وقد جعل الله سيرة هذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضحةً نيرة ليس فيها شيء مما يخشى أن لو انكشف لكان طعناً فيه.
أما غيره من البشر من الزعماء المتبوعين فإنك تجد أن جوانب كثيرة من حياتهم مخفيه مجهولة؛ لأنها لو انكشفت أو عرضت لاطلع عليها النَّاس ورأوا فيها من المعايب والمعاور ما قد يصرفهم عنه، ولذلك تجد أن سيرة كثير من هَؤُلاءِ الأدعياء الذين يدعون الكمال أو يتوهمه فيهم أتباعهم، متناقضة إذ أنها تُعدَّل دائماً ويُحذَف منها: فهذا شيء اكتشف مثلاً أنه باطل، وهذا اكتشف أنه يؤدي إِلَى عكس المعنى الذي أرادوه لما وضعوه، وهذا الشيء إن اطلع عليه كَانَ نقصاً في حقه،
وهكذا إلا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكل ما صح من سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه الغاية في الحق والكمال، وهو قدوة ومعيار؛ لأن نقيس به ما عداه، فما كَانَ عَلَى مثل ما هو عليه فهو الحق، وما كَانَ مخالفاً له فهو الباطل المرذول، والمخالف والمجانب للصواب.
فلذلك نجد أن الإِنسَان إذا أراد التأسي فإنه يمكنه أن يتأسى بسيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواضحة، في مسجده وبيته، وقيادته للجيوش، أو في سياسته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأمة عامة، سواءً في معاملته مع أصحابه، أو في معاملته مع أعدائه، فكلها أمور واضحة حتى أدق الأمور في السياسة، وكذلك معاملة الإِنسَان للكفار من خلال معاهدات واضحة، واتفاقيات أو عقود ذمةٍ واضحةٍ جليةٍ، مالها وما عليها، حتى مع اليهود، كل ذلك في منتهى الوضوح؛ لكي يتأسى به النَّاس ولكي يعلموا أن هذا نبي من خلال سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليقرأها العالم ونتحداهم جميعاً أن يجدوا فيها مطعناً، وأي مطعن يمكن أن يجده الطاعنون في هذه السيرة الزكية العطرة، وهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ودلالة عَلَى أنه صادق وأن هذا القُرْآن من عند الله، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخبر عنه ربه، ما كَانَ يرجو أن يلقى إليه القرآن، ولكن رحمة الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- للعالمين هي التي اقتضت أن ينزل هذا الكتاب وأن يبعث هذا الرَّسُول.