2. اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من دواعي محبة الله

      من أحب الله سبحانه وتعالى حبب إليه الملأ الأعلى والملأ الأدنى، ولا تنال محبة الله إلا بالطاعة والاستقامة والتقوى التي بها يكون بغض كثير من الناس وكراهيتهم وعداوتهم له.
      يقول تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران:31].
      وهذه الآية تسمى: آية الامتحان.. كما قال بعض السلف : "ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية الامتحان: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]" لأن هذه دعوى يستطيع أن يدعيها كل إنسان، ويتوقع في المقابل أن يحبه الله، ولكن إثبات هذه الأمور لا يكون بالدعاوى بل بالبراهين.
      ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31] فبأي شيء تنال محبة الله؟ تنال باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وباقتفاء سنته، وبأن تحب ما يحب صلى الله عليه وسلم، وتخالف وتكره ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل قد ذكر في هذه الآية شرطين متلازمين: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ))[آل عمران:31] فـ(إن): حرف شرط و(كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) جملة الشرط، وجوابه(فَاتَّبِعُونِي) وهذا شرط، جوابه: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فإن كنت تحب الله، فاتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن متابعته شرط لحصول محبته سبحانه وتعالى لك.
      فإذا وصل العبد إلى تحقيق ذلك؛ ألقى الله محبته في قلوب عباده المؤمنين؛ الذين تكون محبتهم للعبد مبنية على محبتهم لله تعالى.
    3. من أسرار عالم القلوب والأرواح

      قال بعض السلف: [[لو أن العبد أطاع الله سبحانه وتعالى في جوف صخرة صماء في شدة الظلماء، لألقى الله محبته في قلوب عباده المؤمنين، ولو أن العبد عصى الله سبحانه وتعالى في جوف صخرة صماء في شدة الظلماء، لألقى الله بغضه في قلوب عباده المؤمنين]] سبحان الله! إن عالم القلوب والأرواح عالم آخر غير تلك العوالم المادية التي هي محدودة بقوانين معينة، فإنك إذا تذوقت طعاماً من الأطعمة، ووجدت طعمه جيداً أكلته وأحببته، وإذا وجدت طعمه أو رائحته غير ذلك أبغضته، فهذا قانون جعله الله سبحانه وتعالى لهذا الشيء، أما أن ترى أو تسمع عن شخص فتحبه، ثم تسمع بآخر ربما كان ظاهره الخير والصلاح فتبغضه، فهذا دليل على أن لهذا العالم قوانينه وسننه ونواميسه الخاصة به.
      ومن أسرار عالم القلوب والأرواح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {الأرواح جنود مجندة؛ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف} كيف تكون الأرواح جنود مجندة؟ يقول بعض المبطلين المتأولين من الصوفية : إن ذلك كان عند تلاقي الأرواح وتعارفها في عالم الأرواح قبل أن تخرج إلى عالم الدنيا، حيث كان لها جولان حول العرش قبل أن يضعها في الأجساد، وقد تعارفت هناك، ففي الدنيا إذا تلاقى اثنان، وكانت روحهما قد تعارفتا هناك، حصل بينهما التعارف والتآلف. ولكننا لسنا بحاجة إلى هذا الكلام؛ لأن التعارف والتآلف لا يكون إلا بمثل ما نطق به الحديث، فإن المتقي يحب المتقي، فإذا رأيت تقياً مثلك لدقائق أو لساعات، فإنك ستحبه وتشعر بأنك قد صحبته العمر كله؛ لأنك وجدت في قلبك ميلاً شديداً إلى حبه، وهو يشعر بذلك أيضاً؛ لأنكما اتفقتما على تقوى الله سبحانه وتعالى، وإن التقيت بشخص آخر مظهره أو كلامه فيه ما فيه، ولكنه لم يكن تقياً، فإنك تجد في نفسك النفور منه، وربما هو يشعر بذلك أيضاً.
      ولهذا نجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الأخيار من الصحابة الكرام كانوا يتحابون رضوان الله تعالى عليهم، وكانت هناك المحبة القوية بين المهاجرين منهم والأنصار، وكانوا يعيشون بتواد وتراحم فيما بينهم، ونجد أن المنافقين كان بعضهم يميل إلى بعض، ويتناجون فيما بينهم بالإثم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، بل حتى في الجهاد يكونون وحدهم، وهم كذلك في أي مكان، حتى إنهم بنوا مسجد الضرار ليكون مركزاً لتجمع وتكتل النفاق، واتخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فلو جاء منافق من هجر أو البحرين أو اليمن، فإنه سينزل عند عبد الله بن أبي وطائفته، ولو جاء مؤمن تقي من أطراف الدنيا، لنزل عند أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو طلحة أو أحد الصحابة الأخيار، فالنفوس ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وكل يميل إلى من هو على شاكلته، فالمؤمن إذا ذهب إلى أي بلد من بلدان العالم، فإنه يبحث أولاً عن المسجد، فإن وجد مسجداً، فإنه يسأل: هل هذا المسجد لـأهل السنة لأصلي معهم وأجتمع بهم إليهم؟ ولكن من كان من أهل الفجور والفسق والمعاصي -عياذاً بالله- فإنه أول ما يسأل عن أماكن الفجور والمعاصي والدعارة.. نسأل الله العفو والعافية.
  2. أثر محبة الله للعبد

     المرفق    
    إذا أحب الله تعالى العبد، نتج عن ذلك محبته في الملأ الأدنى، أما إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله، فإنه لن ينال رضا الله ولا رضا الناس أيضاً، وسينادي الله جبريل فيقول: {يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل ثم ينادي جبريل في الملأ الأعلى بذلك، فيبغضه أهل السماء، ثم يلقى له البغض في الأرض}، فلا يجد إلا مبغضاً له؛ حتى وإن أحسن إلى الناس، وفعل لهم ما فعل، وأما الذي قد أحبه الله، فإن الناس يحبونه وإن أساء إلى الناس بما أساء.
    ومن القصص التي تحكى وفيها عبرة: أن رجلاً من الناس جاء إلى هشام بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين! قد كانت لي ضيعة، أعطاني إياها عبد الملك، وأقرني عليها الوليد، وأقرني عليها سليمان، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأخذها مني، وأريد منك أن ترد علي ضيعتي، فقال له الخليفة: أعد ما قلت، قال: كان لي ضيعة، أعطاني إياها عبد الملك، وأقرني عليها الوليد وسليمان، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأخذها مني، وأريد أن ترد علي ضيعتي، فتعجب كيف يترحم عليه وقد أخذ ضيعته، ولم يترحم على الذين أعطوه!!
    إن الإنسان لا يملك إلا أن يحب من أحبه الله، وأن يجري الله على لسانه ذلك، ولو قيل لهذا الرجل: أيهما خير عندك عمر بن عبد العزيز أم هشام والوليد ؟! فإنه لن يعدل بـعمر بن عبد العزيز أحداً أبداً، وإن كان يشكو أنه أخذ منه ضيعته، فإن ذلك إنما هو من باب الحرص على الدنيا وحب الخير، كما قال الله عز وجل: ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ))[العاديات:8] لكن لأن فيه بذرة خير -وهي الإيمان الذي في قلبه- فإنك تجد نفسه تندفع لتترضى وتترحم على ذلك الرجل الذي أحبه الله، فألقى له المحبة في الأرض، فلا يبصره أحد إلا وهو يحبه ويثني عليه، وإن كان يدعي أو يزعم أنه ظلمه، ولكن لو كان العكس -عياذاً بالله- وكان هذا الخليفة ممن يسعون لإرضاء الناس، فبذلوا بيت المال لشاعر أو لماجن أو لقريب، لكان كل منهم يقول: هذا مالي.. هذا ملكي، وقد أخذته عن جدارة واستحقاق، ويجحدون ذلك الفضل، وهذا كما في الرواية الأخرى: {عاد حامده من الناس له ذاماً} وليس هذا على مستوى الفرد فحسب؛ بل على مستوى الأمة ككل؛ فالجيل الأول كانوا يلتمسون رضا الله، وكانوا مؤمنين بقدره سبحانه، ولا يخشون إلا الله، ولا يتقون غيره، ولهذا فتح الله تعالى لهم ممالك العالم القوية، وأصبح الناس يلهجون بالثناء عليهم وبذكرهم والترضي عنهم؛ لأنهم عن طريقهم دخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وإن كانوا قتلوا آباءهم؛ فإنك تجد النصراني في مصر أو في بلاد الشام والمجوسي في العراق وقد قتل المسلمون أباه وأخاه وربما كل أسرته، لكنه بعد أن أسلم صار يدعو لهم، ويحمد الله أن أرسل هؤلاء الفاتحين، ففتحوا أرضه حتى أنعم الله عليه بالإيمان والإسلام، فلمّا تعاقبت الأجيال، وذهب ذلك الجيل المبارك، أتى من يسترضون الكفار ويطلبون مدحهم، ويثنون عليهم بسخط الله؛ حتى تخلوا عن شيء من دينهم أو أشياء، فأصبحوا يخفون بعض عباداتهم ويتسترون ببعض ما يؤمنون به من دينهم حتى لا يذمهم الكفار فيه، ويقولون للكفار: إننا نحبكم ونودكم، وإننا جميعاً أسرة واحدة، ومع ذلك، يصفهم الكفار بالتخلف، وأنهم من العالم الثالث، ويتهمونهم بالتأخر والانحطاط والهمجية، وأنهم رعاع لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم، أو كيف يستفيدون من ثرواتهم، وينظمون أوقاتهم، ويخططون لحياتهم.
  3. منافع تقوى الله وأضرار تقوى المخلوق

     المرفق    
    يقول: "فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق، وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة" أي أنه: إذا اتقى العبد المخلوق، فإن الضرر راجح من وجوه كثيرة، منها: أن ذلك المخلوق يعود له ذاماً، وينزل الله سبحانه وتعالى بغضه في قلبه، وإن كان يظن أنه تقرب وتحبب إليه.
    1. التقوى سبب للنصر والسعادة

      "وتقوى الله عز وجل هي التي تحصل بها سعادة الدنيا والآخرة"، ولو لم يكن من تقوى الله إلا سعادة الآخرة لكفى، وإلى أي شيء يسعى عباد الله المتقون إلا لها؟! ولكن الله تعالى تفضل بزيادة النعمة، فجعل سعادة الدنيا مرتبطة بتقواه والإيمان به والعمل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))[طه:123]... ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51] ففي الدنيا يجعل الله سبحانه وتعالى العاقبة للمتقين؛ فينصر عباده المؤمنين، ويقر أعينهم بهزيمة أعدائهم: ((وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))[الصف:13].
      هذا في الدنيا، وهو غير النعيم الذي وعدهم به في الجنة عنده سبحانه وتعالى، فمن فضله عز وجل أن جعل سعادة الدنيا والآخرة تنال بتقواه، فإذا اتقاه العبد حصل له كل خير في الدنيا والآخرة.
      يقول: [فهو سبحانه أهل التقوى، وهو أيضاً أهل المغفرة]. فهو الذي يتقى، وهو الذي يغفر الذنوب "فإنه هو الذي يغفر الذنوب؛ لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه" فالمخلوق عاجز عن أن يغفر، وإذا لم يغفر الله للعبد فهو معرض للعقوبة، فمن الذي يجب أن يُتقى؟! ذاك الذي يملك أن يغفر، والذي يجير ولا يجار عليه، أم الذي لا يجير ويجار عليه؟! إن من يجير ولا يجار عليه هو الذي يتقى، وهو الله وحده لا شريك له، ولهذا قال بعض السلف : [[ما احتاج تقي قط، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))[الطلاق:2-3]]]، فالتقي: هو المتقي لله سبحانه وتعالى، وهو لن يحتاج؛ أي لن يفتقر إلى المخلوقين افتقاراً كلياً.
      من اتقى الله جعل له من الضيق مخرجاً، وجعل له من أمره يسراً، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، فجعل المخرج مرتبطاً بالتقوى، فالتقوى كالشرط لحصول المخرج مما فيه العبد، وإن طال به الدهر، وامتد به الألم أو الضيق.
      والله سبحانه وتعالى قد حقق ذلك لكل عباده الأتقياء من الأنبياء والصالحين، كما حققه للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة الكرام عندما ضيّق عليهم الكفار في مكة، واشتدت عليهم وطأتهم حتى بلغ بهم الكرب مبلغه، فقد حصرهم الكفار في الشعب حتى أكلوا أوراق الشجر من شدة الجوع الذي أصابهم، فلأنهم كانوا يتقون الله جعل لهم من أمرهم مخرجاً، وفتح الله تعالى عليهم حتى هاجروا وأعزهم الله عز وجل، ثم رجعوا إلى مكة فاتحين، ودخلوا المسجد الحرام آمنين لا يخافون، محلقين رءوسهم ومقصرين.
      سبحان الله! هذه هي عاقبة التقوى وإن طال الزمن: ((وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ))[ص:88] فما احتاج تقي قط، لأن الله قد ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق به الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فهذا فضل منه سبحانه وتعالى.
      فقد جعل الله لهم الدنيا التي يسعى إليها كثير من الناس ويسخطون الله بسببها، ولهذا قال بعض السلف: [[حب الدنيا رأس كل خطيئة]] فلو نظرت إلى أي خطيئة أو ذنب لوجدت أن سببه إيثار الدنيا على الآخرة، ومحبتها والرغبة بالتمتع بما فيها من شهوات حسية أو معنوية: كالشهرة أو المنصب أو المجد مثلاً؛ فالدنيا أساس كل ذنب وخطيئة ومصيبة، فالمؤمن إذا علم أن التقوى هي أساس الرزق، وأنه إذا اتقى الله سيرزقه من حيث لا يحتسب؛ لم يعص الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يحصل ذلك الرزق، فعليه أن يتفقد تقواه.
      ولهذا قال رحمه الله: [فإذا لم يحصل ذلك دلّ على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه] إذا لم يحصل المخرج من الضيق، فليعلم أن في تقواه خللاً، لابد أن يراجع نفسه ويبحث عن الباب الذي حصل في الخلل، كما جاء في الحديث: {إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه} فحرمان الرزق إنما هو بسبب الذنوب التي أهلكت الأمم قبلنا؛ فهي التي تمنع عن الناس رحمة الله، فيحرمون الغيث ويبتلون بالسنين لكي ينيبوا إليه ويستغفروه، فإذا اتقوا ربهم عز وجل أغاثهم: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا))[نوح:10-12] علمهم نوح عليه السلام أن يقوموا بأمر واحد فقط لينالوا الخيرات العظيمة والمغفرة والنعيم والبركة والسعادة والرخاء والأموال والبنين، وهو أن يستغفروا الله عز وجل، فكل هذه الأشياء لا تنال إلا بتقوى الله، لا بالخطط وإن أحكمت، ولا بالتدبير الاقتصادي وإن أحكم، ولا بالذهب ولا الدنانير ولا الدراهم، قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ))[الأعراف:96]، وقال تعالى: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا))[الجن:16]، وقال: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ))[المائدة:66] ((وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ))[النساء:39] ماذا يخسر الإنسان إن أطاع الله؟! وماذا عليه لو آمن بالله واليوم الآخر واتقى الله عز وجل؟! لا شيء، بل سينال في الدنيا السعادة والطمأنينة، ويفوز بالجنة في الآخرة عند الله سبحانه وتعالى.
  4. التوكل على الله

     المرفق    
    قال المصنف: [ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه، لا يحوجه إلى غيره]. والحسب هو: الكافي، كما في الحديث الصحيح: {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} أي: يكفيه شراً أن يحقر أخاه المسلم {وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))[النساء:41] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك} أي: يكفيك.
    فمن توكل على الله فهو كافيه، قال تعالى: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ))[الزمر:36] وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))[الأنفال:64] أي: كافيك الله، ومن اتبعك من المؤمنين يكفيهم الله أيضاً، وهذا هو الفهم الصحيح لهذه الآية، لا كما يفهمها أهل الضلال والبدعة من أن معناها: حسبك الله والمؤمنون، والآية إنما هي من باب ذكر المبتدأ وحذف الخبر؛ لأنه معلوم، وهذا أسلوب في اللغة العربية معروف كما في قوله تعالى: ((أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ))[التوبة:3] أي: ورسوله بريء من المشركين أيضاً.
    " ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه؛ لا يحوجه إلى غيره" إذا توكل العبد على الله كفاه الحاجة إلى غيره، وأغناه بفضله عمّن سواه.
    1. ضلال الصوفية في فهم التوكل على الله

      وهنا مسألة خطيرة يقع فيها كثير من الناس، وبالذات العوام منهم، فهم يخلطون في مسألة، ويظنون أن التوكل على الله سبحانه وتعالى معناه ألا يتعاطى الإنسان معه الأسباب ولا يأخذ بها.
      يقول المصنف رحمه الله: "وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب" لا يكتسب ولا يتعاطى الأسباب ويحتج بأنه متوكل! "وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب" يحتج هذا الذي يزعم أنه متوكل ويقول: ما دامت الآجال والأرزاق مكتوبة فلماذا آخذ بالأسباب؟! الرزق مقدر لي، فلماذا أجتهد لأنال شيئاً من الرزق؟! والعافية مقدرة لي أيضاً، فلماذا أجتهد في طلب العافية؟!
      "وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب".
      وتعتبر الصوفية من أعظم الناس ضلالاً في باب التوكل، حتى قال قائل منهم: لا حاجة للدعاء، ومع الأسف فقد انتشرت مقولة بين العوام تقول: (علمك بحالي يغنيك عن سؤالي)، سبحان الله! نعم.. الله تعالى عليم بحالك، لكنه أمرك أيضاً أن تدعوه.
      والصوفية جاءوا في هذا الباب بالعجب العجاب، حتى إن أبا حامد الغزالي جعل للتوكل مقامات ودرجات:
      الدرجة الأولى: أن يمشي الإنسان في الصحراء بغير زاد ولا مؤونة توكلاً على الله، وثقة بأنه سوف ييسر له الرزق.. قال: وهذه أعلى مراتب التوكل، وهي مرتبة الخوَّاص ونظرائه؛ والخواص ونظراؤه هم من الصوفية المشائين السائحين، فإما أن يتيسر له ما يأكله أو يأكل عشباً أو أي شيء.
      هذا غاية التوكل عند الصوفية، وهو ما أبطله الله بقوله تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ))[البقرة:197] فقد كان بعض الناس يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله بأن يتزودوا، ونبههم إلى أن خير الزاد هو التقوى، ولا تعارض بينهما، فتزودوا من الدنيا، ولكن خير الزاد فيها هو التقوى، فهذه أعلى درجات التوكل عند الطبقة العليا من الصوفية؛ فلا يكتسب ولا يتعاطى، ولا يقيم بمكان فيه أسباب الرزق، وإنما يذهب إلى الصحراء حيث لا سبب، وإنما يثق بالله ويتوكل عليه.
      الدرجة الثانية: وهم أقل توكلاً، وهم الذين يقيمون في الأمصار والقرى، ويمكثون في المساجد يذكرون الله سبحانه وتعالى ويتعبدونه، ويتوكلون على الله في رزقهم اعتماداً على ما يقدم إليهم من صدقة أو هدية أو عطية من الناس، وهؤلاء أقل درجة من الأولين.
      يقول الغزالي : "وهذا أقل توكلاً من سابقه؛ لأنه في مكان متعرض فيه للأسباب" لأن الناس عادة إذا رأوا أحداً في المسجد أعطوه، فهذا متعرض للأسباب، وهو أقل إيماناً من ذلك الذي خرج بلا سبب.
      ويجاب عليهم بأن أعلى المتوكلين درجة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل فعل شيئاً من هذا؟! هل ألقى بنفسه في المهالك وألقى أصحابه معه؟! لا.
    2. الرد على الصوفية وبيان أنواع الكسب

      يقول المصنف رحمه الله راداً على المتواكلين من الصوفية وغيرهم: [إن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب] فبدأ في الرد عليهم بذكر أقسام الاكتساب، فالكسب في ذاته ليس حراماً؛ بل هو أنواع: فالاكتساب الفرض: كمن يكتسب ما يقيم به نفسه ومن تجب عليه نفقته، ولو أن أحداً مات جوعاً ولم يأكل ولا من ميتة أو من خنزير أو أي شيء، لكان كقاتل نفسه، وأثم بذلك، لأنه كان يجب عليه أن يأكل ويتعاطى الأسباب.
      وقال بعض العلماء مثل ذلك في التداوي أيضاً، فلو علم أن هذا الداء سيقتله، وجب عليه أن يتداوى، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: {تداووا عباد الله} على الوجوب، فيجب عليه أن يتداوى.
      ويجب عليه أن يكتسب ما يستر به عورته وعورة من يعول، فيجب عليه أن يكتسب حتى يستر امرأته جميعها حتى لا يرى منها شيء.
      وأما الاكتساب المستحب فهو مثل قول القائل: أكتسب لأكفل اليتيم، ولأتصدق على المحتاج، ولأنشر العلم، وأطبع الكتب الطيبة، أو أبني المساجد، فهذا شيء مستحب.
      وأما الكسب المباح فهو أن يزيد على ذلك ليكسب المال من طرقه الحلال دون أن يشغله عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
      وأما الكسب المكروه، فهو ما يشغله عن المستحبات والنوافل وما أشبهها.
      وأما الكسب الحرام، فهو ما لا يخفى: كالربا، وكمهر البغي، وكحلوان الكاهن، وكالبيوع المحرمة التي فيها غرر أو غش، وكأي مال يأخذه على أي عمل حرام، كأن يقال له: آذِ فلاناً أو اضربه ولك أجر، وكمن استؤجر في أمر حرام، وما أشبه ذلك من الكسب المحرم.
    3. صور من توكل النبي صلى الله عليه وسلم

      يقول المصنف: [وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين] وهذا بلا شك، لا كما قال الغزالي وغيره، قال المصنف: [يلبس لأمة الحرب] فقد كان إذا خرج للجهاد يلبس درعه.. بل كان يلبس درعين أحياناً، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، وحفر الخندق أخذاً بالأسباب، وفي جميع معاركه كان يترصد القوم، فيبث العيون -الجواسيس- ليأتوا له بالأخبار، ويأخذ من الخيل ما استطاع.. كل ذلك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب.
      [ويمشي في الأسواق للاكتساب حتى قال الكافرون: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ]، والحقيقة أن أكثر كسبه صلى الله عليه وسلم ونفقته كان من خمس الغنائم، وهو أشرف أنواع المكاسب، ولهذا يقول: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فالله تعالى جعل من هؤلاء الكفار عبيداً للدنيا، يجمعونها، ثم يأتي عباد الله الصالحون، فيجاهدونهم، فيرثون هذه الأموال والكنوز والحضارات: {والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } يعني كسرى وقيصر، وقد أنفقت في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم.
    4. بدائل الكسب المشروع عند الصوفية

      يقول المصنف رحمه الله: [ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم؛ إما صدقة أو هدية، وقد يكون ذلك من مكّاس أو والي شرطة أو نحو ذلك]، فهذا الذي يقول من الصوفية : أنا أترفع عن الكسب، وأخشى أن يكون حراماً، أو أنا أتوكل على الله، ويجلس في المسجد يتمتم ويهمهم بالمسبحة، فإذا جاء من يتصدق عليه أخذ منه، لأنه لا يمكن أن يعيش إلا بالصدقة، فنقول:
      أولاً: اليد العليا أفضل من اليد السفلى؛ فالمعطي خير من الآخذ الذي جعل نفسه في المنزلة الدنيا.
      ثانياً: هذا آثم لأنه ترك الأسباب التي أمر الله بها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في عهد الصحابة فقال: {لأن يحمل أحدكم فأساً ويحتطب خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه} فهذا آثم؛ وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له عمن يقول: إن المكاسب أصبحت حراماً، حتى لو أنك وردت إلى نهر دجلة لتشرب، لا تضمن أنه حلال؛ لأنه يلقى فيه أشياء من الحرام.
      سبحان الله! هل يضيق الله علينا إلى هذا الحد؟! فلنفترض أن الأمر كذلك، فمن أين تكتسبون؟! من صدقات المسجد! من المتصدق؟! إن المتصدقين قد يكون منهم من هو مكّاس، وهو الذي يجعل على الطريق حاجزاً، فلا يجاوزه أحد حتى يدفع الضريبة، وصاحب المكس أعظم ذنباً من الزاني، بدليل حديث الغامدية؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لوسعته} فصاحب المكس أعظم ذنباً وأشد جرماً من الزاني عياذاً بالله تعالى، فهو يأخذ العشور والضرائب، ثم قد يتصدق منها كما يفعل بعض الناس في كل زمان ومكان، يأكل الربا ويأخذ المكوس، ويبني مسجداً أو يطعم هؤلاء الصوفية ويقولون له: جزاك الله خيراً! ويقبلون يديه، ويكونون من حاشيته.
      قال: "أو والي شرطة" وقد يكون المتصدق والي شرطة، وهذا الاسم ارتبط منذ القدم بالظلم، وليس ذلك خاصاً بالشرطة، لأنه قد يكون من ولاة الشرط من هو عادل، والظلم قد يكون في غيرهم ولكن جاء ذكرهم كمثال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: {صنفان من أمتي لم أرهما؛ نساء كاسيات عاريات، وقوم بأيديهم سياط كأذناب البقر} قيل: هم الشرط؛ لأن الشرط في العادة محل ظلم إذا كان الوالي ظالماً، بخلاف إذا ما كان الوالي عادلاً، فإنهم يكونون عادلين.
      فالمقصود: أن الإنسان قد يأخذ من مرابٍ أو آكل حرام أو ظالم، ويظن أنه متوكل ولم يتعرض للكسب الحرام، ولو أنه عمل وأكل من كسب يده لكان ذلك خيراً له، وهو أفضل الكسب كما كان نبي الله داود عليه السلام يأكل من عمل يده، وكما أمر الله تعالى هذه الأمة أن يكتسب الإنسان منهم، ويأكل من عمل يده، ولا يعتمد على غيره.