ولم يكن أمام هرقل إلا أن تستيقظ وتصحو، لكن الأمر لم يصل إِلَى حد الإيمان الذي يدفع بصاحبه لأن يبيع كل عرض من أعراض الدنيا لهذا الدين، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختص برحمته من يشاء.
فـهرقل لما جمعهم قَالَ: إن أمر هذا النبي قد ظهر، وإنه نبي حقاً، وإنه النبي الذي أخبرت عنه التوراة والإنجيل، وقد كتبت إِلَى صاحب روميا وصاحب روميا هو عادة يكون البابا الأكبر أي: أكبر رجل في الدين النصراني.
وخاصة في المذهب الكاثوليكي الذي يقطن حالياً في روما في الفاتيكان- وقد صدق بهذا النبي، وأرى أن ندخل في دينه وأن نسلم جميعاً ونتبعه.
فلما قال ذلك وجدها الأتباع كلمة ثقيلة جداً عليهم، ورأوا أنهم بين أحد أمرين: إما أن يدخلوا في الإسلام، وهذا شيء لا يريدونه ولا يطيقونه، ولا سيما من كَانَ منهم في منصب وفي مرتبة دينية عظيمة، فإنهم يتوقعون أن يفقدوها إذا آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتاروا بين ذلك وبين أن يعلنوا مخالفتهم لـهرقل، فربما أسلم وأخذ بالقوة والعزيمة فيقتلهم، أو تكون فتنة بينه وبينهم، فحاصوا وخرجوا مندفعين إِلَى الأبواب؛ ليفروا من هذا الاجتماع، ولينفضوا من هذا اللقاء.
ولكن هرقل كان قد أوصد الأبواب فلم يجدوا منها منفذاً، ولما رأى أن الأكثرية قد هربت وذهبت إِلَى الأبواب لتخرج منها، وهو في القلة التي لو آمنت لما كَانَ لها دوراً وقيمةً.
آثر هرقل الدنيا عَلَى الآخرة، واختار الكفر عَلَى الإيمان، واختار المنصب والملك عَلَى الهداية والرشاد.
فَقَالَ لهم: عودوا عودوا، إنما قلت ذلك لأختبر إيمانكم، واختبر قوة عقيدتكم، فما دمتم بهذه القوة فلا نزاع، فرجعوا جميعاً، وترك الموضوع، وذهب في موضوع آخر.

ومع ذلك بقي في نفس هرقل أن هذا النبي عَلَى حق، وأنه سوف ينتصر؛ ولهذا لما جاءه جيش أبي عبيدة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ودخلوا إِلَى دمشق، وتقدموا إِلَى حمص خرج هرقل، وقد كَانَ فيها وقَالَ: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده.
لأنه كَانَ يعلم أن ما قال لـأبي سفيان: {ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين} سوف يتحقق.
ثُمَّ رحل من سوريا وتركها - وهي بلاد الشام، وأما صاحب رومية الذي كَانَ يعتبر القسيس الأعظم فإنه دخل في الإسلام، وأعلن إسلامه أمامهم، فتناوشوه بالسيوف وقطعوه، فكانت شهادة له عند الله بإذن الله.
فهذا آخر ما آل إليه الخبر
.
والشاهد منه أننا نعلم أن هذا العدو -الإمبراطور عظيم الروم- أسلم وآمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال ما يعرفه من صفات النبوة التي جاءت في الكتب المنزلة، والتي طابق وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها.
مع أن هرقل لم يرَ آية من آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ انشقاق القمر، ولم يرَ الماء وهو ينبع من بين أصابعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ الطعام وهو يفرغ من القدر فيكفي المئات بينما هي طُبخت لأفراد، ولم يرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعطي سهمه في الحديبية، ويوضع في البئر فإذا الماء يفور منها.
وغيرها من الآيات البينات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرها هرقل.
وإنما جاءه هذا الكتاب فقط، وفيه دعوة موجزة إِلَى التوحيد، فطابق بين ذلك وبين ما وصفه به أبو سفيان عدوه في ذلك الحين، فرأى أن هذا هو النبي حقاً.
فالشاهد من هذا أن العلم بالنبوة وثبوتها، أو العلم بأي قضية أو بأي مسألة من مسائل الاعتقاد لها في الإثبات طرق يحصل بها اليقين، غير الطرق التي يقولها المتكلمون.