المادة كاملة    
الولاية قسمان: ولاية عامة لجميع المسلمين، وولاية خاصة، وهي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويليهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ثم من سار على منهجهم واقتفى أثرهم. ومن ادعى أنه خير من الأنبياء فقد كفر، ومن ادعى أنه خير من الصحابة فقد ضل ضلالاً مبيناً. والعلم علمان: علم موجود، وهو علم الشريعة، وعلم مفقود، وهو علم الغيب، فمن أنكر من العلم الموجود معلوماً من الدين بالضرورة لا يجهله مثله فهو كافر، ومن ادعى العلم المفقود -علم الغيب- فهو كافر.
  1. استعراض لبعض مباحث العقيدة الطحاوية

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
    [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود].
    قال المصنف رحمه الله:
    [الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة، وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا))[الجن:26-27] الآية، وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[لقمان:34]، ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته؛ ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات، التي لا يعلم منها إلا المضرة؛ لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم]
    .
    الشرح:
    يقول الطحاوي رحمه الله: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعال]، يقول المصنف رحمه الله: [الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة]، قوله: (فهذا) أي: الأبواب السابقة التي تقدم ذكرها.
    ومن المعلوم أن أئمة السلف رحمهم الله في القرون الثلاثة وما بعدها -غالبهم إن لم يكونوا كلهم- لم يكونوا مهتمين بالتبويب في كتبهم التي هي سرد علمي؛ بل كانوا يعتمدون على الإلقاء أو الكتابة والسرد، غير مهتمين ذلك الاهتمام الذي عُني به المتأخرون من التوبيب والفقرات، وتفصيل الموضوعات، وهذا شاهد على ذلك؛ فإن قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله: (فهذا...) إلخ، الأولى -حسبما نعرفه من التبويب في الكتب- أن تكون هذه العبارة في خاتمة الكتاب، لكن الشيخ جاء بها هنا وجاء بها بعد موضوع القدر؛ لأنه من أكثر الموضوعات التي تثير في المؤمن ضرورة الدعوة إلى الإيمان والاستسلام والعبودية، وذلك أن الإنسان إذا عاش في بيئة يكثر فيها النزاع في القدر والكلام فيه؛ يجد أن أهم ما يدعو إليه هو الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستسلام لأمر الله، والتصديق بكل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من الوحيين، وعدم الاعتراض أو التنازع في شيء من ذلك.
    والشيخ رحمه الله كان مدفوعاً -فيما يبدو- بهذه العاطفة القوية وهو يتحدث عن القدر، فختم ذلك الباب بهذه العبارة، وهي لائقة بالكتاب كله أو بالعقيدة التي وضعها جميعها.
    ولا شك أننا إذا نظرنا إلى ما سبق مما ذكره رحمه الله ووضح مذهب أهل السنة والجماعة فيه؛ لوجدنا أنه ذكر أبواباً عظيمة هي من أهم أبواب العقيدة -ولكن بقي أيضاً أبواب مهمة- نذكر بعضها: فمنها مبحث التوحيد وأنواعه، وموضوع الشفاعة، وموضوع الرؤية والأسماء والصفات، لكنه تعرض لبعض الأسماء فقط ولم يذكرها كلها، وهناك ذكر الشارح رحمه الله درجات المؤولين أو النفاة لصفات الله تعالى. ومما تقدم -كذلك- مبحث التأويل، ومبحث الرؤية، وهو من الموضوعات التي ذكرها لحاجة ذلك العصر إليها، وإلاّ فهي من ضمن الأمور التي تدخل تحت الغيبيات، أو تحت أبواب الصفات.
    وتكلم أيضاً عن الإسراء والمعراج، وعن صفة الكلام -وهو من أهم الموضوعات- وقد أطال فيه، وقد ذكرنا اختلاف المذاهب في الكلام، وتحدثنا عن موضوع مهم وهو موضوع النبوة، ثم تحدث عن علم الكلام وخطره والتحذير منه، وأنه يورث الوسوسة والشك، وفي مقابل هذا جاء ليؤكد على مسألة الاستسلام والأخذ والتلقي عن الكتاب والسنة.
    وهذه الموضوعات كلها قد تقدمت، وبقي موضوعات وأبواب مهمة بعضها تقدم شيء منه، وبعضها لم يتقدم منه شيء، فمن الموضوعات التي تقدم شيء منها: الإيمان، وقد سمي: باب الأسماء والأحكام، أي: متى يسمى الإنسان مؤمناً؟ ومتى يسمى فاسقاً؟ ومتى يسمى كافراً؟ ومتى يسمى مبتدعاً؟ وما حكمه في هذه الحالات عند أهل السنة، وعند الخوارج، وعند المعتزلة، وعند الشيعة ...إلخ؟
    ومن الأبواب التي سوف تأتي: باب التكفير، وهو ضمن باب الإيمان أو باب الأسماء والأحكام، وكذلك موضوع الصحابة، وموضوع الإمامة، وموضوع الجماعة -وهذه الموضوعات الثلاثة مترابطة- فنعرف ما هو حكم الصحابة، وما هو الواجب لهم رضوان الله تعالى عليهم؛ وما هي الفرق التي ضلت فيهم؛ وما مذهبها؛ وكم أنواعها؛ ومن هو الغالي منها والأدنى... هذا كله سيأتي إن شاء الله. ومما يتعلق بذلك موضوع الإمامة، ومعرفة الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو الإمام الشرعي الذي تجب طاعته؟
    ويتبع ذلك ويتعلق به موضوع الجهاد مع من يكون؟ وكذلك الصلاة خلف أهل القبلة وإن كان لديهم بعض البدع، وأحكام ذلك، وهذه تدخل ضمن أبواب الإيمان، أو ضمن باب الجماعة، ومن هي الجماعة؟ وكيف نحرص على السنة والجماعة؟ لأن من أصول أهل السنة والجماعة: الحرص على الجماعة، وتجنب الفرقة والشذوذ والخلاف.
    ومن المواضيع التي ستأتي: الروح والنفس: ما حقيقتهما؟ ويتعلق بذلك عذاب القبر ونعيمه، والبعث، وهكذا بعض أبواب الصفات ومباحثها، ومنها: العرش أو العلو -عموماً- وهي من أهم مباحث الصفات للباري تعالى، وفي أبواب الصفات مباحث مهمة جداً؛ لو فهمت لفهمت كل الصفات، ومنها: الكلام، والرؤية -وهذه تقدمت- والعلو -وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله، ولا بد من الإشارة إليها -وإن كانت لم تأت بعد- باعتبار الترابط ببين الموضوعات.
    كذلك من موضوعات العقيدة المهمة -وهي من جملة ما يحتاج إليه المسلم، وهي مما لم يشر إليه الماتن رحمه الله، ولكنها ستأتي ولابد أن يعرفها المؤمن- موضوع علامات القيامة، وأشراط الساعة. ثم سيتكلم الشيخ رحمه الله عما يتعلق بالكهنة والعرافين، وحكم إتيانهم، وهو مما أشار إليه هنا، وهو يتعلق بمباحث توحيد الألوهية، وكذلك يبحث رحمه الله موضوعاً مهماً وهو موضوع الدعاء، وهو مما اختلف فيه أهل السنة مع الصوفية والمعتزلة ؛ في شروطه وآدابه والتعبد به، وجدواه وفائدته.
    ثم يأتي قريباً منه موضوع الكرامات.. وما هي الكرامة؟ ولمن تكون؟ وما هي ضوابطها وشروطها؟
    فنلاحظ من هذا أن هذه العقيدة -رحم الله ماتنها وشارحها- ليست مرتبة بالدقة التي نجدها في كتب المتأخرين من علماء العقيدة، لكن يمكن أن ننظر إلى كل فقرة من هذه الفقرات على أنها موضوع مستقل، ونشير إلى الروابط مع الموضوعات الأخرى؛ وهذا ما عملناه وسنعلمه بإذن الله تعالى.
  2. وقفة مع الولاية وبيان أن الصحابة هم أفضل أولياء الله

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [... من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى].
    لم يتعرض المصنف رحمه الله لشرح هذه العبارة وبيان من هم أولياء الله؛ لأنه سيأتي ما يوضح ذلك في مبحث الكرامات، لكن لا بأس أن نشير إلى شيء من ذلك هنا.
    من المعلوم أن أعظم أولياء الله تعالى وأجلهم وأعلاهم مقاماً هو محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده الأنبياء والصحابة والصديقون والشهداء والصالحون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فأعلى جيل من الأولياء هو الجيل الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظم الأولياء في هذه الأمة هم الصحابة الكرام؛ فلا يجوز أن يخطر ببال أحد من المسلمين أن جيلاً -أو فرداً- بعد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يمكن أن يكون أعظم في درجة الولاية من الصحابة، حتى الأئمة المشهود لهم بالخير والفضل، المجمع على مكانتهم وإمامتهم في الدين، أمثال عمر بن عبد العزيز، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأولئك الأجلة وغيرهم، على فضلهم وعلو مكانتهم، وعلى أننا نتقرب إلى الله تعالى بحبهم، وأنهم من القرون المفضلة، أو ممن هم أقرب إلى القرون المفضلة الثلاثة، ولكنهم مع ذلك لا يرتقي أحد منهم لأن يكون كأحد الصحابة أو أفضل من أحدهم.
    هذه قاعدة أساسية، ولكن على وضوحها وبدهيتها نجد أنها تكاد تكون منسية تماماً في شعور وفي إحساس كثير من المسلمين؛ بدليل ما نشاهده من تعظيم وإجلال -بله التقديس والعبادة- لبعض المتأخرين الذين جاءوا من بعد، ويقال عنهم: إنهم أعظم الأولياء، وهم أشرف وأفضل الأتقياء، فكيف يتفق هذا؟ كيف يصح أن تلغى هذه العقيدة وهذه القاعدة على بدهيتها، وعلى ما يشهد لها من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
    ولو أردنا أن نذكر الأدلة فيها لطال بنا المقام جداً، لكنها معلومة ولله الحمد.
    إذاً: لا جيل أفضل من جيل الصحابة مطلقاً، فهم أولياء الله، وينبني على ذلك ويترتب عليه: أن صفات الأولياء يجب أن تكون مستقاة من صفات أولئك ومشتقة منها، فلا ولي لله تبارك وتعالى إلا من كان مقتدياً بذلك الجيل.. بأولئك الصحابة الكرام والسلف الصالح ؛ فمن سار على منهاجهم ونسج على منوالهم، فهو ولي من أولياء الله سبحانه وتعالى، قد بلغ الذروة في الولاية؛ لأن الولاية ولايتان: عامة وخاصة، والكلام هنا إنما هو في الولاية الخاصة؛ أما الولاية العامة فكل المسلمين هم أولياء لله سبحانه وتعالى، وأعداء الله هم الكفار، وكذلك: حزب الله هم المسلمون، وحزب الشيطان هم الكفار، وهذا من المسلمات، وكل مسلم في الحقيقة هو من أولياء الله -إذا قصدنا الولاية العامة- لأنه من أهل التوحيد والإسلام والإيمان.
    والولاية الخاصة يقال عن المتصفين بها: الأولياء؛ وهي كغيرها من المصطلحات الشرعية: التقوى، البر، الطاعة، ويقال عن أصحابها: أبرار، صالحون، مؤمنون، وهذه المصطلحات -الكلمات الشرعية- درجات مختلفة، فالمؤمنون يتفاوتون في الإيمان، والمتقون يتفاوتون في التقوى.. وهكذا. فالولاية تعني أن أناساً يتميزون عن العامة من المسلمين -والذين هم دون هذه الأسماء- لكنهم في ذاتهم متفاوتون، فالشهداء درجات، والصالحون درجات، والأتقياء درجات... والولاية الخاصة بمعناها الخاص متفاوتة في درجات أصحابها؛ شأنها في ذلك شأن كلمة التقوى أو البر أو الطاعة.
    فأولياء الله يتفاوتون.. فـأبو بكر رضي الله تعالى عنه -مثلاً- أفضل من عمر، مع أن كليهما ولي لله، وهكذا يتفاوت سائر جيلهم، ومن يأتي من بعد جيلهم ممن سار على منهجهم من الأئمة الكبار المقتدين بالصحابة في كل صغيرة وكبيرة، وهم في ترتيب الولاية بعد ذلك الجيل المختار، كالإمام أحمد وهو الذي أجمعت الأمة على حبه وجلالته وعلمه وفضله رضي الله عنه، ومع موقفه العظيم الذي وقفه في وجه أهل البدع والضلال، وأوذي في الله سبحانه وتعالى، وهو بذلك ولي من أولياء الله، لكن لاشك أن درجته في سُلَّم الولاية تكون بعد ذلكم الجيل المفضل.
    وكل إنسان تكون درجته في الولاية بحسب درجته من الإيمان، ولكن ضمن هذا التسلسل، فلن يأتي أبداً مَن يكون أعظم ولاية لله من أولئك الصحابة، والولي إنما يترقى في درجة الولاية بمقدار ما يقتدي بأولئك السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فيجب أن يعلم أن الولاية هي في الاقتداء بذلك الجيل الذي تحققت فيه الدرجة الرفيعة من الولاية.
    1. الولي عند الصوفية

      القضية الأخرى التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار انطلاقاً من هذه البدهيات والقواعد الواضحة، هي: أن الولي ليس أسطورة، أو شخصية خيالية! كيف كان الصحابة؟ وكيف كان السلف يعيشون؟ وبماذا اشتغلوا؟ وماذا عملوا؟ وكذلك من سار على منهجهم؟
      لقد بيّن الله تعالى من هم الأولياء، وذكر لنا أحوالهم في كتابه فقال: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ))[يونس:62-64].
      إذاً: عملهم هو التقوى والإيمان؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبصحبه الذين هم أفضل الناس بعده، وأتقى الأجيال.
      لكن جاء في العصور المتأخرة من يقول: فلان ولي؛ فإذا قيل له: كيف عرفت ولايته؟ قال: لأنه ترك الناس واعتزلهم ولم يتزوج، ولم يأخذ بأي حظٍ من حظوظ الدنيا، أو لأنه يطير في الهواء، ويمشي على الماء، ويفعل ويفعل... فهذا هو الولي في نظره وفي نظر أمثاله.
      أما من كان في بيت من بيوت الله؛ يتلو كتاب الله؛ راكعاً أو ساجداً لله؛ مجاهداً في سبيل الله؛ آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، داعياً إلى الله؛ فهو عندهم ليس بولي؛ بل هو مسلم فقط، والولي عندهم هو تلك الصورة التي وضعتها الأجيال المتأخرة في عصور الانحطاط، وهي صورة إنسان لا تتمثل فيه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل إن أخلاقه وطباعه من أخلاق رهبان البوذيين والهندوس، ورهبان النصارى، فهذا هو الذي يريدونه، ولو رأوا شخصاً من العباد والعلماء والزهاد والمجاهدين، أو سمعوا به؛ لما رضوا أن يسموه ولياً، وأقل ما سيكون أنهم لن يعتبروه أفضل من وليهم؛ لأن وليهم لا يأكل إلا من المزابل، والدنيا عنده حقيرة تافهة، لا يسعى لها، وشغله إنما هو بالآخرة.. ينام في أي مكان.. ولم يُعرف عنه أنه غسل ثيابه منذ أن عاش!
      هذه هي أخلاق أوليائهم، حتى أصبح منهم من يفتخر أنه يترك الجمعة والجماعة -نسأل الله العفو والعافية- فأي ولاية هذه؟!
      وهذا النوع يُصطلح على تسميته بالتصوف العامي أو البدعي، وهذا هو الغالب على ساحة العالم الإسلامي اليوم؛ منذ قرون، ونظرتهم أن الولي هو من هذه حاله!
      غير أن هناك ما هو أشد خطراً من ذلك وأخبث، وهو ما يقوله فلاسفة الصوفية؛ فإنهم قد جعلوا الولاية درجة أعلى من درجة النبوة، فارتكبوا بذلك مكفراً من المكفرات؛ إذ أن من زعم أو ادعى أو ظن أن أحداً أفضل من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو من أي نبي من الأنبياء، فهو كافرٌ؛ فهم يجعلون مقام النبوة أدنى من مقام الولاية، قالوا:
      مقام النبوة في برزخ            فُويق الرسول ودون الولي
      فأعلى شيء عندهم هو الولي، ثم النبي، ثم الرسول.
      إذاً: الأولياء عندهم أعظم وأفضل من الأنبياء، ويقولون: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وخاتم الأولياء منزلة قد ادعاها كثير منهم؛ كـابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، ومن آخر من ادعى أنه خاتم الأولياء محمود محمد طه، وشعيشع الذي ظهر في مصر، وكلٌ يدعي أنه أفضل من خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
      ولا شك في خروج هؤلاء من الإسلام، ومروقهم من الدين وكفرهم، وقد كفرهم أكثر الأمة، ولم يتردد في تكفيرهم إلاَّ من جهل بحالهم، أو كان على منوالهم.
      ومن أحسن الكتب في هذا الموضوع كتاب الفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي هو: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ؛ لأن له كتاباً آخر هو: الفرقان بين الحق والباطل، وكذلك كتاب ولاية الله للإمام الشوكاني رحمه الله، وقد شرح فيه حديث الولي، وحققه الدكتور إبراهيم هلال .
  3. الإيمان بما جاء عن الله ورسوله من العقائد هي درجة الراسخين في العلم

     المرفق    
    يقول: [وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً] -وينبغي أن نقول: (صلى الله عليه وسلم)؛ حتى وإن لم يكتبها الشارح؛ لأنه قد يلفظها ولا يكتبها، فنصلي ونسلم عليه صلى الله عليه وسلم- ودرجة الراسخين في العلم هي الإيمان بهذه العقائد: ما تقدم منها، وما سيأتي إن شاء الله.
    إذاً: الرسوخ في العلم ليس هو التعمق والتكلف، وهذه هي مناسبة إيراد الشيخ رحمه الله لهذه العبارة، حتى لا يتجرأ أحد ويقول: أريد أن أتعمق في مباحث القدر والصفات، ثم يأتي بما لم يأت به أحد من العلماء من أئمة السلف في هذا الباب، وهو يدعي أنه يريد أن يرسخ في العلم، فدرجة الراسخين في العلم هي الإيمان بهذه العقائد، والاستسلام لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وليس بعد ذلك من درجة إلا منزلة المتعمقين أو المتكلفين أو المتنطعين، فالراسخون في العلم هم الذين علموا، وفقههم الله تبارك وتعالى في الدين، فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ولا يدخل في ذلك علماء الكلام، فقد سبق أن ذكرنا أن علماء الكلام هم أكثر الناس شكاً ووسوسة -والعياذ بالله- فليسوا من الراسخين في العلم، ولا يدخل في ذلك أيضاً -من باب أولى- الجاهلون الذين يقولون على الله تعالى أو في صفاته أو في دينه بغير علم.
    1. أقسام العلم من حيث الوجود والفقدان

      يقول الماتن: [لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود]، يقول المصنف رحمه الله: [يعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عز وجل عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها].
      هذا هو العلم الذي يرسخ فيه العلماء، وهو العلم الموجود، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم بلاغاً كافياً كاملاً، ولم يخن صلى الله عليه وسلم الرسالة، وحاشاه من ذلك! وكذلك بلغه عنه أصحابه الكرام، ولم يخونوا الرسالة والأمانة من بعده صلى الله عليه وسلم، بل نقلوا ما بلغهم إياه كاملاً غير منقوص.
      إذاً: هذا هو العلم الموجود الذي علمنا الله تبارك وتعالى إياه، وهو سبحانه وتعالى العليم الخبير بما ينبغي لنا أن نعلمه، وبما نستطيع أن نفهمه، فأطلعنا عليه، وطوى عنَّا علماً آخر استأثر به سبحانه وتعالى، وهو العلم المفقود، وهو ما استأثر الله به من علم الغيب، ومنه ما يتعلق بمسألة القدر، فإن الله لم يطلعنا عليها، قال عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))[آل عمران:179].وقال: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:26-27]، وهذا استثناء سيأتي إيضاحه إن شاء الله، والأصل أن ذلك العلم محجوب عن البشر.
      فيجب على الناس حيال العلم الموجود أن يؤمنوا به ويتعلموه ويتفقهوا فيه ويعملوا به، وأما العلم المفقود فيجب الإيمان به والتسليم له، ولن يستطيع البشر غير ذلك، فلا يتكلفوا في معرفته؛ كما فعل بعض أهل الكلام وأهل التصوف حين تكلفوا في معرفته؛ فضاعوا وتاهوا، ولا أن يكفروا به كما فعل الفلاسفة وكثير من أهل الكلام؛ حين كفروا بما لم يحيطوا بعلمه؛ قال تعالى:((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39]، وهذا حال الذين لا يؤمنون بالغيب، يكذبون بما جاء عن الله ورسوله لهذين السببين:
      إما لأنهم لم يحيطوا بعلمه، وقالوا: كيف يقدر الله هذا الشيء، ثم يجازينا عليه؟! لا نستطيع فهم ذلك؛ فيكفرون به. وهذا تكذيب بما لم يحيطوا بعلمه، وليس عدم الإحاطة بالعلم دليلاً أو مبرراً بتكذيب الله ورسوله.
      السبب الآخر وهو: ((وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39] يقولون: كيف نؤمن بعذاب القبر ونحن لم نره؟ وإذا رأوه وآمنوا به لم يعد هذا من الإيمان بالغيب؛ لأنه أصبح مشهوداً، ولهذا لا تقبل توبة الكافر -أو التائب عموماً- إذا رأى الملائكة وقد جاءت لقبض روحه؛ لأنه رأى عياناً ما كان مطلوباً منه الإيمان غيباً.
      ولذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس ويفقهونهم في العلم الموجود، وإذا سئلوا عن العلم المفقود الغيبي كانوا يقولون: الله أعلم! ويستشهدون بقوله تعالى: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23]، وقد سبق أن ذكرنا أحاديث تدل على هذا المعنى في باب القدر، ومنها حديث عمران بن حصين .
    2. أقسام العلم عند الباطنية

      وهنا نقف وقفة أخرى حول مسألة تقسيم العلم إلى علم مفقود وعلم موجود، فهناك قسمة أخرى للعلم عند الباطنية، وهي: علم الباطن وعلم الظاهر، أو علم الحقيقة وعلم الشريعة، وهذا شاهد لمخالفة هذه السنة التي ذكرها الشيخ رحمه الله.
      قالت الباطنية : العلم الشرعي علم الشريعة، وكله من العلم الظاهر، وهو إنما أُنزل للعوام، وهناك علم الباطن، قالوا: وليس هو علم الغيب، وإنما هو علم للخاصة الذين يتلقونه عن أئمتهم -زعموا- المستورين المعصومين فإنهم يجعلونهم الطريق الوحيد لمعرفة ذلك العلم الباطن، ويزعمون أن لكل آية من القرآن معنىً ظاهراً وآخر باطناً، والباطن له باطن، والتأويل له تأويل، حتى قال بعضهم: إلى سبعمائة باطن!! إذاً كيف سيعرف الحق؟!!
      وهذه وسيلة اتخذوها لهدم هذا الدين، وذلك أن العربي -أو من تعلم العربية- يفهم الآيات على ظاهرها، كقول الله سبحانه وتعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[البقرة:163]، فيفهم من ظاهر الآية أن الله واحد، وهو -أيضاً- باطنها وحقيقتها، وكذا قوله تعالى: : ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:43]، تدل الآية على أن الصلاة المعهودة المعروفة يجب إقامتها، والزكاة المعلومة المعهودة يجب أن تؤتى؛ فيبطلون ظاهرها ويدعون لها ولأمثالها من الأوامر والنواهي الشرعية باطناً وفق أهوائهم؛ ليهدموا الدين بذلك؛ وذلك لأنهم لو قالوا للناس: اكفروا بهذا القرآن، فلن يصدقهم أحد، بل سيقاتلهم الناس، فجاءوا بحيلة وقالوا لهم: آمنوا الإيمان الحقيقي الصحيح.. وما هو الإيمان الصحيح؟ قالوا: هو الإيمان المأخوذ عن الأئمة، وهو العلم الباطن والحقيقي، فلا تأخذوا الآيات على ظاهرها كالعوام الذين يفهمون من قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:43]، أن يصلوا ويزكوا، لكن خذوا الفهم الحقيقي الذي هو فهم الخواص. ثم بعدد ذلك كل طائفة تفسره بحسب ما تريد..
      والباطنية بجميع فرقها وتشعبها هي من الطوائف الخارجة من الملة وعن فرق هذه الأمة جميعاً، وهي التي فسرت الدين -من أجل طمس الإسلام وإبعاد الناس عن حقيقة الكتاب والسنة- بهذه الوسيلة الخبيثة، وهي قولهم: إن الدين له ظاهر وله باطن، والباطن يتلقى عن الأئمة المستورين.
      وبعض الفرق الضالة أخذت ذلك عنهم وانتهجت منهجهم؛ فـالرافضة يوافقونهم بأن الأئمة المستورين يعلمون الغيب، ويعلمون ما كان وما سيكون، وأنهم مطلعون على العلم الباطن؛ هذا وإن لم يتعمقوا مثلهم في تأويل الأحكام العملية؛ فـالرافضة لا يوافقون الباطنية في تأويلها؛ كالصلاة والزكاة والحج والعمرة والوضوء؛ فعند الرافضة أنها هي نفس الأعمال الظاهرة المعروفة عند المسلمين، لكنها بهيئة أخرى في مذهبهم.
      أما الباطنية فلا يرون ذلك؛ فـالنصيرية والإسماعيلية وسائر فرق الباطنية لا يرون أن الصلاة هي هذه الصلاة، ولا الوضوء هو هذا الوضوء، ولا الزكاة هي هذه الزكاة ... إلخ، لكن توافقهم الرافضة في أن الإمام يعلم الغيب، كما في الكافي وغيره، وأن الأئمة -وحدهم- يفسرون القرآن ويعلمون بواطنه.
    3. أقسام العلم عند الصوفية

      والصوفية أيضاً أخذوا بحظٍ من ذلك، فنجد أن الغزالي مثلاً -وهو يعتبر من المعتدلين في التصوف قبل أن يتوب منه -يقول: إن الباطن حقيقة، وإن الإنسان يتلقى هذا الباطن كما يتلقى النبي، وشَبَّه ذلك بانعكاس الضوء من المرآة إلى الجسم أو إلى المرآة الأخرى، وأن علياً رضي الله عنه كان يعلم هذا العلم الباطن ... إلى غير ذلك، فنجد أن التصوف عموماً وصل إلى هذا الحد؛ حتى إنه في كثير من الأحيان لا يستطاع أن يصنف بعضهم: هل هو من غلاة الباطنية أو من غلاة الصوفية ؟ فيختلط الأمر؛ لأنه يتحد في دعوى معرفة هذا العلم، لكن الصوفية يأتون بشيء آخر وبمسميات أخرى، يقولون: علم الرسوم -أو علم الظاهر- مقابل علم الباطن، أو علم الشريعة مقابل علم الحقيقة، كما يقول أحدهم: عن شيخي فلان عن شيخي فلان عن شيخه فلان، إلى علي، أو إلى أبي بكر، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله تعالى، فهو يرى أن علم الخِرَق -والتي لا يعطاها إلا من بلغ درجة عليا في الإيمان- أعظم من علم الورق، وكما يقول قائلهم: تأخذون علمكم من ميت عن ميت، تقولون: فلان عن فلان عن فلان، أما نحن فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقول: حدثني قلبي عن ربي!!
      إذاً: هذا هو علم الحقيقة -عندهم- أما علم الشريعة فهو لدى عامة الناس، ويسمونه علم الرسوم، فضلوا بذلك في معرفة حقيقة العلمين اللذين أشار إليهما الشيخ رحمه الله بقوله: "العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود"، فجعلوا هذه القسمة بهذا الشكل: علم الشريعة وعلم الحقيقة.
    4. دليل الصوفية على أقسام العلم عندهم

      ويستشهد الصوفية بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، يقولون: إن فيها دلالة على أن الولي أفضل من النبي، حيث إن موسى عليه السلام - وهو نبي - تعلم من الخضر -وهو ولي-.
      ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج بهذه القصة من الباطل مما قد كشف زيفه وبطلانه علماء الإسلام، وكل ذي بصيرة يعلم أمرين اثنين:
      الأمر الأول: أن الخضر وموسى عليهما السلام نبيان، والنبي يتعلم من النبي، وخاصة أن الذي أمره بالذهاب إليه هو الله سبحانه وتعالى، ودلَّه على موضعه، وهيأه ليقابله، ولا يعني هذا أن الخضر أفضل من موسى بإطلاق؛ لأن الإنسان قد يتلقى العلم عن إنسان وهو أفضل منه، بدلالة نص الحديث الصحيح الذي ورد في قصة موسى والخضر، قال موسى للخضر: {أنت على علم علمك الله إياه ليس عندي، وأنا على علم علمني الله إياه ليس عندك}، فكل منهما على جانب من العلم لم يعلمه اللهُ الآخر.
      إذاً: هذا نبي وهذا نبي، لكن هذا لديه علم لم يؤته الله الآخر، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام لم يبعث إلى الناس كافة، وإنما بعث إلى قومه فقط، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً، ورحمة للعالمين؛ للثقلين جميعاً، أما من قبله -ومنهم موسى عليه السلام- فإنما كان يبعث إلى قومه خاصة، وهذه هي إحدى خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الخمس -أو الست- التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وقد سبق أن شرحنا الأحاديث الواردة في ذلك في مبحث النبوة.
      إذاً: ليس هناك نبي تلقى عن ولي، إنما نبي سأل نبياً أو تلقى وأخذ منه.
      الأمر الثاني -وهو الأهم-: أن ما عمله الخضر عليه السلام وبيّنه له فيما بعد -مما لم يستطع عليه موسى عليه السلام صبراً- ليس مخالفاً للشريعة حتى نقول: إن هذا هو علم الحقيقة، وذاك علم الشريعة؛ فعلم الشريعة ما هو إلا ما يوحي به الله ويأمر به، فالشرع هو الأمر والنهي، ونحن والصوفية متفقون على ذلك، فإذا كان الخضر يقول: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو نبي؛ لأنه فعل ذلك بأمر ووحي من الله، وهذا دليل على النبوة، وكذلك الخضر عمل بمقتضى الشريعة، والشريعة هي الأمر والنهي، ولو أخذنا القضايا الثلاث قضية قضية لعلمنا أنها كلها من الشريعة:
      القضية الأولى: موسى عليه السلام أنكر خرق السفينة بناءً على الشريعة، حيث إن القاعدة الشرعية التي تمنع مثل ذلك هي: من أحسن إليك فأحسن إليه، والأصل فيك أن تحسن إلى كل مسلم، لكن من أحسن إليك صار واجباً ولازماً عليك أن تحسن إليه؛ فهؤلاء أصحاب السفينة أحسنوا إلى الخضر وموسى وغلامه، فليس جزاء ذلك الإحسان خرق السفينة، وموسى عليه السلام ثار -ونسي العهد- من أجل إقامة الشريعة؛ بناء على أنه ليس من الشرع أن يجازى المحسن بالإساءة، وعندما بين له الخضر عليه السلام لم يقل: لقد كنتُ خارجاً عن حكم الشريعة في هذا لأنني وليٌّ، إنما قال: فعلي ذلك إنما هو مما أوحى به الله إليَّ وأمرني به، فهو -إذاً- (حكم شرعي)، وقال الله تعالى عنه:((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا))[الكهف:79]، فالخضر عنده علم أن وراءهم ملكاً (يأخذ كل سفينة صالحة غصباً) -كما ورد في قراءة مفسرة- ويجند فيها الجند لمحاربة دولة أخرى، ووقت الحرب بالذات لا تفكر الدول في أن هذا ملك للشعب أو لفلان، فكل من يصلح للخدمة العسكريةكما يسمى بـ(المجهود الجربي) أخذوه ولو غصباً- فجاء الجند لأخذ هذه السفينة، فلما ركبوا فيها وجدوها مخروقة فتركوها؛ خوفاً أن تتسبب في غرق الجنود، فكان خرق الخضر للسفينة إحساناً منه إليهم وليس إساءة، مع أن أصحاب السفينة لم يعلموا بما فعله الخضر..، وهذا من الشريعة أيضاً لا مخالفة لها.
      القضية الثانية: قتل الغلام:
      قال تعالى: ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ))[الكهف:74]، وفي هذه القضية ثار موسى عليه السلام، وأنكر إنكاراً أشد من إنكاره في المرة الأولى؛ وذلك لأن هذا المنظر لا يستطيع أحد احتمال رؤيته، وهو من أكبر الكبائر؛ فهذا غلام بريء لم يبلغ سن الرشد -كما يظهر من كلمة غلام- يلعب مع الصبيان، ويقتل أمامه بدون ذنب! فلابد أن ينكر هذا المنكر، فقال موسى عليه السلام: ((أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا))[الكهف:74]، لأن المؤمن لا يستطيع أن يصبر على هذا المنظر، فقتل النفس من أكبر الكبائر، ومرة ثانية يعيد له الخطاب: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً))[الكهف:75]، لن تستطيع يا موسى! ليس لأني على الحقيقة وأنت على الشريعة، وإنما لأنك لا تعلم المصلحة التي تترتب على ذلك، وموسى عليه السلام كان سبب إنكاره على الخضر عليه السلام هو المبدأ الشرعي، مبدأ عصمة النفس -حتى ولو كان كافراً، إلا بأسباب شرعية تقتضي أن يقتل- فالظاهر لموسى عليه السلام أنه لا مبرر للقتل، واحتج عليه السلام بهذا الأصل الشرعي: ((أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))[الكهف:74]، فأجابه الخضر عليه السلام عند ذلك في نهاية الأمر بقوله: ((وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا))[الكهف:80-81]، فقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الخضر بقتل الغلام لأنه كتب يوم كتب كافراً، ولو عاش وهو كافر وأبواه مؤمنان صالحان لأرهقهما طغياناً وكفراً، وإذا قتل فسوف يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ ففعل ذلك.
      وقد قال في الأخير: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو معصوم، كأنه يقول: صدقت يا موسى! كلامك صحيح، والقاعدة الشرعية: أن النفس معصومة إلاَّ بأمرٍ شرعي، ولكن عندي -في هذا خاصة- أمر من الله -لا تعلمه- أن أقتل هذا الغلام، إذاً: عصمة دم الغلام انتفت، فصدق موسى واستسلم، وقال: ((إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))[الكهف:76]، يقول: لقد أخطأت عليك خطأً جسيماً، بأن تهجمت بهذا الشكل مرتين، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وددت أن موسى عليه السلام صبر حتى يقص الله تعالى علينا من خبرهما}.
      القضية الثالثة: أهل القرية:
      قال تعالى: ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا))[الكهف:77]، أي: طلبوا منهم الطعام لأنهم كانوا جائعين وغرباء، وهم ضيوف كرام، ومع ذلك أبوا أن يضيفوهما، وكان قد اشتد الجوع بموسى عليه السلام، فاشتد عنده الغضب من هذه القرية اللئيمة التي لا تؤوي الغريب، ولا تكرم الضيف، ولا تعرف الحق للزائر، فبدلاً من أن يدعوه الخضر لطعام -لكونه تلميذاً له- يدعوه لنباء جدار على ما به من جوع وغضب على أهل القرية اللؤماء؛ قال الله تعالى: ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))[الكهف:77]، أي: ينهدم، فقال الخضر لموسى: تعال لنبني الجدار، وهم في حالة شديدة من الجوع والتعب، فقال موسى عليه السلام بأدب رفيع، من دون اعتراض، وكأنه رأى أنه قد تجاوز الحد في السابقتين، لكن مع ذلك هذا اعتراض: ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ))[الكهف:77-78]، وموسى عليه السلام في هذه الحال اعترض من باب الشريعة، فإن من حق الضيف أن يكرم ويطعم، وإن لم يكن كذلك فمن حقه أن يعمل ويأخذ -على الأقل- الأجرة على ذلك، وهذا عمل شرعي، إذاً: موسى اعترض اعتراضاً من الناحية الشرعية، فرد عليه الخضر عليه السلام بأنه في هذه الحال أيضاً عمله مشروع، ولو كان موسى يعلم ما يعلمه الخضر لوافقه على عمله، ولنسي الجوع والتعب والنصب ولؤم أهل القرية؛ لأن هذا الجدار ملك لغلامين يتيمين، ونحن نحسن إليهما لا نحسن إلى اللؤماء من أهل القرية، ولو كان أبوهما حياً لأكرم الخضر وموسى؛ فقد كان صالحاً، ولو علم أهل القرية بكنز الغلامين اليتيمين لأخذوه، فقد بلغوا من اللؤم أنهم لا يكرمون الضيف، فكيف يحفظون لليتيم حقه؟!
      فكان فعل الخضر واعتراض موسى عليهما السلام موافقاً للشرع، فلا هذا خالف الشريعة ولا ذاك أفتى بغير الشريعة، وكلاهما كان يتكلم عن العلم الذي هو الأمر والنهي والشرع.
      وليس هنالك من فرق بين الشريعة والحقيقة، والتفريق بينهما لا أساس له من الصحة؛ بل الحقيقة في هذه الشريعة التي أرسل الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت أيضاً شرائع الأنبياء من قبله كذلك.
    5. حكم من أنكر شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

      وأما موقف الناس من هذين العلمين فيقول رحمه الله: [فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين]، أي: أن من أنكر العلم الموجود -وهو الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى- كان من الكافرين، ومن ادعى العلم المفقود -وهو علم الغيب- كفر أيضاً. هذا هو مراد الشارح رحمه الله هنا، لكن كلمة (من أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين) تحتاج إلى إيضاح، ولابد فيها من التفصيل ولو إشارة.
      فنقول: إن ما ثبت مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القرآن والسنة الصحيحة، وكان معلوماً من الدين بالضرورة، أو مما لا يجهله مثل ذلك المنكر، ولا يخفى عليه فأنكره؛ فإنه يكون كافراً، ومعنى: (لا يجهله مثله) أي: لو أن أعرابياً جاء من البادية ثم أنكر شيئاً من الدين لا يجهل مثله المقيم العالم، فنقول: لا يكفر هذا الأعرابي؛ لأنه لابد أن يكون مما لا يجهله مثله من أهل البادية، أي: ممن يكون مثله يعلم أن ذلك من عند الله، وأنه مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الشرك والخمر والربا، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالملائكة.. وما أشبه ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
      أما لو أنكر شخص حديثاً ما؛ فإن هذا فيه تفصيل أيضاً: فإن كان الحديث ذا أسانيد مشهورة أو متواترة -ولا سيما المتواترة- أو كان الحكم المتضمن له مما علم من الدين بالضرورة؛ فهذا يدخل ضمن القاعدة الأولى، وأما إن كان من الأحاديث التي جاءت أسانيدها آحاداً وتخفى على مثل هذا الرجل، فلا يُكَفَّر رأساً، ونقول: لا يُكَفَّر رأساً وابتداءً، ولا نقول: لا يكفر مطلقاً، وإنما يُعلَّم، فإن كان إنكاره لشبهة -مثلاً- أنه لم يصح؛ فقد ذكرنا أن تكفير من رد حكم الكتاب غير تكفير من تأوَّل حكم الكتاب، فحكم هذا غير حكم هذا، فمن تأول تكشف عنه الشبهة ويزال تأويله، فإذا قال: أنا لا أومن بهذا الحديث؛ لعدم صحته؛ لأن في سنده فلاناً، فالواجب هنا ألاَّ نكفره، بل نقول: إن الحديث صحيح، ونبين طرقه، وصحته وكلام الأئمة فيه.. حتى نثبت له أنه صحيح، فإذا بنى رده للحديث على عدم تأكده من ثبوته، أو لقاعدة ما كحال أهل الرأي الذين يقولون: إن الحديث -وإن كان صحيحاً- إذا خالف ظاهر القرآن يُرد، فإذا قال في حديث صحيح: إنما أرده لمخالفته ظاهر القرآن، فهذا ليس كمن ردَّه رد تكذيب وإنكار، وإنما لديه شبهة، ففي هذه الحال لابد -أولاً- أن نزيل الشبهة عنه، ونبين له أن هذه القاعدة خطأ، وإن كان عليها بعض الأئمة، وإن قال بها من قال من فقهاء الإسلام.
      هذا هو التفصيل في مسألة إنكار شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والشارح هنا إنما قصده إنكار العلم الموجود، ولو أن التعبير كان هكذا لكان أدق وأسلم: (من أنكر العلم الموجود كفر، ومن ادعى علم الغيب كفر)، أو: من أنكر ما جاء به الرسول كفر، لكن لفظة (شيئاً) تحتمل ما هو أقل، وما هو داخل في باب الإنكار لا على سبيل الرد، ولكن على سبيل التأويل والشبهة، كما سبق.
    6. من ادعى علم الغيب أو شيئاً منه فقد كفر

      ثم قال: [ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26].]، وفي آخر هذا الشرح تعرض الشارح رحمه الله تعالى لقول الطحاوي رحمه الله: [ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة] بشيء من التفصيل، والذي يهمنا الآن هو قوله: [ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين].
      لقد ذكر الإمام المجدد الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه أنواع الطواغيت الخمسة -والطواغيت كثر ولكن رءوسهم خمسة- فذكر منهم من ادعى شيئاً من علم الغيب، وهذا ليس كافراً فحسب؛ بل إنه من رءوس الكفر، وهو طاغوت من طواغيت الكفر؛ لأنه طغى في الكفر حتى أصبح سبباً في الكفر وداعياً إليه، ووسيلة له؛ لأن الكاهن عندما يدعي علم الغيب فإنه بذلك قد ادعى الألوهية في الحقيقة؛ لأنه أخذ خصيصة من خصائص الألوهية، فإذا صدقه الناس فقد أشركوا مع الله في تفرده بألوهيته، وهذا هو الكفر الأكبر، فكفر الناس بسبب هذا الكاهن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}، والكهان سبب من أعظم أسباب الكفر في جميع العصور والبلدان، وإن ادعوا أنهم أولياء أو مقربون؛ فالحقيقة واحدة وهي أنهم طواغيت أخرجوا الناس من الإسلام إلى الشرك والكفر.. هذا هو ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقد بينا أنه سيأتي في أواخر الكتاب مزيد تفصيل في هذه المسألة.
      ثم يذكر الشارح قول الله تبارك وتعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26] * ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا))[الجن:27]، وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[لقمان:34]، وقوله تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ))[الأنعام:59]، فقدم الظرف (وعنده)، وتقديم الظرف دليل على الاختصاص، ثم أكد هذا الاختصاص بقوله: ((لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ))[الأنعام:59]، ومن كان لديه شيء من علم الغيب فهو بإعلام الله تعالى له، قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27]، فالله سبحانه وتعالى يطلع ويظهر رسله على شيء من علم الغيب.
    7. حكمة الله تعالى قد تخفى علينا

      ثم يقول المصنف: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها]، أي: أن لله تعالى حكمة، ولا يلزم من خفائها عدمها يقول: [ولا من جهلنا انتفاء حكمته، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة، لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها، ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم]، فإذا فعل العبد الشر أو المعصية، فنقول: إن الذي خلق فيه هذا الفعل هو الله، وإن كان شراً، وإن كنا لا نعرف حكمةً لفعل هذا الشر، فيقول الشيخ: نحن لا نعلم الحكمة في خلق الحيات والعقارب، وهي شر، ومع ذلك نقول: إنها من خلق الله، وأيضاً أفعال العباد الشريرة من خلق الله، وقد سبق هذا، إلا أن الشيخ كرره هنا، وذكره كآخر ما يذكره في آخر هذه الفقرة، مع أنه سوف يعود بعد في فقرات قادمة إلى موضوع القدر، ويؤكد مسألة الكتابة، ومسألة وجوب الإيمان بالقدر، وأن الناس لا يملكون من أمر القدر شيئاً.