المادة كاملة    
التسليم لأمر الله تعالى وعدم رد حكمه من مقتضيات العبودية لله تعالى؛ فإن مبنى العبودية على التسليم والانقياد، وتنفيذ أمر الله من غير سؤال ولا اعتراض، وينبغي للعلماء اجتناب الافتراضات التي تشغلهم عما هو أهم منها، وربما توقعهم في تأويلات فاسدة.
  1. مبنى العبودية على التسليم لله سبحانه وتعالى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: (فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره).
    قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد.. قال: فإذا عرضت نازلة، أتيتْ من بابها، ونُشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها). انتهى.
    وقال صلى الله عليه وسلم: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} رواه الترمذي وغيره.
    ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بُيّن له الصواب ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"]
    اهـ.
    الشرح:
    ينقل الشيخ رحمه الله هنا ما يؤيد كلامه، بعد أن ذكر مراتب الفعل، وأنه يحتاج إلى التصديق، ثم العزم، ثم المسارعة.. إلى آخر ما ذكرناه.
    فلابد أن يكون العبد المؤمن طائعاً ممتثلاً لله سبحانه وتعالى؛ لأن مقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى أنه إذا بلغك عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم أمر أن تفعله، أو نهي أن تجتنبه، ولو سأل الإنسان سؤال المعاند أو المكابر أو الذي يماطل ويمانع كما هو حال اليهود؛ لكان ذلك رداً لحكم الكتاب وخروجاً عن العبودية لله سبحانه وتعالى، وهذا ما لا يليق بالمسلمين، ولم يفعله سلف هذه الأمة الصالحون رضوان الله تعالى عليهم، بل هو من شأن اليهود.
    1. الاعتراض على أوامر الله من أسباب هلاك الأمم

      يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً سبب هلاك من كان قبلنا: {إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم}، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم نماذج من ذلك:
      قصة بني إسرائيل لما أمرهم نبي الله موسى إبلاغاً عن الله أن يذبحوا بقرة، فهذا مثال من أمثلة ما هلك به من كان قبلنا، وهو كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ومماطلتهم وتكاسلهم عن أمر الله سبحانه وتعالى؛ بل وردهم لأمره؛ فإن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة، فكان الواجب في مثل هذه الحالة أن يمتثلوا، فيذبحوا أي بقرة؛ فإنها مجزئة، ولو أنهم تخيروا البقرة الفضلى التي تطيب بها نفوسهم لكي يذبحوها امتثالاً لأمر الله؛ لكان ذلك خيراً لهم وأفضل، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فإنه ليس المقصود هو ذبح البقرة لذاته، وإنما المقصود هو أن يُعلم القاتل الذي ارتكب الجناية، ولكي يعرف هذا القاتل لا بد من قربان يقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يضرب الميت ببعض هذا القربان، فينطق القتيل، ويخبر عمن قتله.
      فماطل اليهود حتى نُسيت القضية الأولى وهي قضية القتل، وانتقلوا إلى مشكلة جديدة، حيث قالوا لنبيهم: ((أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا))[البقرة:67] مع أنه نبي مكلم من أولي العزم، كلمه الله سبحانه وتعالى، وقد قال لهم: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ))[البقرة:67]، ولو قال: أنا آمركم؛ لوجب أن يمتثلوا؛ لأنه إنما يأمر عن الله، فكيف وهو يقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67]؟! فقالوا له: ((أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا))[البقرة:67]، أي: تسخر بنا وتستهزئ بنا! فكأنه يكذب على الله ويفتري عليه، ويقول بأن الله أمر وهو لم يأمر، ويقول ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[البقرة:67]، ومن الذي يقول على الله سبحانه وتعالى غير الحق؟! ومن الذي يفتري على الله إلا الجاهلون عموماً؟! وأعظم ذلك الجهل بالله، والجهل بقدر الله سبحانه وتعالى وبعظمته، فلذلك قال: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[البقرة:67] أي: أن أفتري على الله وأقول لكم: إن الله يأمركم وهو لم يأمركم.
      وبعد ذلك كأنهم أيقنوا أن الله أمرهم، فقالوا: ما هي البقرة التي أمر الله بها؟
      فلما أخبرهم بأن الله سبحانه وتعالى يقول : ((إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ))[البقرة:68]، عرفوا الوصف، فبحثوا عن أبقار هذه شأنها وصفتها: لا فارض ولا بكر، فوجدوا أبقاراً من هذا النوع ولكنها مختلفة الألوان، فقالوا: أيتها التي يريد الله؟! مع أن هذا أيضاً لا داعي له، وهل كلفكم الله لوناً معيناً؟ لقد أمركم الله أن تذبحوا بقرة، فِلمَ لم تذبحوا؟ وحدد لكم الوصف، فلِمَ لم تذبحوا ما كانت هذه صفتها؟ قالوا: لا بد أن تبين لنا ما لونها، فبين لهم، فقال: ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ))[البقرة:69]، ثم قالوا أيضاً: ما هي؟ فقال: ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ))[البقرة:71]، فبعد كثرة السؤال وكثرة التردد والمماطلة والمماحكة والمجادلة في أمر كان يكفي فيه أدنى وأقل ما يحصل به المطلوب والامتثال، نفذوا ما أمرهم به الله، وإن من أسرع في امتثال أمر الله ولو مع بعض التقصير، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر تقصيره لحسن النية ولسرعة الامتثال، كما قال تعالى: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ))[الحج:37] لكن الذي يماطل ويجادل ويماحك، فحتى لو جاء بالمطلوب، فإنه ملوم على مما طلته ومماحكته.
      فهذا هو الذي نهانا الله سبحانه وتعالى عنه، وهذا حال أولئك القوم وأمثالهم، أما هذه الأمة فإنه السمع والطاعة، كما كان يقول سلفها الصالح رضي الله تعالى عليهم: ((قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا))[النساء:46]، كما أمرهم الله تبارك وتعالى، وهذا هو الواجب على العبد.
    2. الواجب على العبد أن يسأل مستفهماً راغباً

      والاستفهام أو السؤال له موضعه، كما ذكر الشارح رحمه الله عن العلامة ابن عبد البر قوله: "من سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال"، فالمسلم لا يسأل إلا في مثل هذه الحالات: أن يسأل وهو راغب في العلم، يريد أن ينفي الجهل عن نفسه، أو يبحث عن معنى يتعين أن يقف عليه أو أن يعرفه لدينه، "فشفاء العي السؤال" ففي هذه الحالة يجب أن يسأل الإنسان، ولا يجوز أن يعبد الله سبحانه وتعالى على جهل، بل يجب أن يسأل عن أمور دينه؛ قال تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[النحل:43]، فهذا السؤال ليس مما يعاب على الإنسان، ومن سئل فلا ينبغي له أن يستنكف عن الجواب في مثل هذه الحالة من الاستفهام.
      قال ابن عبد البر: "ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم.."، وقد نهى العلماء رحمهم الله عن الألغاز والأحاجي التي يذكرها أهل الرأي وغيرهم، وقد أصبحت الألغاز والأحاجي عند المتأخرين فناً من فنون الأدب، فيسألون في أحكام فقهية، ويسألون في أمور دينية شرعية لا على سبيل المعرفة، ولكن على سبيل التعنت أو الإلغاز، كما في مقامات الحريري مثلاً، فإن فيها أحاجي وألغازاً فقهية، وكذلك نحوية، وهكذا في كل فن، فجعلوا الدين من ضمن ذلك، فيسألون على سبيل التعنت والعناد، أو على سبيل اختبار المسئول، فيأتون إلى رجل عالم يفتي الناس في الفرائض، فيسألونه عن مسألة طويلة حتى يعرفوا هل يستطيع بالبديهة أن يحسب ويجمع، وهل سيعطي نصيب كل واحد كما يستحقه؟ وهذا من النوع لا يجوز أن يسأله الإنسان.
      قال رحمه الله: [ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره]، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يسأل هذا النوع من الأسئلة، ولا يجوز كذلك السؤال على سبيل التعريض بالغير، فيجب أن يتنبه الإنسان، فطلب العلم له آداب كثيرة، وهذا منها، وهو أنه لا يجوز السؤال على سبيل التعريض بأخ من إخوانك المسلمين، ولو وقع في هفوة أو بدرت منه بادرة، ولا سيما إذا رجع عنها وتاب، أو كان لا يريد أن تُعرف عنه، فسألت أحد العلماء على ملأ: ما حكم من فعل كذا وكذا؟ وذلك الرجل موجود أو غائب، ولكن من يشهد الواقعة يعلم أن المقصود بالسؤال هو ذلك الشخص، والمجيب وهو المسئول قد لا يدري، فيتكلم، فيؤذي صاحب الشأن أو الواقعة، فهذا مما لا ينبغي أيضاً، فإن الاستفهام أو الاستعلام لا يكون إلا لطلب العلم وللتعبد، فيعرف الإنسان ربه ودينه، فيعبده على بصيرة.
  2. من آداب العالم والسائل

     المرفق    
    قال ابن العربي: "الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة" هذا الكلام عن ابن العربي له شأن آخر في أبواب العلم، وهو متعلق بما يشتغل به العلماء من أبواب العلم وما يبحثون عنه.
    ومعلومٌ أن منهج الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح عموماً: أنهم كانوا لا يفتون إلا فيما وقع، فقد ورد عن بعضهم أنه كان يسأل السائل بالله: هل وقع ذلك أم تسألون عن افتراض؟
    لأن بعض الناس يسأل مثلاً في الحج فيقول: جئت فتجاوزت الميقات فأحرمت، فماذا عليَّ؟ فيقال له: كذا وكذا. فيقول: أرأيت لو أني ذهبت لإحرامي وجئت؟ أرأيت أرأيت، فيثير إشكالاً لم يقع وربما لن يقع مطلقاً، ويثير كثيراً من الأسئلة، حتى إن رجلاً جاء إلى عبد الله بن عمر فسأله وقال: أرأيت لو أن... فقال له:: [[دع أرأيت في اليمن]]، فكأن الرجل من أهل اليمن، فقال له: دعها في اليمن، لا نريد أرأيت.
    فديننا دين واقعية ودين عمل وامتثال، وليس دين افتراضات، ولكن -مع الأسف- لقد سلك المتأخرون عكس المنهج الذي سلكه السلف الصالح فأصبحوا يفترضون ويبحثون في أمور لم تقع، وبذلك ضيعوا ما وقع في الحقيقة، ولأنه لما كثر البحث فيما لم يقع، ضاع إعلام الناس بما وقع من الأمور، وما استجد من القضايا، وما هو حكم الله فيها، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك كثير من الحق؛ لأن أصحاب هذا الشأن انصرفوا عنه للافتراضات والخيالات، حتى إنهم في أصول الفقه مثلاً -ونحن لا نعترض على أصول الفقه، فهو علم عظيم، ولا يعترض عليه أحد من العلماء، أو طلاب العلم، لكن الاعتراض على التفريعات من الفقه أو الأصول أو غيره- يأتون بقاعدة أصولية ليس لها إلا مثال واحد فقط، فيجعلونها قاعدة أصولية، ويقولون: مثالها كذا، وليس لها إلا هذا المثال، وأشد من ذلك أن يؤتى بقواعد ليس لها مثال مطلقاً.. وهكذا.
    1. أهل الرأي والمسائل المفترضة

      وأهل الرأي هم الذين أحدثوا الافتراضات، وكلمة (أهل الرأي) تطلق في الأصل على فقهاء العراق، ثم اشتهر به الحنفية عموماً، ومدرستهم هي امتداد لمدرسة أهل العراق أو أهل الكوفة حتى أصبح يطلق عليهم، وكان هذا الاتجاه موجوداً في المدينة ولكن بنسبة قليلة، وأكثر ما كان أهل الرأي في العراق، ثم انتشر مذهبهم فوصلت الحالة ببعضهم إلى أن تركوا الآثار، واعتمدوا على الأقيسة والافتراضات، ولهذا نجد أنّ كتب العقيدة الأثرية التي تروي بالسند؛ تضع الأبواب والفصول في ذم الرأي وأهل الرأي، وليس المقصود هنا بأهل الرأي أهل الاستنباط، وإنما المقصود: أصحاب الافتراضات الذين يفترضون ما لم يقع، أو الذين لا يشتغلون بالآثار والأحاديث، إنما يشتغلون بالأقيسة والآراء وبالجدل. ومن المطاعن في كتاب المجروحين لـابن حبان قوله: كان من أصحاب الرأي.. وقد استقى ذلك من كلام الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله تعالى عنهما.
      فقد أصبح لأهل الرأي اتجاه فكري موجود، وهو اتجاه يستنبط، ولكنه يتعمق في ذلك إلى حد أنه يفترض المسائل التي لم تقع ويفترض لها الحكم، فيقول: كيف لو كان كذا؟ وكيف لو كان كذا؟ ويوجد في كتب الفروع وكتب الفقه المبسوطة والمطولة الشيء الكثير من هذا؛ أما كتب الحديث والسنة فإنها تنقل الأحاديث فقط، أو تنقل الأحاديث مع شيء من الشرح، فتقرؤه في أيام أو في أسابيع، فإذا جئت إلى كتب أهل الرأي تجد العجب العجاب! فيقولون مثلاً: الماء متى ينجس؟ ومتى لا ينجس؟ ويفترضون في الماء الذي يبلغ القلتين أن طوله كذا ذراعاً، وعرضه كذا ذراعاً، وعمقه كذا ذراعاً، ويقولون: إذا جاءت النجاسة من هنا، أو دخلت من هنا، أو ألقيت وكانت من نوع كذا، ويأتون بافتراضات كثيرة جداً.. ولهذا جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في المسائل الماردينية وفي غيرها، أنه رد وأبطل كثيراً من هذه الافتراضات التي لم تبنَ على دليل.
    2. من الآثار السيئة للافتراضات الفقهية البعيدة

      إن أهل الرأي بافتراضاتهم وتعليلاتهم قد يؤصلون لما فيه حرج ومشقة، ونحن لا نعترض على الفقه لأنه فقه، لكن الاعتراض هو على هذه الافتراضات وما فيها من حرج ومشقة وتكلف فيما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن منهج السلف الصالح في معالجة الواقع.. حتى إن بعض الكتاب المعاصرين المشكوك في التزامهم وتدينهم، أصبحوا يتخذون من أمثال هذه الأمور حجة وذريعة، ويقولون: الدين للواقع؛ وهم متأثرون في هذا بالنظريات الماركسية حينما قالوا: إن علماء الدين يشتغلون بمجالات عقيمة، ويتركون واقع الناس.. الظلم والفقر والجهل يسحق الطبقات الدنيا، وعلماء الدين مشغولون بالمسائل الافتراضية، وهذا الكلام يقوله الشيوعيون ويرددونه أثناء كلامهم عن رجال الدين النصراني، فجاء هؤلاء واستقوا هذا المنهج، ووجدوا أن بعض الفقهاء يشتغل بالخيالات وبالأمثلة التي لم تقع ولن تقع، وهي كثيرة جداً في كتب الفقه المتأخرة، فقالوا: يجب أن يكون الدين للواقع، ويجب أن يشتغل العلماء بالواقع.
      وفي المقابل وجد أناسٌ عرفوا سر هذه المسألة من المجرمين أو المنافقين، فأرادوا أن يشغلوا الأمة ويشغلوا علماءها بهذه الأمور عن الواقع؛ أي أنه وجد اتجاه معاكس يقول: لا يجوز أن يشتغل العلماء بواقع الناس.. فمثلاً: الزنا انتشر في العالم، وكذلك الاختلاط والتبرج، وكثر الفساد فهم لا يريدون أن ينتبه العلماء إلى هذا وأن يتحدثوا عن أسباب هذه الفواحش، وكيف يمكن إزالتها، فيشغلونهم مثلاً بطفل الأنبوبة وأحكامه ورضاعه ونحو ذلك، فيجتمع العلماء ويشتغلون ويفكرون ويقولون: هذه المسألة مشكلة.. ويشغلونهم أيضاً بما إذا قطعت يد السارق هل يجوز أن تعاد بعملية جراحية أم لا يجوز؟ هذا مع أن حد السرقة لا يقام في أكثر دول المسلمين، ومع ذلك يسألون العلماء في بلاد كثيرة في الشرق والغرب: هل يجوز أن ترجع اليد أو لا ترجع؟ وهكذا أمور نادرة أو قليلة افتراضية ومثيرة للناس، وكثير من الناس أو العامة عقولهم مثل عقول الأطفال، فإذا رأوا الشيء العادي لا يثيرهم، وإذا رأوا شيئاً غريباً أثارهم ولو كان لا قيمة له ولا تأثير، ولا يعنيهم في شيء من أمورهم.
      فهم يأتون بأمثال هذه الأسئلة في مجلات الضرار، وفي جرائد الضرار، وفي برامج الضرار، ويشغلون العلماء بها، فيأتي الملحدون والشيوعيون ويقولون: الدين للواقع؛ فلم تشتغلون بهذا وتتركون الجماهير وتتركون الظلم وغيره؟ فيجد هؤلاء فرصة، ويجد هؤلاء أيضاً فرصة، والخسارة تكون على الأمة وعلى علمائها، وما ذلك إلا نتيجة مخالفة منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في طلب العلم وفي منهجه، وأنه لا يشتغل الإنسان بالإجابة إلا إذا علم من السائل أنه مستفهم يريد أن يعرف دينه وأن يعبد ربه، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يعرفون الواقع فعلاً، وكانوا يعلمون كيف يجيبون، وكانوا في كثير من الأحيان لا يفتون في الأمر؛ لعلمهم أنهم لم يسألوا من أجل الفتوى، ولكن من أجل أن يشغلوا.
      والأمثلة في هذا العصر كثيرة جداً في الأشياء التي يُشغل بها العلماء، فمثلاً: عندما جاءوا بمسألة تقنين الشريعة، فاشتغل كثير من العلماء بتقنين الشريعة، فقالوا: المادة الأولى.. المادة الثانية.. المادة الثالثة، ورتبوا الأبواب.. فمن هذا الذي هو مستعد أن يعمل بالشريعة؟! ومن هذا الذي ينقصه من العمل بالشريعة إلا أن تكون مواد قانونية؟! وهل عملوا ببدهيات الشريعة كتحريم الربا وتحريم الزنا؟! فهذه المسائل لا تحتاج إلى تقنين، فهل عمل بها؟! وهل لم يبق إلا مسائل في المعاملات فتقنن؟! ولكن اشتغل الناس بذلك، وشغل العلماء في كثير من بلدان العالم الإسلامي مع الأسف.. لجان تشكل لمناقشة الموضوع، ولجان تنقح، ولجان تطالب... وهكذا؛ وتيار الفساد مستمر، والانحلال مستمر، وهؤلاء مشغولون بذلك.
      ولو أنهم اهتموا بالدعوة إلى الله وانصرفوا إلى القيام بها، وإلى تربية الناس عليها، لأخرجوا جيلاً مؤمناً مستعداً للامتثال لأحكام الله، سواء قننت هذه الأحكام أو لم تقنن؛ لأنه جيل صادق ومخلص في امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
      فيجب علينا أن نتفطن لمثل هذه الأمور، ونعرف منهج السلف الصالح، ومتى كانوا يجيبون السائل ومتى لا يجيبون.
      أقول هذا لأن بعض طلبة العلم يشغل نفسه ويشغل العلماء بسؤال لا ينبغي الالتفات إليه.
      وإذا لم تعلم أن هذا السائل يريد أن يعرف دينه، فلا تشغل به، ولا تشتغل غيرك به.
      فكم من إنسان يترك الصلاة، ويأكل الربا، ولا يسألك عن الصلاة ولا عن الربا، ولكنه يسألك عن عدد الدراهم التي بيع بها يوسف عليه السلام...!
      فلا تدله على أحد المشايخ، ولا تعطه رقمه؛ لأن الوقت -ولا سيما وقت العلماء- ثمين، وربما كان هناك من سيسأل الشيخ في أمر مهم من أمور دينه، وإن العمر قصير، والطاقة الجسدية محدودة.
      وأسئلة هؤلاء كثيرة؛ تأتينا في كل وقت، ولكننا نعرض عنها وعن أصحابها.
      أما من جاء يسعى وهو يخشى.. من جاء مستفهماً مستعلماً، فهذا لو سافرنا معه إلى العلماء، فما علينا في ذلك من حرج، بل إن ذلك من الدعوة إلى الله ومن التربية على فعل الخير.
      ولهذا يقول الإمام أبو بكر ابن العربي : "الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة"، يعني أن يوضحها ويبينها ويفردها دليلاً دليلاً، "وإيضاح سبل النظر"، فيبين طريق النظر.. طريق التفكير وسبيل الاجتهاد، "وتحصيل مقدمات الاجتهاد"، فيبين كيف يمكن أن يحصلها هو، ويبين لغيره أيضاً كيف يمكن أن يحصلها، "وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد"، أي أنه لابد للعالم أو المفتي أن يعرف الأدلة في المسألة، ويستعين بلغة العرب، ويستعين بكلام العلماء ويطلع على أقوالهم، فيكون لديهم الآلة للاستنباط أو للاجتهاد.
      وبعد أن تهيأ لذلك، قال: "فإذا عرضت نازلة" أي: واقعة جديدة، يراد أن يعرف حكم الله فيها "أُتيت من بابها، ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها"، هذا هو المنهج الصحيح، أن يشتغل طالب العلم بطلب العلم في القرآن والسنة واللغة العربية، وكلام العلماء والأئمة، ويعد لذلك، فإذا وقعت واقعة، فعليه أن تأتيها من بابها، ويبحث عنها في مظانها، ويجتهد فيها بأسلوب الاجتهاد الذي يكون في مثلها، والله تعالى يفتح وجه الصواب فيها، فإن كان قولك صواباً فلك أجران، وإن كان خطأ فلك أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد.. هذا هو ديننا، لكن أن يقعد الإنسان ويقصر في آلة الاجتهاد ومقدمات النظر، ثم يفكر كيف لو وقع كذا.. أرأيت لو كان كذا وعرفنا حكم كذا.. فإذا جاء كذا، فما حكم كذا؟ فيشتغل بذلك، وهي أمور افتراضية لا تنتهي أبداً. ونضرب مثالاً مما نعايشه في أيام الحج، فكم من وقائع تأتي لم يسمع بها من قبل ويسأل العلماء عنها! وكل المشايخ يقولون: ما سمعنا بهذا ولا قرأنا عنه، وغيرها من الوقائع الكثيرة، فلو شغلنا بالافتراضات لضاع العمر؛ لأن الوقائع نفسها مع الزمن تتجدد كثيراً، فكيف لو اشتغلنا بالافتراضات؟!
      لكن إذا وقع الأمر فإنه -كما ذكر رحمه الله- يؤتى من بابه، ويبحث عنه في مظانه، ويفتح الله وجه الصواب فيه.
  3. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

     المرفق    
    وقد استدل الشارح رحمه الله تعالى على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، وهذا الحديث المشهور رواه الترمذي، وهو حديث صحيح بشواهده كما ذكر الشيخ؛ حتى قيل: إن هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو كذلك؛ لأن الإنسان إذا أخذ بهذا الحديث النافع الجامع الشامل وطبقه في حياته، وجد الخير الكثير، وأما ما قاله ابن عبد البر من البحث عن دينك وأن تستفهم وتستعلم لتعبد ربك على بصيرة، فليس من هذا الباب.
    ونذكر مصداقاً لهذا الحديث قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))[المائدة:101].
    ولَعَلّ القصة التي نزلت هذه الآية من أجلها معلومة، ففي البخاري وفي غيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الصحابة الكرام طالباً منهم أن يسألوه، فمن كان لديه أمر فليسأل، فقام أحد الصحابة وهو عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: { يا رسول الله! من أبي؟ قال أبوك حذافة }، فعاد عبد الله بن حذافة إلى أمه، فعنفته تعنيفاً شديداً، وقالت: ما رأيت أعق منك! إنا كنا في جاهلية، أرأيت لو قارفت ما قارف أهل الجاهلية، أتفضحني على رءوس الملأ؟!
    وفي بعض الروايات: {أن رجلين قال أحدهم: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة، وقال الآخر: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم تألم وغضب غضباً شديداً، حتى قام عمر وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم وألمه }.
    فكان ينبغي في مثل هذا الموقف أن يسأل الرسول عن أمر ينفع الناس، فهو لا يأتي إلا بخير صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى أن يُفتَح باب من أبواب الخير للمسلمين، ولكنه سئل عن شيء آخر فقيل له: من أبي؟ فصحح له رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه، فما الذي استفاد هو أو غيره من هذا السؤال.
    فهذا في الحقيقة مما لا يعني الإنسان، وقد قال الرسول عليه السلام: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فلا يسأل الإنسان عن أمر لا ينفعه أو لا يعنيه، والعمر أقل وأضيق من أن يشتغل أحد فيه بما لا يعنيه، وقد قال بعض السلف كلمة عظيمة تدل على فقههم -رضي الله عنهم- واهتمامهم بأمر دينهم، قال: "علامة إعراض الله سبحانه وتعالى عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه"، فإذا أردت أن تعرف هل الله معرض عن إنسان أم هو من أوليائه ومن أصفيائه؛ فانظر بماذا يشتغل هذا الإنسان، فإن كان يشتغل بما لا يعنيه، فاعرف أن الله معرض عنه، فماذا نقول في واقعنا الآن؟! كم من إنسان مشغول بتتبع الكرة ليل نهار! يتتبع أخبار المباريات من أولها إلى آخرها.. فقد شغله الله بما لا يعنيه، وكم من إنسان شغل بتتبع الأخبار التجارية وليس له رأس مال ولا تجارة! يريد أن يعرف الدولار والجنيه، وقيمة كل واحد منهما شغله الله بما لا يعنيه، وكم من إنسان مشغول بالحديث عن الناس وتتبع أخبارهم.. شغله الله بما لا يعنيه، ولو أنه ذكر الله وسبح واستغفر، وعمل لدنياه بما ينفعه وينفع أهله وأبناءه، لكان له في ذلك خير كثير.
    لكن إذا أحب الله عبداً وفقه للخير.. لحلقات العلم، ولمجالس الذكر، ولقراءة القرآن والسنة، وللعمل بالحق، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء هم الصفوة وهم الخيرة من هذه الأمة، جعلنا الله منهم.
    إذاً: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، إذا كان هذا في مقام التأدب مع رسول الله، أو مع العلماء، أو مع طلبة العلم، فما بالكم بهذا التأدب مع مقام الألوهية؟! فإذا قال أحد: كيف يعذب الله على هذا الذنب وهو الذي كتبه وقدره كما هو معروف في باب القدر؟! فيكون بذلك قد وقع في غاية الإساءة وفي غاية الاعتراض على الله سبحانه وتعالى الذي يظهر منه عدم الامتثال وعدم العبودية له سبحانه وتعالى، حتى وإن كان فيما لا يعني، وهذا واقع كثيرٍ من الناس، فمثلاً يقول أحدهم: رجل في جزيرة لم تبلغه دعوة الإسلام، فكيف يعذبه الله؟! ويأتي أحدهم ويجيبه! فهذا قد سأل عما لا يعنيه، والآخر أجاب بغير علم وبما لا يعنيه.
  4. الفرق بين من رد حكم الكتاب والسنة ومن تأوله

     المرفق    
    يقول الشيخ: "ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بُيِّن له الصواب ليرجع إليه".
    لابد من التفريق بين من رد حكم الكتاب وبين من تأول أحكام الكتاب؛ فمن رد حكم الكتاب فهو كافر، فمن قيل له: إن الله تبارك وتعالى شرع كذا أو أمر بكذا، فرده، وقال: لا نقبله، وهو خطأ، أو غير معقول، أو هذه همجية، أو هذا لا يتناسب مع الحضارة، أو أي نوع من أنواع الرد؛ فهو كافر، وليس له في الإسلام حظ بإجماع المسلمين عامة، أما من تأول حكم الكتاب، فإنه لا يكفر؛ فإنه لما قامت الفتنة بين المسلمين في عصر الصحابة، وقع الخلاف على التأويل وليس على التنزيل، فلم يقع الخلاف على أن القرآن منزل من عند الله؛ بل وقع الخلاف في فهم القرآن، فجاء الخوارج وقالوا: قال الله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57]، فجعل الله الحكم له وحده؛ فلما حكم علي الحكمين كفر بذلك! وقد كان هؤلاء الخوارج يسمون القراء؛ لشدة اجتهادهم وعباداتهم واشتغالهم بالقرآن، وكانوا أعظم جيش علي رضي الله عنه وأشد الناس في الدفاع عن مواقفه، وكانوا أعظم جنده، لكن كان فيهم الغلو، فقالوا: يجب أن نحارب البغاة والخارجين عن طاعة أمير المؤمنين، فلما وقعت حادثة التحكيم، قالوا: كيف حكَّم الرجال في دين الله، والله يقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57]؟! فخرجوا عنه -وكانوا بضعة آلاف- من أجل هذا التأويل، فتأولوا كتاب الله على غير حقيقته، وظنوا أن علياً كفر؛ لأنه خرج عن كتاب الله، أو رد حكم الكتاب، مع أن علياً رضي الله عنه ما رد حكم الكتاب، لكنهم جعلوه في منزلة من رد حكم الكتاب.
    ومن قبل ثار أهل الفتنة على عثمان، وزعموا أنه بدل كتاب الله، وأنه رد أحكام الله؛ لأنه ولى بني أمية وهم أقرباؤه، وترك غيرهم وهم أفضل منهم، ولأنه حمى الحمى، ولأنه أتم الصلاة وقد قصرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. فهل يعد هذا رداً لأحكام الله؟!
    هذا لا يعد رداً لأحكام الله، وإنما هو تأول واجتهاد، ولكنهم لم ينظروا إلى المسألة على أنها تأول، بل اعتبروا ذلك رداً، ولهذا كان الخوارج يكفرون علياً وعثمان تكفيراً يخرجهم من الملة؛ لأنهم يتهمونهم برد الكتاب، والحقيقة أنهم ما ردوا كتاب الله، ولكن وقع الاختلاف في تأويل الكتاب، وأحياناً قد يقع الخطأ حتى من عثمان رضي الله عنه، أو حتى من علي رضي الله عنه في فهم بعض الآيات، فقد يتأول آية على غير وجهها، لكن هذا لا يخرجه من الملة؛ بل يجعله في درجة المجتهد المخطئ ولا أقل من ذلك، لكن الخوارج جعلوا الأمر أمر كفر والعياذ بالله!
    ولذلك قلنا: إن هذا من الأمور المهمة؛ فإن الفلاسفة والباطنية وغلاة الجهمية وأمثالهم الذين يقولون: ما ورد في الكتاب من صفات الله كقوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وأمثال ذلك، فهذا مردود؛ لأن الأنبياء إنما جاءوا ليقربوا للعامة هذه الأشياء وليس هذا من الحقيقة؛ فهؤلاء قد ردوا حكم الكتاب، فهم كفار، لكن لا يكفر من يقول: الرحمن على العرش استوى، ويقول: الاستواء عقلاً يتضمن المشابهة أو تلزم منه الجهة، والجهة تتضمن الحيز، والحيز من أوصاف المحدثات، ولهذا نحن ننزه الله عن ذلك، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، والله جل جلاله تقدس عن صفات المحدثات.. إلى آخر ما في كتب أهل التأويل الذين أولوا بمثل هذه الشبهات، وهذه الشبهات باطلة لا شك في بطلانها، لكنهم لا يكفرون بذلك؛ لأنهم ما ردوا الكتاب، ولكن تأولوه وفهموه وأنزلوه في غير موضعه.
    وهؤلاء الذين يتأولون حكم الكتاب ما واجبنا تجاههم؟
    يقول: [ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بيِّن له الصواب حتى يرجع إليه]، هذه هي القاعدة، فيجب أن يبين له الحق والصواب، وأن تكشف هذه الشبهة وتزال؛ سواء كانت في باب القدر، أو في باب الأسماء والصفات، أو حتى في باب الأحكام، فإذا جاء إنسان، وقال: إن الخمر حلال، وهي من المشروبات الروحية، والعالم كله يشرب، ولا شيء فيها، فهذا قد رد حكم الكتاب، فهو كافر، وأما من تأول، كما حصل من الذين تأولوا قوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[المائدة:93]، على أن المؤمن التقي ليس عليه جناح فيما طعم من الخمر، قالوا: فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأهم هو التقوى والإيمان، فإذا اتقى العبد وآمن، فليس عليه جناح فيما طعم، وكان ذلك في أيام عمر رضي الله تعالى عنه، فلم يكفرهم رأساً، وإنما بين لهم وجه الصواب ليرجعوا إليه، فقال: "يبين لهم الحق، فإن أصروا على ذلك قتلوا -يعني كفراً- وإن عرفوا رجعوا"، فلما بين لهم الحق رجعوا؛ لأنهم لم يكونوا يقصدون رد حكم الكتاب، وإنما كان خطؤهم من تأولهم، فهذه الآية لم ينزلها الله من أجل أن الخمر حلال، فهي ليست ناسخة لآية الخمر، ولا مخصصة لها ولا مقيدة، وإنما هذه لها باب، وتلك لها باب آخر.
    إذاً: من تأول ليس كمن رد، فالذي يرد حكم الله سبحانه وتعالى، والثابت القطعي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكفر، وأما من تأوله على غير وجهه، فإنه يبين له وجه الصواب، ويبين له الحق لكي يرجع إليه.
    يقول رحمه الله: [فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله].
    ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله قوله تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] وقال: [فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب].
    فقال الشارح رحمه الله مبيناً معنى الآية: [لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه]، وهم الأشعرية كما ذكرنا، وهم الذين يقولون: إن الأمر يرجع إلى القهر وإلى القدرة، أي: إلى مجرد المشيئة أو الإرادة، ولهذا لو شاء لأدخل الجنة إبليس أو أفجر الناس، وأيضاً لو شاء لأدخل أعظم الناس تقوى النار، فيقولون: إن الأمر راجع إلى مجرد المشيئة، وهو رب الناس، ويملك كل شيء، وهو القاهر عليهم، فيفعل فيهم ما يشاء، فهل هذا هو الوجه الصحيح في الآية: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] أي لأنه ربهم فليفعل ما يشاء؟! نعم.. هو ربهم، وهو يفعل ما يشاء، لكن وفق حكمته ورحمته وعدله، فالحكمة أولاً في التشريع؛ فما شرع شرعاً إلا وله حكمة، فلم يشرع للعباد أمراً يعجزهم به، وإنما شرع لهم ما فيه الحكمة والخير والمصلحة، فإن أحسنوا فجزاؤهم الجنة، وهذا متفق مع فضله ومع رحمته، وإن عصوا وفجروا وفسقوا، فهؤلاء خالفوا حكمته التي شرعها، فإن عاقبهم فبعدله، وإن غفر لهم فبرحمته وفضله، إذاً له الحكمة وله الرحمة وله العدل سبحانه وتعالى.
    فهو سبحانه يفعل ما يشاء، لكن لا يخرج فعله عن مقتضى الحكمة والعدل والرحمة؛ بل قد كتب سبحانه وتعالى أن رحمته سبقت غضبه، وأن له عز وجل مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن وليدها، وادخر لعباده عنده تسعاً وتسعين رحمة.
    فالله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالرحمة ولا يعاملهم بالعدل، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في قوله تعالى: ((إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ))[الأعراف:167] يقول: في مقام الوعيد: ذكر فعله، وفي مقام الرحمة ذكر صفة ذاته، يعني أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان لا تنفكان عنه سبحانه وتعالى، ولكن العقاب فعله، فله سبحانه وتعالى أن يفعل وله ألا يفعل، فقد يعاقب وقد لا يعاقب من يستحق العقوبة، لكن من يستحق المغفرة لا يمكن أبداً أن يظلمه، بل يغفر له ويرحمه سبحانه وتعالى، وفرق بين إخباره عن فعله وبين إخباره عن صفته، وهذا من سعة رحمته سبحانه وتعالى وكرمه، وهو لكمال حكمته ورحمته وعدله: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23].
    فإذا جاء أحد وقال: لم فعل هذا؟ وكيف يفعل الله كذا؟ قيل له: هل أنت تؤمن بأن الله حكيم؟ فيقول: بلى أومن بذلك.
    إذاً فلماذا تسأل وتقول: كيف يعذبهم ولم تبلغهم الدعوة؟! وكيف يعذبهم وقد كتب ذلك عليهم؟! وكيف ينزل كذا؟! ولماذا يفعل كذا؟! إذا قلت ذلك، فمعنى هذا أنك لا تؤمن حقاً بأن الله حكيم وبأنه رحيم وبأنه عدل.
    هذا هو معنى: أنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، لا كما يقول الجهمية والأشعرية: لا يسأل عما يفعل لمجرد المشيئة أو الربوبية أو القهر.
    يقول: [وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] أي: سيأتي بيان مسألة التكفير وليس بيان مسألة التعليل؛ لأن مسألة التعليل ليس موضعها هناك، فسوف يأتي بيان الفرق بين من رد حكم الكتاب ومن تأول حكم الكتاب، والفرق بين الحالة التي يخرج فيها الإنسان من الملة، وبين الحالة التي لا يخرج فيها ويكون صاحب معصية، وذلك عند قول الشيخ الطحاوي: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، ولذلك نرجئ شرح ذلك إلى هناك، لكن يمكن أن تصحح هذه العبارة فتكون: بكل ذنب أو بأي ذنب ما لم يستحله، أو بحذف كلمة الاستحلال، فإما أن يلغى العموم أو تعدل العبارة؛ لأن هناك ذنوباً يكفر فاعلها وإن لم يكن مستحلاً لها، أي: أن هناك أفعالاً يفعلها الإنسان وهي بذاتها كافية في تكفير صاحبها، ولا يسأل: هل استحل أم لم يستحل؟!
    فليس الأمر على إطلاقه؛ كما قال الشارح في شرحه للعبارة في موضعها: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] قال: [ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج].