قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها؛ لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.
وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثُمَّ الآخر يقويه، إِلَى أن ينتهي إِلَى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة عَلَى الصدق والكذب ونحو ذلك] اهـ.

الشرح:
يذكر المصنف: أن هناك قرائن وأموراً تجتمع في أي قضية فتحولها إِلَى يقين، وضرب أمثلة بحال الإِنسَان في الأكل والشرب وغير ذلك.
فالإِنسَان إذا أكل شيئاً من الطعام حصل له شيء من الاكتفاء، فإذا أكل كثيراً حصل له الشبع التام هذا في المحسوسات.
وكذلك اليقين في الأخبار العادية، فإنه إذا حدثك رجلٌ أن أمراً ما قد حدث، فإنه سيحصل عندك نوع من العلم بأن هذا الأمر قد وقع فعلاً؛ لكن لو حدثك آخر ثُمَّ آخر، ثُمَّ قرأته في كتاب، ثُمَّ سمعت النَّاس يتحدثون عنه، لحصل لديك به علم يقيني.
بحيث لو جاءك إنسان آخر وقَالَ: هذا الكلام كله لم يحصل ولم يقع، فسيكون لك ردة فعل عَلَى هذا الكلام، ولا يمكن أن يدفع ما ثبت عندك يقيناً.

وهكذا كَانَ حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقلت الركبان أخبار بعثته كما في حديث أبي ذر الغفاري المعروف الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم فإنه لما سمع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج، أرسل أخاه فَقَالَ له: ائتني بخبر هذا الرجل الذي قد خرجَ، والقصة معروفة.
وغيرها كثير ممن سمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج، أو في أسواق العرب التي كَانَ يغشاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبلغ الدعوة فيها، ويتحدث عنها النَّاس وتأتيهم الأخبار من الذين يؤمنون من أقوامهم فيذهبون إليهم، ويقولون لهم: ذهبنا إِلَى هذا النبي، ورأيناه ووجدناه يدعو إِلَى كذا وكذا فيؤمن القوم أو بعضهم.
ثُمَّ بعد ذلك يأتي وفدهم إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حصل للوفود التي وفدت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد آمنوا بنبوته، ولكن وفدوا يريدون اليقين، فعندما يسألونه ويرونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي اليقين الكامل بصدق نبوته، وقد يبقى أيضاً من الشكوك عند البعض الآخر فيرتدوا ثُمَّ تكون الحرب عليهم.
الشاهد من هذا أن الخبر - دائماً - يحصل ويأتي إِلَى النفس بطريقة انفرادية، ثُمَّ ما يزال يقوى وتجتمع منه أمور معينة تجعله يتأكد وهذا يدل عَلَى أنه ليس من الشرط لحصول اليقين أن تلزم طريقاً واحداً، كما يلزمنا به المتكلمون من المعتزلة أو غيرهم، وطبيعة الحياة، وطبيعة الاجتماع البشري تكون في الأخبار والأحداث العظيمة عَلَى الطريقة التي ذكرنا، وليس هناك حدث أعظم وأضخم من حدث النبوة أو دعوى النبوة.

إنها قضية كبرى عند جميع الناس، فالذين بعث إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت النبوة عندهم حدث عظيم؛ لأنه لم يبعث فيهم نذير ولا بشير قبله، فكان لا بد أن يستغرق أذهانهم بالتفكير فيه، ولا سيما أن هذا المبعوث بعث في قلب مركز وثنيتهم وعبادتهم، وبجوار البيت الذي يعظمونه جميعاً، ومن نفس الأسرة التي هي أشرف الأسر، وهو من ذرية إسماعيل عَلَيْهِ السَّلام ولد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، اللذين بنيا هذا البيت، وأما الروم واليهود وأمثالهم فإن لديهم الكتبَ التي فيها صفات هذا النبي، وكانوا ينتظرون زمانه، وقد أخبر كثير منهم بأن هذا الزمان هو زمان هذا النبي فعندما كانوا يتحسسون الأخبار كما حصل من بحيرا الراهب الذي كَانَ في بصرى، فقد كَانَ يخرج من الصومعة ويتحسس الأخبار، وينزل عَلَى طريق القوافل التجارية بين بلاد العرب وبين الروم، ويقول: هل ظهر نبي آخر الزمان؟ هل جاءكم أحد؟ هل أخبركم أحد؟ حتى وجد ركباً فأخبروه أنه قد ظهر نبي آخر الزمان.
وأيضاً الراهبان اللذان تعبد عندهما سلمان الفارسي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ما زال كل واحد منهم يسلمه إِلَى الآخر، إِلَى أن قال له :آخرهم: (لا أعلم أحداً اليوم في الأرض عَلَى ما أنا عليه إلا أن نبي هذا الزمان قد ظهر فالتمسه في بلاد العرب، في أرض ذات نخل بين حرتين)، ولهذا جَاءَ سلمان الفارسي يبحث عن الدين لذاً كَانَ اهتمام القوم بهذا الأمر عظيماً؛ لأنهم يترقبون هذا النبي ويتوقعونه فأخذت آياته تظهر.

وكانت أعظم آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رآها أُولَئِكَ النَّاس أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الإِنسَان يرى هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان وشرب الخمور ووأد البنات والظلم والنهب والجور إِلَى أمة مؤمنة تقية عادلة بارة، لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم منها، ولا حاكماً أعدل منها، تتواصى بالحق وبالصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبعث مكارم الأخلاق التي اندثرت في قلوب الأمم عَلَى مر القرون.
فكان الرجل من الأمم إذا رأى أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو استطلع أخبارهم وأحوال جيش الْمُسْلِمِينَ يتعجب أشد العجب من أخلاق هذه الأمة ومن تعاملها، وهذا هو الذي يغزو قلوب النَّاس أكثر مما تغزوهم المسائل النظرية والجدلية.
وما زال خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتردد بينهم، وآياته تظهر حتى صدقوا وآمنوا، ودخلوا في دين الله برغبة وصدق، مع أنهم لم يكونوا يفهمون اللغة العربية إلا من كَانَ عربياً بطبعه، ومن تعلمها فيما بعد، فآمنوا وحملوا السيوف للجهاد، وآمنت أمم في أصقاع الدنيا وجاهدت من أجل هذا الدين، بناء عَلَى هذه الآيات الواضحات في خلق أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحق الذي جَاءَ به هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمقارنته بالفطرة وبمكارم الأخلاق التي تؤمن بها كل فطرة سليمة، ويهدي إليها كل عقل رشيد سليم، فهذا من أعظم الآيات الدالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون حاجة إِلَى ما ذكره أُولَئِكَ المتكلمون،
وهناك أدلة أخرى سيذكرها المؤلف أيضاً.