أما غيره من المدح كَانَ يمدحه بشيء فيه ما يدعو إِلَى السخرية، كقولهم: كَانَ الذباب لا يقع عليه، وكان القمل لا يؤذيه، فهذا ليس المدح الذي مدحه الله به وأثنى به عليه، ومع ذلك تؤلف في ذلك الكتب ويقولون: إن من يدعو إِلَى التمسك بسنته، فإنه يكرهه.
ويقولون: هَؤُلاءِ يكرهون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم ينكرون علينا هذا المدح، ويقولون: "لا تطروا الرسول، لا تبالغوا في مدح الرسول" وبهذا الكلام يرون أن هذا هو غاية المدح، مثل ذاك الشاعر البدوي كما تقدم. فيجب أن نعلم أن الأمر ليس متروكاً لآرائنا وأهوائنا نمدح بما نشاء ونذم بما نشاء، وإنما نمدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حدود ما أمر الله، مع حبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهذه لها موضوع -وسيأتي بإذن الله- أهمية محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن محبته غير طاعته، نعم هي تستلزم وتقتضي طاعته لكن المحبة نفسها كعمل قلبي، هذا أمر واجب لا يجوز أن يخلوا منه قلب مسلم.
ولو أن أحداً كَانَ في قلبه أدنى بغض لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لما جَاءَ به لم يكن مسلماً عَلَى الإطلاق في مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل هو منافق، وإذا لم نحب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن الذي نحب إذاً.
وقد ضرب الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ مثلاً أعلى في هذا، فقد أمر المعتصم-الخليفة العباسي- به أن يُمد عَلَى الأرض ويضرب، فيضرب حتى تنفتق خاصرته، وتخرج أمعاؤه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ليقول البدعة والكفر، وهو يأبى إلا أن يقول الحق ويصبر عليه وذلك يضربه، ويعذبه، حتى أغمي عليه.
ومن المعلوم أن كل أئمة الإسلام وعلمائه لكثرة علاقتهم بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وثقتهم به وعبادتهم وتقواهم، لو رفعوا أيديهم عَلَى مخلوق لاستجاب الله عَزَّ وَجَلَّ لهم؛ لأنهم يتحقق فيهم حديث الولي: {ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه} وقد كَانَ الإمام أَحْمَد-رحمه الله تعالى- من الطبقة العليا من رجال الإسلام في الولاية لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وفي طاعته لربه وقد روي ونقل عنه، أنه كَانَ مجاب الدعوة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلما قيل له: أدعُ اللهَ عَلَى المعتصم.
قَالَ: بل أغفر له لقرابته من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعتصم ابنٌ من أبناء العباس والعباس عم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلذلك غفر له.
فـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا ينكرون قرابة الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاينكرون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن الذي ننكره هو الغلو في أي بشر كائناً من كَانَ ورفعه عن مستواه، وننكر أن ينزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن منزلته أيضاً فإن الله تَعَالَى بعثه بالهدى، والنور وبدين الحق، رحمةً للعالمين أجمعين.
فمن أراد أن يجعل من هذا الرَّسُول مجرد ذكرى موسمية تؤكل عليها الموائد، أو يحتفل بها، أو وسيلة للربح الشخصي، أو لأي غرض من أغراض الدنيا، فإن هذا يحقر ويهون من شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هكذا عُني أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنبيهم، الذين كانوا يعرفون قدره، ويعزرونه، ويوقرونه، ويعظمونه، كما شرع الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وما علينا إلا أن نتأسى بهم وأن نقتدي بهم.