المادة كاملة    
اللوح والقلم مخلوقان من مخلوقات الله تعالى، يجب الإيمان بهما كسائر الغيبيات، وهذا هو ما أجمعت عليه الأمة، ولم يشتهر الخلاف فيهما إلا عن طائفة تنكبت جادة الحق، وتنكرت لعالم الغيب بالكلية؛ فأولت اللوح والقلم وسائر الغيبيات.. تلك هي طائفة الفلاسفة ومن حذا حذوهم من بعض المتصوفة والمتكلمة.
  1. تأويل الفلاسفة للوح والقلم

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن، ليجعلوه كائناً، لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة .
    قال ابن أبي العز رحمه الله:
    [تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: { جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما استقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير}.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: {يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
    وفي رواية غير الترمذي: { احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} ]
    اهـ.
    الشـرح:
    إن اللوح والقلم مخلوقان من مخلوقات الله تبارك وتعالى، يؤمن بهما المؤمن؛ لما جاء عنهما؛ تبعاً للقاعدة الكبرى التي نؤمن بها جميعاً، والتي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا بها، وهي الإيمان بالغيب، ومن هذا الغيب اللوح والقلم والعرش والكرسي، فهذا وغيره مما أخبرنا الله عنه ورسوله، فنؤمن به وإن كان محيراً لعقولنا القاصرة وخيالنا المحدود.
    وهذا مما اجتمعت عليه الأمة والحمد لله، ولم يشتهر الخلاف فيه -في الجملة- إلا عن فئة ممن تنكبت جادة الحق وتنكرت لعالم الغيب بالكلية، وهذه الفرقة هي الفلاسفة الذين ينكرون اللوح والقلم أو يؤولونها، وقد حذا حذوهم بعض الصوفية وبعض المتكلمين الذين اتبعوا الفلاسفة، والرأي في الأصل هو لأولئك الفلاسفة الذين من أبرزهم وأشهرهم ابن سينا، وهؤلاء القوم أصل مقولاتهم يرجع إلى الفكر اليوناني، فهم لم يأخذوا الحق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنوا أن الوصول إلى الغاية والعلم الحقيقي يكون عن طريق علوم الأوائل -علوم اليونان- فأخذوا فلسفة اليونان وكلامهم مما نقل أو أثر عن أرسطو أو أفلاطون وأمثالهما، وجعلوه هو العقيدة التي يعتقدونها، ولما رأوا أن المسلمين ينكرون عليهم إذا خالفوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ عمدوا إلى التأويل ولجئوا إليه، ولم يستطيعوا أن ينكروا صراحة وجهاراً بأنه ليس هنالك لوح ولا قلم ولا عرش ولا كرسي، وإنما عمدوا إلى تأويل هذه الكلمات لتوافق ما عليه علماء اليونان.
    وأقرب مثال لهذا في عصرنا الحاضر: ما نراه اليوم من بعض الناس؛ يسمعون أن الغربيين اكتشفوا جانباً من جوانب العلم، فيسارعون بقولهم: (المقصود به كذا وكذا) مما جاء في القرآن وفي السنة، ثم يؤولون القرآن بتعسف حتى يوافق ما اكتشفه أولئك؛ فاليقين الحقيقي والاعتقاد عندهم هو في كلام فلاسفة اليونان أو علماء الغرب، وأما ما جاء في الكتاب والسنة فإنه يؤول ويتعسف ليوافق ما قاله أولئك.
    1. إبطال نظرية العقول العشرة لأفلاطون

      حين تكلم الفلاسفة الذين ينتسبون إلى الإسلام عن العرش، قالوا: ما دام أن الحديث قد ورد في العرش أنه أكبر المخلوقات، وأنه محيط بها، فهو إذاً أي -العرش- ما يسميه علماء الفلك اليونانيون: الفلك التاسع، ثم جاءوا إلى اللوح والقلم فقالوا: إن المقصود باللوح هو النفس الكلية التي تنشأ عنها جميع النفوس، والمقصود بالقلم هو العقل الأول الذي تنشأ منه العقول العشرة، ثم بعد ذلك ينشأ الكون، حسب الخيال الذي تخيله أفلاطون ومن تبعه.
      فهم ينطلقون من مبدأ فج ساذج لا يمكن لأي عاقل من أي ملة أو من أي دين أن يقره، وهو قولهم: إن الكون ناقص والله كامل، والكامل لا يشغل نفسه بالناقص، فحتى لا يشتغل الله بهذا الكون؛ خلق النفس الكلية وخلق العقل الأول، ثم إن العقل الأول خلق الثاني ... وهكذا إلى العاشر، والعقول العشرة هي التي خلقت الكون، وهي التي تدبره وتديره..!
      أنى لك هذا يا أفلاطون ؟! هل أنت رسول من عند الله أوحي إليك؟!
      وهو لا يقول: إنه رسول.
      كيف عرفت؟! ومن أين جاءك العلم؟! ولم لا تكون هذه العقول عقلاً واحداً مثلاً؟! أو لم لا تكون هذه العقول ألفاً أو مليوناً أو بعدد الأشياء الموجودة؟!
      أسئلة عقلية كثيرة لا يستطيع أن يجيب عليها أفلاطون ولا أتباعه، وهم أقل من ذلك وأحقر؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا))[الكهف:51]، متى أشهدهم الله أنه خلق الكون عن طريق العقول العشرة؟! ما أشهدهم الله سبحانه وتعالى ذلك، ولا أراهم إياه ولا أطلعهم عليه، لكنهم تخيلوه وتخرصوه، فلما جاء الفلاسفة الذين يدعون الإسلام، أخذوا في المبالغة والتعظيم لليونانيين ولما أثر عنهم، فرأوا أنه لا بد أن يؤول ما في القرآن والسنة ليوافق ما قاله أولئك، ولهذا نجدهم في عدة أبحاث يتكلمون عن العقل، وضرورة العقل، وأهمية العقل، ويدخلون من هذا الباب إلى إفساد الدين والدنيا والآخرة، فقالوا: بما أننا نجد في الأحاديث أن القلم هو الذي كتب الله به كل المقادير، فإذاً هو العقل الأول ... وهكذا.
      حتى الشفاعة؛ يقولون أنها ليست كما جاء في القرآن والسنة، وإنما هي فيض يفيض من الشفيع (أو المشفع) على المستشفع (أو طالب الشفاعة) دون علم الله به.. إلى آخر ما يهذون من الخرص والظن الذي لا دليل عليه.
    2. الفرق بين التأويل الباطني الكفري وغيره من التأويل

      هذا التأويل الباطني الذي قاله الفلاسفة الذين يدعون الإسلام كـابن سينا وأمثاله -وكان ذلك في القرن الرابع وما قبله بقليل- كان يعد عند جميع المسلمين كفراً وردة؛ لأنه تأويلٌ معلومٌ من الدين كذبه بالضرورة.
      وهنا يتضح الفرق بين تأويل العرش والكرسي والقلم، وبين تأويل الصفات، فهناك فرق بين من يؤول يد الله بالنعمة أو القدرة، وبين من يؤول العرش والكرسي والقلم واللوح والشفاعة والملكوت والجبروت، وأمثال ذلك من الكلمات القرآنية؛ لأن ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى يريد به أصحابه التنزيه، ويقولون: نحن لا نريد أن نشبه الله بشيء من خلقه، ولدينا قرائن قائمة -كما يزعمون - تمنعنا من أن نفهم أن المقصود هو المعنى الظاهر، وهذه القرائن هي أنه تعالى ليس كمثله شيء، ونحو ذلك؛ فلأجل ذلك كانت هذه التأويلات غير مكفرة في ذاتها، إنما يكفر صاحبها إذا كان في الباطن يعتقد أن الله لا يوصف بشيء، ولا يقصد تنزيه الله.
      لكن الفلاسفة يقال لهم: لماذا تؤولون العرش واللوح والقلم والكرسي، وهذه مخلوقات من مخلوقات الله سبحانه وتعالى؟ فما هي القرائن؟ وما هو الدليل الذي سوغ لكم أن تؤولوا هذه المخلوقات فتصفوها بمعان أخرى؟
      إذاً: لا يسوغ التأويل هنا مطلقاً، ولهذا يكفر كل من أول هذه الأمور، فهذا النوع يدخل في النوع المكفر من أنواع التأويل، وقد ذكرنا فيما سبق أنواع التأويل، وما يكفر منها وما لا يكفر.
      وأما من يؤول بعض الصفات بغرض التنزيه، ويقول: هذه أمور غيبية تعجز عن إدراكها على الأفهام، وقد تخطئ فيها العقول، فقد يلتمس فيها التسويغ أو التأويل، فلا تكون مخرجة من الملة لذاتها، إلا إذا اقترن بها إنكار أو نفاق أو زندقة.
      لكن من يؤول الصلاة بأنها أسماء الأئمة الخمسة -كـالنصيرية- فإنه يكفر بذلك؛ فإن المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم يصلون الصلوات الخمس، فإذا جاء شخص وأولها، فلا يمكن أن يكون له عذر بأي حال من الأحوال، فليس هناك شيء يصعب فهمه، وهذا شيء واقع ومشاهد، فتأويل الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتأويل العرش والكرسي والقلم والملكوت والجبروت، وأمثالها من الكلمات القرآنية.. هذا كله من جنس تأويلات الباطنية والفلاسفة التي يحكم على صاحبها بالكفر.
  2. دور الإمام الغزالي في نشر التأويل الباطني قبل توبته

     المرفق    
    ظلت تأويلات الفلاسفة والباطنية ينظر إليها على أنها كفر؛ إلى أن جاء رجل كانت له اليد الطولى في نشر هذه التأويلات بين المسلمين وفي تغيير نظرتهم إليها من أن تكون كفراً إلى أن تصبح مقبولة ومستساغة عندهم.
    ذلكم هو الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي في مرحلة اعتناقه للباطنية قبل أن يصل إلى مذهب أهل السنة في الأخير؛ فحين اعتنق الباطنية والفلسفة، ألف كتاباً سماه المضنون به على غير أهله، وكتاباً آخر سماه معارج القدس وفي هذين الكتابين يقول الغزالي بأن الوحي هو فيض من العقل الكلي إلى العقول الجزئية، ويؤول القلم واللوح بأن اللوح المحفوظ هو النفس الكلية، وأن القلم هو العقل الأول.
    وقد كان الغزالي متأثراً في تلك الفترة بـالفلاسفة، واعتقد مذهبهم وصححه، وشهرته تختلف عن ابن سينا، فـابن سينا اشتهر عند الناس بكفره وفساد دينه، فلم يؤخذ هذا عنه، ولكن الغزالي اشتهر عنه أنه عالم من علماء الإسلام، ولذلك أخذت كتبه جميعاً؛ ما كان منها قبل أن يتوب وأن يعرف الطريق المستقيم، وما كان منها بعد ذلك، فاختلطت كتبه، فأخذها وتلقاها كثير من الناس على هذا الأساس، وانتشرت بين المسلمين، فأصبح بعضهم لا يرى فيما قالته الفلاسفة بأساً.
    ولهذا تجدون أن شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من المواضع في الفتاوى لا يقول: قال الغزالي في المضنون به على غير أهله، وإنما يقول: قال صاحب المضنون به على غير أهله؛ لأنه لو قال: إن الكلام للغزالي؛ لاشتهر وقبل، فهو يقول: (قال بعض الباطنية، أو بعض من تبعهم مثل صاحب المضنون به على غير أهله ) لكن لو قال: قال الغزالي؛ لأخذ الناس بكلام الغزالي؛ لأنهم يعرفون أنه إمام عظيم، وربما تشربته قلوبهم، ولم ينكروه؛ وشيخ الإسلام يعلم أن الغزالي قد رجع عن هذا القول.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو يخاطب الناس ولا يريدهم أن يضلوا؛ لمحبة الغزالي ومكانته في قلوب كثير من الناس.
    فهو أولاً: لا يريد أن يتهم الغزالي بأنه قال هذا الكلام؛ لأنه قد تاب ورجع عنه، وثانياً: يخشى إذا ذكره باسمه أن يؤثر في الناس؛ لأن كلام الغزالي له وزنه وله قيمته، أما لو قال: (قال ابن سينا وأتباعه) فليس هناك مشكلة؛ لأن هذا رجل اشتهر كفره عند جميع المذاهب وعند العامة والخاصة.
    ومن هذا الفعل يمكننا أن نستنتج منهجاً من مناهج الدعوة إلى الله، فمن كان ذا قيمة وعلم وفضل وشهرة، فلا تقل للناس عنه: قال فلان كذا وكذا، وكلامه خطأ؛ لأنك في هذه الحالة ستخسر أكثر مما تكسب؛ لكن لو قلت: يقول بعض الناس: كذا وكذا، وبينت بطلانه، فإن الناس سوف يصدقون ويرون أن هذا خطأ وباطل، فإذا سمعوه من فلان، بدءوا يقارنون بين القولين، لكن لو قلت من أول الأمر: إن الكلام لفلان؛ لكان ذلك حاجزاً أو حائلاً يمنع من قبول كلامك عند الناس، فهذه حكمة في الدعوة يجب أن نفطن لها.
    والشاهد: أن هناك من أول اللوح والقلم، والذين قاموا بالتأويل هم أولئك الفلاسفة الباطنية، ثم نشر ذلك أبو حامد الغزالي، ولكنه لم ينتشر ولم يشتهر؛ لأنه مما هو واضح البطلان لكل ذي عينين.
  3. كيفية التعامل مع الألفاظ الشرعية

     المرفق    
    وهناك أمر ينبغي أن نتنبه له، وهو: من أين نأخذ معاني الألفاظ الشرعية والكلمات القرآنية والنبوية؛ كالعرش أو الكرسي أو القلم أو الصفات، أو أي كلمة جاءت في القرآن أو السنة؟
    هذه قضية أساسية، فمن الناس من يقول: نفهم القرآن والسنة على ضوء كلام العرب، وهذا لا يسلَّم على إطلاقه؛ لأن كلام العرب لا شك أنه يحتمل معاني كثيرة للكلمة الواحدة؛ لأن لغة العرب واسعة، فالذين يقولون: نفهم القرآن على ضوء كلام العرب، قد أخطئوا؛ لأن كلام العرب يحتمل تأويلات كثيرة جداً، ولغة العرب أوسع اللغات في العالم، حتى قيل: إن للأسد خمسمائة اسم، وللشمس ثلاثمائة اسم، فهي لغة واسعة جداً، فإذا جاءتنا كلمة قرآنية فيها الشمس، فعلى أي معنى ننزلها؟! وهناك المشترك اللفظي، وهناك الجناس، وغير ذلك.
    1. أهمية اتباع فهم الصحابة للوحيين

      إننا نفهم المصطلحات الواردة في الكتاب والسنة على وفق فهم الصحابة والتابعين، وهذا لا يتعارض مع قولنا: على ضوء لغة العرب؛ لأن الصحابة هم أفصح الناس وأعلمهم باللغة، فقد نزل القرآن بلغتهم، وتلقوه وآمنوا به، وعلموه وفهموه، وحفظوه وطبقوه وعملوا به، وهم عرب أقحاح محتج بلغتهم، فاللغة حاصلة عندهم، وزيادة على ذلك هم أهل الإيمان والدين، فهم حجة من جهة اللغة، وفوق ذلك هم حجة في الدين وفي الفهم.
      فإذا فهم الصحابة والتابعون والسلف من كلمة قرآنية معنى ما، لم يجز لأحد بعدهم أن يخالفهم، وإلا كان واقعاً في أحد أنواع التأويل الثلاثة: إما الكفر أو البدعة أو الخطأ؛ فأقل ما يقال: إنه أخطأ، لأنه أتى بكلمة لم يفهمها الصحابة والسلف من كتاب الله، وهم أعلم الناس به، فهم المرجع إذاً.
      ولهذا لا يمكن أن نستغني أبداً عن فهم أهل السنة للقرآن والسنة، ونكتفي باللغة.
      فلو جاء أحدهم وقال: إن عندي تاج العروس! أكبر القواميس والمعاجم في اللغة العربية، فأقرأ القرآن وأنظر معناه من تاج العروس، فنقول: هذا تصرف خاطئ، فالأصل أن تأخذ معنى الآية من كتب التفسير التي تفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بكلام الصحابة والتابعين، ثم بكلام العرب وشعرهم، هذا هو المنهج الصحيح لفهم القرآن والسنة، فيجب أن نعي ذلك جيداً، وألا ننسى هذه القضية الأساسية التي يخالفنا فيها أهل البدع؛ مثل المعتزلة، ويخالفنا فيها إلى حد ما الأشاعرة، ويخالفنا فيها الصوفية والباطنية خلافاً شديداً، ويخالفنا فيها في هذه الأيام وفي هذا العصر الحداثيون.
    2. خطر المخالفة لفهم السلف

      إن خلافنا مع الحداثيين أصله في هذه القضية، وهو كيف نفهم الكلام؟ فإذا قلنا كما يقولون: إن الكلمة لها عند كل شاعر وعند كل قائل معنى يختلف عن الآخر، فلن يكون لدينا إذن شيء ثابت، فما الذي نؤمن به؟! وبأي شيء نتمسك؟! وإلى أي شيء نرجع؟! فقد يقول قائل: ربه هذا الحجر، فيقول أحدهم: هو لا يقصد الحجر إنما يقصد الله، والثاني يقول: ربي الله، فيقولون: لا. هذا كافر؛ لأنه ما يقصد الله الذي هو رب العالمين، إنما يقصد شيئاً من الأشياء سماه الله!
      إذاً: لا معيار نستطيع أن نعرف به حقاً من باطل ولا صواباً من خطأ.
      وكذلك الغربيون عندما يدرسون لغاتهم أو مصطلحاتهم، ينطلقون من منطلق أن اللغة اصطلاح تواضع عليه الناس، فمثلاً: اللغة اللاتينية التي هي لغة أوروبا الأصلية، كانت لغة العلم إلى القرن التاسع عشر، فإلى القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر كان العالم لا يكتب ولا يؤلف إلا باللغة اللاتينية، والجامعات كانت تدرس باللغة اللاتينية، وبعد ذلك تفرعت، فكل دولة أصبح لها لغتها المستقلة، فالذي أوجد اللغة هم الناس، حيث غيروها وأوجدوا لغة جديدة وانتهى الأمر، فليس لديهم نص معصوم ولا نص مقدس، واللغة هم الذين يضعونها.
      إذاً لا مانع لديهم أن تتعدد الأفهام والآراء، وأن يضع كل إنسان ما شاء، فهذا فارق أساسي بيننا وبينهم، لكن نحن عندنا لغة مرتبطة بالقرآن، والقرآن كلام الله الذي سيبقى إلى أن يرفعه الله في آخر الزمان، ولدينا السنة يبقى فهمها فهماً محدداً لا يمكن الخروج عليه، وإلا لو فعلنا ذلك لاتبعنا ديناً آخر، فلو تغيرت معاني القرآن والسنـة؛ لكنا في دين آخر غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم التقارب والتناسب بين هؤلاء الحداثيين وبين الصوفية والباطنية، فغلاة الصوفية والباطنية يقولون: الكلمة ليست كما تفهمها أنت على ظاهرها، حتى الكفر الصريح يقولونه قديماً ويقولونه حديثاً، ثم يقولون: لا بد أن يؤول، يقول خبيثهم: ما في الجبة إلا الله.. سبحاني سبحاني! ما أعظم شأني! وهذا كفر، لكنهم يقولون: أنتم ما فهمتم كلامه، هو لا يقصد أنه هو الله، لكنه في حالة الفناء، وفي حالة المحو، وفي حالة الشطح، فإذاً لا نكفره.
      ويأتي أيضاً شاعر حداثي ملحد، فيتكلم ويقول في الله تعالى ما لا يجوز أن يقال، ولو قاله في حق مخلوق من المخلوقات لكان اعتداءً، وإذا قلنا: هذا كفر وإلحاد، قالوا: هو لا يقصد الإلحاد، لكن هذه هي الرؤية الشعرية وهذه اللغة الشعرية، وهذا هو الصراع النفسي الذي في داخله، إذاً فالقضية واحدة، والمنطلق واحد، وأيضاً النهاية واحدة.
      فلينتبه المسلم لهذه القضايا، فهي أساسية جداً؛ لأنها تمس أصل الدين تماماً، وليست خلافاً فيما يقبل الخلاف.
      هذا أمر وأصل عظيم تنبني عليه أمور عظيمة، فالذي لا يسلم بأن القرآن والسنة يفهمان كما فهمهما السلف الصالح، وأن كلام الله سبحانه وتعالى لا يُفَسَّر إلا وفق ما ذكرنا، فإنه سيضل ضلالاً بعيداً، ولا تأمن أن يفسر ما شاء كما يشاء.
      وقد ظهر كتاب عبارة عن ثلاث محاضرات لـحسن الترابي، وهو يجري على نفس المنهج، لكن ليس من باب الحداثة الأدبية، وإنما من باب العصرية الإسلامية -إن صح التعبير- والحقيقة أنه لا يتسع المقام لأن نستعرض ما في هذه المحاضرات وما في غيرها من كتبه، لكنه يجري على نفس المنوال، ويفسر بعض الأحكام بتفسير لم يسبقه إليه أحد من السلف.
      وفي نشرة صغيرة له ولاتجاهه المسمى: الاتجاه التجديدي، يقولون: إن الذين يفهمون القرآن من خلال تفسير الطبري أو ابن كثير أو فلان أو فلان من أمثال هؤلاء؛ يتابعون الفهم التقليدي العقيم، الذي لا يؤدي إلى تجديد ولا إلى فهم الإسلام على حقيقته، وإنما الفهم الصحيح للإسلام أو للقرآن يكون بالمعاناة، وأن الإنسان يقرأ النص القرآني ويتأمل ويعاني حتى يفهم المعنى الحقيقي، وهذا مثل ما قال أولئك القدامى من الباطنية والصوفية من جهة، ومثل ما يقوله أيضاً الحداثيون عن الشعر أو القصة من جهة أخرى، فأصل الضلال عندهم هو إعراضهم عن فهم السلف الصالح، وهذا أمر يجب أن يتنبه إليه الشباب المسلم، وأن يعرفوا خطره على الإسلام.
    3. سلامة منهج علماء اللغة وخدمتهم للقرآن

      إن أهل اللغة الذين وضعوا قواعد المجاز، هم في الأصل على مذهب المعتزلة أو على مذهب الأشاعرة، فـعبد القاهر الجرجاني معتزلي والباقلاني صاحب إعجاز القرآن هو من أئمة الأشعرية، وهم الذين خاضوا في هذه الأمور، وهم الذين قعدوا وأصلوا هذه الأصول التي بنى عليها من جاء بعدهم، ممن جعلوا فهم السلف الصالح للقرآن باطلاً، والأصل أن الباطل ليس الفهم الذي فهمه السلف، وإنما هو ما فهمه هؤلاء.
      وهؤلاء ليسوا حجة على الصحابة ولا على التابعين، وقد أشرنا إلى هذا وقلنا: إنه يكفي أن نعرف أنه لم يوجد من علماء اللغة الأوائل الذي أسسوا هذا العلم - مثل أبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، والنضر بن شميل، والخليل بن أحمد الفراهيدي، الذين هم الأئمة العلماء الثقات المحتج بهم -لم يوجد أحد منهم على غير منهج ومذهب أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد منهم: إن في القرآن مجازاً، ولم يقل أحد منهم: إن في القرآن كلاماً يراد به غير حقيقته، وإنما لما جاء عبد القاهر وأمثاله في القرن الثالث، والقرن الرابع، أحدثوا هذه البدع، فالحجة الأقوى -حتى عند أهل اللغة- هي كلام أئمة اللغة المتقدمين الذين كان كلامهم حجة، أما المتأخرون فالخلاف بينهم لا ينتهي في هذه الأمور وفي غيرها.
      ونحن لا نقول: إن هناك عداوة بين أهل اللغة وبين أهل السنة أو المؤمنين بالصفات، بل نقول: إن من أهل اللغة طائفة شذت عن أهل اللغة الأصليين.. العلماء الثقات المحتج بهم في اللغة، والذين لا مطعن في دينهم، فما كان أحد يطعن في دين الخليل بن أحمد؛ بل لقد كان من العباد، ولا النضر بن شميل، ولا سيبويه، ولا أبي عمرو بن العلاء، ولا الكسائي، فإن الكسائي وأبا عمرو من أهل القراءات، فهؤلاء علماء أهل عبادة وفضل وخير، وقد كانوا يقولون: إن الهدف الأساس من اللغة ومن علمهم هذا هو خدمة كتاب الله، ولو قرأت ترجمة أي واحد منهم، لوجدت في سيرته العبادة والتقوى والصلاح، فهم ما أرادوا إلا خدمة القرآن، فإذا جاء من بعدهم من أهل البلاغة والنقد، أو من أهل أي علم من العلوم، ممن انتسب إليهم، وادعى أنه مثلهم من أهل اللغة، ثم حرف وأول، فهو الذي خرج عما قاله أولئك وعما قرروه، فهو وأمثاله خارجون عن أهل السنة؛ وهم خارجون أيضاً عن أهل اللغة الذين هم حجة وعمدة في اللغة.
  4. العمل على ما جرت به المقادير

     المرفق    
    يقول الإمام أبو جعفر رضي الله عنه:
    [فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن؛ لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن، ليجعلوه كائناً؛ لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة].
    هذه الحقيقة قد تقررت وقد تقدمت فيما سبق، ولكن الشيخ رحمه الله أعادها هنا بمناسبة حديثه عن القلم، وأيضاً لأهمية موضوع القدر، وكأن الشيخ كلما أراد أن يخرج منه يعود إليه لأهميته ولخطورته؛ لأنه يرى أن هذا الموضوع أكبر مسألة وقع فيها الخلاف في الأمة، وقد بينا ما في هذا القول من المبالغة.
    وقد شرح ابن أبي العز رحمه الله هذا بإيجاز؛ فقال: تقدم حديث جابر يقول: { جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير}، وقد تقدم هذا عند قول الطحاوي رحمه الله: [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] وقد شرحنا هناك هذا الحديث وأمثاله، وقلنا: إن هذا الحديث ورد عن علي وجابر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد، وبينا عدة أحاديث تدل على هذا المعنى، وأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أدركوه، وأنهم سألوا عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب على سؤالهم، بل إن عمران بن حصين امتحن واختبر التابعي، فسأله حتى يعرف هل يجيب أم لا يجيب؟
    1. ما قدره الله فهو كائن لا يرده شيء

      إذاً: هذه حقيقة مطلقة مقررة لا شك فيها عند أي مؤمن، وهي في معنى ما جاء في حديث جبريل: { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر }، فالإيمان بالقدر من معناه: أن نؤمن بأن كل ما نعمله اليوم، وكل ما يعمله الناس في كل زمان ومكان؛ هو مما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، وليس فيما يستأنفون؛ بل في أمر قد قضي وكتب، وهذا أمر واضح ولا إشكال فيه.
      ثم يذكر رحمه الله الحديث الآخر: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف }، والحديث يتفق في لفظه مع عبارة المصنف، ولهذا أورده الشارح رحمه الله تعالى، وهو من الوصايا النبوية العظيمة، الجامعة لأعظم أنواع التوحيد.
      قوله صلى الله عليه وسلم: { احفظ الله يحفظك}، كيف يحفظ الإنسان ما بينه وبين الله؟!
      يكون ذلك بحفظ شرعه، والقيام به علماً وعملاً ودعوة.
      قوله: {احفظ الله تجده تجاهك}، فمن كان مع الله كان الله معه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))[محمد:7]، فكل من نصر الله، وكان مع الله، كان الله سبحانه وتعالى معه، وكان مؤيداً له وناصراً.
      ومن هنا نفهم كلمة (تجاهك أو أمامك) بأنها تعني المعية الخاصة، معية الله تبارك وتعالى للمؤمنين، التي هي معية النصر والتأييد والتوفيق والسداد منه سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه لن يضيعك ولن يخيبك، بل سوف ينصرك ويحفظك ويوفقك ويسددك.
      ثم يبين صلى الله عليه وسلم أصل التوحيد، فيقول: {إذا سألت فاسأل الله}، هكذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبد سائل لا محالة ؛ لأن العبد بطبيعته فقير، وكل مخلوق في هذه الدنيا فقير بطبيعته، حتى أغنى أغنياء الأرض من أهل المال والملك فقراء إلى من دونهم، فقد يكون هو المتحكم فيهم أو المعطي، ولديه الملك والمال والجاه، ولكنه في الحقيقة فقير إلى من دونه وإلى من تحته؛ فهو فقير إلى الموظف الذي عنده، فقير إلى الجند الذين يحمونه.. وهكذا.
      إذاً: فالفقر ملازم للإنسان، حتى من يرى ظاهراً من الناس أنه هو المتسلط أو المسيطر، فهو فقير في حقيقته، فالفقر ذاتي للناس، وبما أنهم فقراء، فلابد أن يسألوا الغني، ولكن أحياناً يضل الناس، فيطلبون الشيء من غير مصدره، فقد كانوا يطلبون الحجارة والأصنام والأموات الذين في القبور، ويدعونهم ويستغيثون بهم، فلهذا يبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل العظيم من أصول التوحيد: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله}، كما في سورة الفاتحة: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]، فإذا سألنا فنسأل الله، وهذه العبادة كلها دعاء، وكلها توسل، وكلها سؤال، ولا بد من الاستعانة مع العبادة؛ فنعبده وندعوه وحده، وأيضاً نستعين به وحده سبحانه وتعالى، فكأن هذا الحديث يتضمن معنى ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5].
      ثم بين بعد ذلك هذا المعنى الذي يتعلق بالقدر: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك}، فلو اجتمع كل من خلقهم الله من الإنس والجن لأن ينفعوك بأي شيء، لم ينفعوك إلا بما قد كتب الله لك، فالفضل أولاً وآخراً لله سبحانه وتعالى، وبالمقابل لو علم كل مخلوق حقيقة هذا القول لتغيرت حياته.
      واعلم أيضاً: أن الخلق جميعاً لو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وقد بينه في الرواية الأخرى: {واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك}، فمهما قيل من تعللات؛ (لو كان) و(لو أن)؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وقد نهينا عن كلمة (لو)؛ لأنها تدل على ضعف الإيمان بالقدر، والمؤمنون لا يقولون: لو أننا فعلنا، ولو أننا قلنا... ونحو ذلك من الأقوال، بل يقولون: قدر الله وما شاء فعل، ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، قال تعالى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))[التوبة:51]... ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))[الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، فإذا أصاب الإنسان شيء يسوءه، فعليه أن يعلم أن الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قد كتبه عليه، فلماذا إذا أصابه جزع وقنط قال: لو كنت فعلت كذا لكان كذا؟! وربما تسخط المتسخط، فشكا الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس، يقول: فعل بي كذا، وقدر علي كذا!! الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كتب هذا عليك، فلماذا تشكو الله إلى عاجز مثلك، مع أنه مكتوب عليه هو أيضاً قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة أنه سيقع له مثل ما وقع لك أو أكثر؟!
      إذاً: نجد هنا أهمية الإيمان بالقدر، حتى ضعاف الإيمان من المسلمين عندهم شيء من الإيمان بالقدر؛ فإن أحدهم يقول: قدر الله، وهذا قدر الله.. فيجد الراحة والأنس والطمأنينة، ويجد التسلية على المصيبة التي قد وقعت له، وبعضهم يقول: لا أدري ما فيه الخير؛ أي أنه عسى أن يكره شيئاً وهو خير له، وعسى أن يحب شيئاً وهو شر له، وهذه الجرعات من الطمأنينة لا تكون إلا للقلوب المؤمنة التي تتحمل المصائب والآلام والمحن، ولهذا فإن المسلمين حتى في أشد عصور الهزائم والفقر والضياع والهوان متماسكون؛ لأن لديهم طمأنينة تعينهم على تحمل الحياة، لكن الذين لا يؤمنون بالقدر كالغربيين، سرعان ما يجزعون من المصائب، ثم ينتحرون في الأغلب الأعم -نسأل الله العفو والعافية- لأنهم يفتقدون هذه الطمأنينة التي لا يصب بردها في القلب إلا الإيمان بالله والإيمان بأقدار الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما كتبه لا مرد له، وأن ما فيه العبد من خير ومن نعم فهو من الله، وما أصابه من شر فهو أيضاً من الله سبحانه وتعالى.