المادة كاملة    
لقد دلت السنة النبوية على أن الأقلام أربعة: الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، الثاني: حين خلق آدم. الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، وهو ما يكتبه الكرام الكاتبون. وكلها متضمنة لدرجات الكتابة الخمس.
  1. آثار الإيمان بالقدر

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.
    والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة -وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره-:
    القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.
    القلم الثاني: حين خلق آدم عليه السلام، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم، عقيب خلق أبيهم.
    القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
    القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة.
    وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى؛ قال تعالى: ((فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ))[المائدة:44].. ((وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ))[البقرة:40].. ((وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ))[البقرة:41].. ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ))[النور:52]... ((هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ))[المدثر:56]، ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة.
    ولابد لكل عبد أن يتقي أشياء؛ فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً، فلابد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته.
    فحينئذ؛ فلابد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم، بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: "رضا الناس غاية لا تدرك؛ فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه"، فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور
    ].
    الشرح:
    لقد أحسن المصنف رحمه الله وأجاد؛ حين عقب على باب القدر بهذه الفقرة، ولا سيما أنه ذكر فيها آثار الإيمان بالقدر على الإنسان؛ من تقوى الله سبحانه وتعالى، والصبر على ما يناله في ذات الله عز وجل، واليأس مما عند الناس، والتماس رضا الله وإن سخط الناس، فمثل هذه المقامات هي من أعظم الفوائد التي نجتنيها ونستفيدها؛ إذا علمنا عقيدة السلف الصالح، وعلمنا آثارها على حياتهم وعلى تقواهم وإيمانهم، فإن هذا ملازم لذلك، وإن كان الغالب علينا أننا -لكثرة ما ظهر من الفرق، ولكثرة ما نريد من معرفة الحق- نحرص على معرفة ما يعتقد السلف -لنعتقده وندين الله عز وجل به- أكثر من حرصنا على معرفة آثار تلك العقيدة؛ ولكن معرفة آثار تلك العقيدة ومستلزماتها ومقتضياتها في قلوبنا وأعمالنا، وكيف أن ذلك يقربنا إلى الله عز وجل ويزيدنا به إيماناً وصلة؛ هو أيضاً مما لا يجوز أن نغفله إغفالاً تاماً؛ فإن هذه هي الثمرة المرجوة المطلوبة، وإلا تحولت العقيدة إلى تصورات ذهنية لا أثر لها في حركة صاحبها وواقعه.
  2. شرح حديث: (احفظ الله يحفظك) وآثاره السلوكية

     المرفق    
    ذكر ابن أبي العز هذا الحديث العظيم؛ حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد شرحنا بإيجاز ما يتعلق برواية الترمذي، وهي مطابقة لرواية الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند.
    ثم قال رحمه الله: "وفي رواية غير الترمذي: {احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
    وهذه من أبلغ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا في الرواية الأولى- يأمر ابن عباس رضي الله عنهما بمقتضى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]؛ بقوله له: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله}، فالله تعالى هو وحده المدعو والمرجو، والمبتغى المطلوب بالعبادة، وهو أيضاً وحده المستعان، وعليه التكلان لتحقيق ما نريد، ونحن فقراء إلى الله تبارك وتعالى في معرفته ومعرفة الحق الذي يوصل إليه، كما أننا فقراء إلى عونه عز وجل؛ لكي نستطيع أن نعبده، فنرضيه تبارك وتعالى وننال جنته.
    1. معنى قوله: (احفظ الله تجده أمامك)

      يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله تجده أمامك}، كما قال في الرواية الأولى: {احفظ الله تجده تجاهك}، فإذا حفظ العبد ربه، أي: حفظ حدود الله تبارك وتعالى وأوامره؛ فلم يجده حيث نهاه، ولم يفتقده حيث أمره؛ فإنه ينال بذلك تلك الدرجة، وهو أن يحفظه الله تبارك وتعالى، وأن يجد ربه سبحانه وتعالى معيناً له وناصراً وموفقاً ومؤيداً، كما هي سنته التي كتبها: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51]، فهذا وعد منه سبحانه وتعالى لا يتخلف أبداً، فمن كان مع الله؛ مقيماً لأمره، متقياً له ومراقباً؛ فإن الله سبحانه وتعالى سوف ينصره ويؤيده، ويوفقه لمزيد من الطاعة.
    2. معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)

      ثم قال صلى الله عليه وسلم: {تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}، وإنما نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا؛ لأن التعرف إلى الله في الشدة يشترك فيه المؤمنون والكافرون، كما قصّ الله تبارك وتعالى علينا حالهم؛ أنهم إذا ركبوا في الفلك واشتدت بهم الريح في اليوم العاصف؛ فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين؛ قال تعالى: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ))[العنكبوت:65]، فإذا نجوا عادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان.
      بل أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم في شدة يوم القيامة يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ويطلبون من الله تبارك وتعالى أن يعيدهم لكي يعملوا صالحاً، ولكن الله تعالى يقطع ذلك ويقول: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]، فقد تأصل في أنفسهم أنهم لا يعرفون الله تبارك وتعالى إلا في الشدة فقط؛ فإذا اشتدت عليهم الكروب، وضاقت بهم الخطوب، ولم يجدوا ملجأً ولا منقذاً؛ تذكروا حينئذٍ أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يلجأ إليه، ويستغاث به، ويدعى وحده لا شريك له، فلا لات ولا عزى، ولا هبل؛ لأنهم عرفوا أن الله وحده هو الذي يجيب الدعاء.
      وقد ذكر الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: أن مشركي آخر الزمان أكفر من مشركي قريش؛ حيث إن مشركي آخر الزمان يدعون غير الله تعالى -من أولياء وسادة- ويلجئون إليهم حتى في الشدة.
      أما المؤمنون فإنهم يتعرفون على الله تبارك وتعالى في حال الرخاء، ويتقربون إليه، ويتلمسون مراضيه، ويستعملون أنفسهم في طاعته حال الرخاء، فإذا جاءت الشدة عرفهم الله سبحانه وتعالى، وأنقذهم، وفرّج عنهم، ويسّر لهم.
      ومن أمثلة ذلك: قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فهؤلاء تعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء بما يرضيه، فلما جاءت الشدة توسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بتلك الأعمال الصالحة، فأنقذهم الله تبارك وتعالى مما هم فيه، لكن لو أن الكرب وقع، وأقسم الإنسان لله: لئن أنجيتني لأتوبن من الزنا.. لأعطينّ المظلوم أو المسكين أو صاحب الحق حقه، فإن ذلك لا يغني.
      صحيح أن الله سبحانه وتعالى يجيب المضطر إذا دعاه، لكن المؤمن يتقرب إلى مولاه؛ الرب الكريم؛ فيعمل الصالحات، وعندها يكون الجزاء من الله عز وجل، وهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين؛ فإن حلّت بالمؤمن كربة، فإن الله يفرجها عنه ولا ينساه، والإنسان لابد أن تصيبه مصيبة أو تحل به كربة؛ سواء أكانت في حياته أم بعد مماته؛ فإنه إذا مات سوف يلاقي الشدة في موته، ويوم حشره، ويوم القيامة، وهناك لا ينجو إلا من قدم بين يديه خيراً، وتعرف إلى مولاه بالتقوى والعمل الصالح.
      فعلى الإنسان أن يحرص على أن يتعرف إلى الله في حياته، لكي يجد أثر ذلك في قبره، وفي الشدة العظمى؛ في عرصات يوم القيامة؛ حيث الأهوال التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها.
      فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأوّابين المتقين المنيبين المخبتين، الذين يعملون ويجتهدون وهم يظنون أنهم إلى ربهم راجعون، فلا تفوتهم أوقات الخير ولا مواسمه، ولا أيام الشباب والعافية.. لا تفوتهم لأنهم يعدون العدة ليوم تكون فيه الشدة، ويحتاجون فيه لما هو ميسر لهم اليوم من أسباب الخير والتقوى.
    3. معنى قوله: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك)

      ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك} كما قال في الرواية الأولى: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك}، وهذا يوافق معنى قوله تعالى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا))[التوبة:51]، وهكذا هم المؤمنون؛ يعلمون أن ما أصابهم من خير أو شر، فهو مما كتبه الله سبحانه وتعالى لهم أو عليهم، ولهذا تكون النتيجة ما سيذكره المصنف رحمه الله من التقوى والإنابة والإخبات والتذلل لله سبحانه وتعالى.
      ولا يستلزم منهم ذلك ترك الأسباب، فإنه يجب عليهم الأخذ بالأسباب، ولكنهم يعلمون أن تلك الأسباب ليست هي التي دفعت عنهم هذا البلاء، إنما الذي دفعه هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي كتب أزلاً أن ذلك لن يقع.
      والحالة المقابلة: {وما أصابك لم يكن ليخطئك}، أي: إذا أصابك مكروه فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، لما حصل لي ذلك، ولا تظن أنه حصل لك ذلك بسبب تآمر الناس عليك، أو لأن الخلق أرادوا هذا السوء بك، مع أن هذه أسباب خلقها الله سبحانه وتعالى، لكن ليست هي التي فعلت ذلك، ولو لم يكتب الله ذلك منذ الأزل، لما كان من ذلك شيء، ثم مهما كانت الأسباب والاحتياطات، فلابد أن يقع المكتوب.
    4. معنى قوله: (واعلم أن النصر مع الصبر)

      ثم قال عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن النصر مع الصبر}، كل الناس يريدون النصر، والله سبحانه وتعالى جعل النصر منوطاً بالصبر، وإلا فلا نصر، وعادة يكون النصر بدخول معركة، وهل نحن إلا في معركة؟! وكل الناس حتى الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: معركة الحياة.. ومعترك الحياة، وهذا حق؛ فهم في معركة مع أنفسهم، ومع الناس والمال، ومع كل شيء؛ فالحياة هي معركة فعلاً، لكن الذي سوف ينتصر هو المؤمن، وإذا أردنا أن ننتصر فعلينا بالصبر، وبالأخص من كان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: (( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ))[لقمان:17].
      وقد جعل الله سبحانه وتعالى للإمامة في الدين شرطين لا بد أن يتحققا، ولو اختلّ أحدهما لاختل تحقق الإمامة في الدين، وهما: الصبر واليقين؛ يقول الله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ))[السجدة:24]، فالذين حققوا ذلك من بني إسرائيل تحققت لهم الإمامة في الدين.
      فلا بد إذاً من الصبر: { واعلم أن النصر مع الصبر }، ولقد قالت العرب: (بين النصر والهزيمة صبر ساعة)، وهذا عنترة بن شداد الفارس الجاهلي المعروف لما سئل: بم تغلب خصمك؟ قال: (ما بارزت أحداً إلا قلت: الآن أفر، ثم قلت: أنتظر قليلاً فربما فر، فيفر، فأكون أنا الذي انتصرت)، وهكذا الإنسان يصبر نفسه قليلاً حتى يأذن الله تعالى بالفرج، وتأتي الهزيمة من الطرف الآخر، والطرف الآخر يتمثل بالنفس والدنيا والشيطان والهوى، وعدو القتال.
    5. معنى قوله: (وأن الفرج مع الكرب)

      ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: {وأنّ الفرج مع الكرب}، تأمل هذه البلاغة النبوية وانظر لواقع الناس، فإنهم يطلبون دائماً الفرج، ويريدون التيسير والخير، ولكنهم يهربون من الآلام والمتاعب، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قرنهما، فإذا كنت تريد النصر فهو مع الصبر، وإذا كنت تريد الفرج فهو مع الكرب، فلا يمكن أن تحصل على الفرج دون أن يأتيك الكرب، ومقتضى ذلك: أن الكرب إذا حصل فصبرت، فإن الفرج آت لا محالة.
      ثم قال: {وأنّ مع العسر يسراً}، وهذا مما اختص الله تعالى به عباده المؤمنين؛ أنهم يصبرون على كل ما ينالهم من عسر، وانظر إلى صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يقول: ربي الله، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: {أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟!}، وهذه المقالة قد قالها مؤمن آل فرعون من قبل، قال تعالى: (( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ))[غافر:28]، وكذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعذبون ويؤذون ويطردون؛ لأنهم يقولون: ربنا الله، حتى إنهم حين هاجروا إلى الحبشة ظلت قريش تطاردهم وتؤذيهم وهم في بلاد الغربة، فمع ما أصابهم من غربة في تلك البلاد البعيدة عن الأهل والصحب، ترسل قريش وفداً إلى الحبشة ليقولوا للنجاشي: إن هؤلاء فارقوا ديننا وتركوا ما كنا عليه، فأرجعهم إلينا!
      سبحان الله !! هكذا يُرغم الإنسان ويُكره على أن يعتقد الباطل، وتصادر حريته؛ لأنه يقول: ربي الله، وما زادهم ذلك إلا صبراً وتحملاً في سبيل الله.
      وأيضاً صبروا في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، وفي حنين، وفي تبوك، وغيرها من الغزوات.
      فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلها محن وابتلاء، فصبروا، ثم جاء بعد ذلك اليسر من الله سبحانه وتعالى، وجاءتهم الدنيا راغمة، وأورثهم الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر، ووعدهم بما هو أعظم من ذلك كله، وهو نيل رضاه سبحانه، ودخول جنته التي وعد بها عباده الصالحين، وهم أوّل من ينال ذلك الفضل منه سبحانه وتعالى.
      إذاً: هذا الحديث من جوامع وصاياه صلى الله عليه وسلم، التي يجب علينا أن نتأملها ونتدبرها، وألا نضيعها، وسوف يأتي في كلام المصنف رحمه الله بعد ذكر الأقلام وأنواعها ما يؤيد ذلك ويؤكده.
  3. أنواع الأقلام

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة].
    أي: جاءت بصيغة الجمع: (أقلام) كما في الحديث: {رفعت الأقلام}، وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: {بل فيما جفت به الأقلام}، وقد سبق أن ذكرنا الأحاديث التي تدل على أن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، وقلنا: إن القلم المذكور في هذا الحديث هو القلم الأول، الذي خلقه الله، فكتب به في الذكر كل شيء، إذاً هناك قلم وهناك أقلام، فكيف نفهم ذلك؟!
    يقول المصنف: [والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره]، يقصد بالتقسيم المتقدم ذكره: التقسيم الذي فيه أن القلم الأول هو الذي أقسم الله به، والقلم الثاني قلم الوحي، فذلك تقسيم وهذا تقسيم آخر، وهذا باعتبار وذاك باعتبار آخر، لكن لو تأملنا هذا التقسيم الذي ذكره رحمه الله والذي قال فيه: إن السنة دلت على أن الأقلام أربعة؛ لوجدنا أنه يذكرنا بالمرتبة الثانية من مراتب القدر التي هي الكتابة.
    1. درجات الكتابة

      درجات الكتابة هي:
      1- الكتابة الكونية: وهي التي توافق القلم الأول هنا، فالكتابة الكونية كانت عندما كتب الله سبحانه وتعالى كل شيء.
      2- الكتابة النوعية: وهي الكتابة التي كتب الله بها ما يكون للنوع الإنساني، أي: آدم وذريته، أي: أن الله كتب ما سيكون في الكون كله، لكن بالنسبة لآدم وذريته، فإن لهم كتابة خاصة، ذات مقادير خاصة.
      3- الكتابة الفردية العمرية: ونعني بـ(الفردية) أنها: بالنسبة لكل فرد من بني الإنسان، والعمريه أي: في عمره كله، وهذه الكتابة العمرية تكون بعد الاثنتين والأربعين ليلة، إذا أرسل الله عز وجل الملك لينفخ في الجنين الروح ويكتب ما سيكون في عمر هذا العبد، كما في الحديث: { ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد}.
      4- الكتابة الحولية: وهي ما يكتبه الله تعالى في ليلة القدر، فيكتب ما يكون إلى ليلة القدر القادمة، فيكون كل ما يقع في هذا العام قد كتبه الله سبحانه وتعالى في تلك الليلة، قال تعالى: ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ))[الدخان:4].
      5- الكتابة اليومية: وهي ما دّل عليه قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، وهو سبحانه وتعالى يقضي ويدبر، ويمحو ويثبت ما يشاء سبحانه وتعالى، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره ولا لقضائه.
      هذه خمس كتابات، وقد ذكر المصنف أربعة أنواع من الأقلام، وهذا بسبب تداخل بعض الكتابات، فإن القلم الأول هو المتقدم ذكره مع اللوح، والقلم الثاني حين خلق آدم، وهو قلم عامّ أيضاً من جهة النوع، فيشمل النوع الإنساني بكل أعماله، وقد ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقب خلق أبيهم.
      وقد ذكر الشارح فيما سبق حديثاً ضمن الأحاديث التي فيها أن الله أخذ العهد والميثاق على بني آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وقررنا -أثناء شرحنا لذلك الموضع- أن الحديث لا ميثاق فيه، وإنما فيه القدر، وموضعه هنا، وهذا الحديث من رواية الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله آدم مسح على ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: أي رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته}، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
      ولما تحدثنا عن الميثاق، ذكرنا أن موضوع أخذ العهد والميثاق تأتي أهميته من كونه يبحث في ثلاثة أمور من أمور العقيدة:
      الأمر الأول: أن له علاقة بموضوع الفطرة، ولهذا تحدثنا فيه عن حكم أطفال المسلمين وحكم أطفال المشركين.
      الأمر الثاني: علاقته بخلق الأرواح، وهل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ ومتى خلقت؟ وهذا أيضاً تحدثنا عنه فيما مضى.
      الأمر الثالث: موضوع الفطرة وعلاقته بالقدر، ولاسيما مرتبة الكتابة، وقلنا: إن المصنف رحمه الله ذكر هذا الحديث هناك وليس فيه أخذ العهد والميثاق، وإنما فيه القدر.
      فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله آدم، مسح على ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة}.
      فكل من سيخلق الله سبحانه وتعالى إلى قيام الساعة من بني آدم قد سقط وخرج من ظهر آدم، وألقى الله سبحانه وتعالى وبيصاً من نور على كل أحدٍ منهم، وجعله بين عينيه، ثم عرضهم على آدم فقال: {من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك}، فأخذ ينظر إليهم ويرى وبيص النور بين أعينهم، فأعجبه وبيص بين عيني رجل منهم، وهو نبي الله داود عليه السلام، فلما أعجبه قال: {يا رب من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك}. وقوله: (من آخر الأمم) يدل على أن هناك بوناً عظيماً بين خلق آدم وبين داود عليه السلام الذي جاء بعد موسى؛ فقد قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[البقرة:246] ... إلى آخر القصة، فالملك الذي بعثه الله هو طالوت، وقد قاتل طالوت جالوت، والذي قتل جالوت هو داود، فيكون داود بعد موسى وقبل عيسى عليهم السلام، وقد مرّ إلى الآن تقريباً ألفا سنة على ولادة عيسى عليه السلام، فبين موسى وداود تقريباً ستمائة سنة، وبين داود وعيسى تسعمائة سنة، والله أعلم، ومع ذلك يقول: (في آخر الأمم من ذريتك).
      الشاهد: أن الله حين قال لآدم عليه السلام: {هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود}، رقّ له آدم عليه السلام لكونه في آخر الأمم، ولأجل النور بين عينيه، فقال: كم عمره؟ والله سبحانه وتعالى ربما أطلع آدم على أن الخلق لن يزال ينقص إلى قيام الساعة، وكما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فالخلق ما يزال ينقص في الأجسام والأعمار.
      فلما علم أن عمره ستون سنة، تحركت في نفسه الفطرة الإنسانية، وهي حب الحياة والتشبث بها، فتقالَّ عمر داود، ونحن اليوم إذا عاش الإنسان ستين سنة قالوا: إنه كبير السن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمار أمته ما بين الستين إلى السبعين.
      فلما تقالها آدم عليه السلام، {قال: يا رب! زده من عمري أربعين سنة} ليصبح مائة، فكتب الله سبحانه وتعالى ذلك، وأخذ من عمر آدم وزاد في عمر داود، فلما جاء أجل آدم -بعد حذف الأربعين- وأتاه ملك الموت، وأراد أن يقبض روحه، فقال: {أولم يبق من عمري أربعون سنة؟!} وهنا وقعت المشادة بين آدم عليه السلام وبين ملك الموت، فقال: {أولم تعطها لابنك داود؟}.
      قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته}.
      إذاً: الجحود والنسيان والخطأ من طبيعة هذا الإنسان، ومن طبيعة هذه النفس منذ ذلك الوقت.
      وليس في هذا الحديث عهد، وإنما فيه الكتابة، وأن الله سبحانه وتعالى قدر، ومما قدر الأعمار، ومن ذلك عمر آدم وداود، فقد سأل آدم عن داود: كم عمره؟ يعني: كم كتبت له؟ وكم قدرت عليه؟ فقال: ستون سنة، وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه سيعطيه الأربعين، ويعلم أن الأربعين لن تخصم من عمر آدم، لكنه أول الأمر أخبره بحذفها من عمره، ولن يكون إلا ما كتب الله.