المادة كاملة    
لله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة، فما من فعل يفعله الله تعالى أو أمر أو شرع إلا وله فيه حكمة.. وقد أنكر الجهمية والأشاعرة حكمة الله في أفعاله؛ زعماً منهم أنهم ينزهون الله تعالى؛ مع أنه لم يسبقهم أحد إلى ما يسمونه تنزيهاً.
  1. إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى وشرعه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقوله: [فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين].
    اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع؛ ولهذا لم يحك الله سبحانه وتعالى عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه، وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك كما في الإنجيل: (يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟).
    ولهذا كان سلف هذه الأمة -التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً- لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم.
    فأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً به؛ بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله؛ فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال
    ] اهـ.
    1. إنكار الجهمية والأشعرية للحكمة والتعليل في أفعال الله وشرعه

      الشرح:
      هذه المسألة مما ينبغي أن يتطرق إليها هنا، وإن كان لها موضع في آخر الكتاب، ولا نحب أن ندعها ونتجاوزها؛ لأن هذا مقام يليق بها؛ ولأنها مما ينبغي معرفته لتعلقها بصفات الله سبحانه وتعالى، فإن كثيراً من أهل البدع كـالجهمية والأشعرية -وإلى يومنا هذا- يقولون ويؤلفون ويكتبون زاعمين ومدعين أنه لا حكمة ولا تعليل في أفعال الله تبارك وتعالى، ولا في شرعه ودينه؛ يقولون: لأننا عندما نقول: إن الله فعل كذا، من أجل كذا أو شرع كذا من أجل كذا، نكون بذلك قد جعلنا الله تبارك وتعالى يفعل الشيء من أجل حصول شيء آخر. وهذا لا يليق به -بزعمهم- لذلك فنحن ننزه الله من أن يفعل فعلاً أو يشرع شرعاً أو أمراً أو نهياً لغرض معين يريده سبحانه وتعالى.
      هذا هو مجمل شبهتهم، وإذا ما جئنا إلى الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح وجدناها تتنافى مع ذلك تمام المنافاة.
    2. رد شيخ الإسلام على نفي الجهمية والأشعرية لحكمة الله

      ٌيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه: (قد نقبت وبحثت في أقوال السلف قديماً منذ عصر الصحابة والتابعين، فلم أجد لهؤلاء الجهمية ومن اتبعهم شبهة، ولم أجد من سبقهم إلى ما يسمونه تنزيهاً، وهو نفي الحكمة ونفي التعليل في أفعال الله سبحانه وتعالى وفي شرعه ودينه).
      فهو قول لم يسبقوا إليه وإن زعموا أنه تنزيه لله سبحانه وتعالى، وبالأمثلة من الكتاب والسنة -وخاصة الكتاب- يتضح ذلك جلياً.
    3. أدوات التعليل في القرآن

      يكون التعليل بأدوات أوضحها: (لام التعليل)، فلام التعليل حرف مختص بالتعليل.
      وكذلك يكون التعليل بالجملة؛ سواء كانت اسمية أو فعلية.
      ولو نظرنا إلى القرآن لوجدنا أن التعليل فيه كثير جداً، يصعب حصره؛ بل جاء التعليل في القرآن بألفاظ هي من أصرح الألفاظ الدالة عليه، فقد ذكر الله تبارك وتعالى قصة ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ثم ذكر في آخر هذه القصة حكم القتل معللاً، فقال تعالى: ((مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا))[المائدة:32]، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى العلة في الحكم بأداة التعليل (من أجل ذلك)، لكيلا يقع القتل، ولكيلا تتكرر هذه الجريمة، وليعلم الناس بشاعة هذه الفعلة القبيحة، وهكذا يشرع الله الأحكام معللة.
      وقال تعالى : ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا))[الإسراء:32]، فعلل الله سبحانه وتعالى تحريم الزنا بأنه فاحشة، وبين لماذا قال: ولا تقربوا الزنا؛ لأنه فاحشة، ولأنه بئس السبيل لقضاء الوطر.
      وقال تعالى: : ((وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا))[النساء:22]، فقد علل الله سبحانه وتعالى تحريمه أن يتزوج الإنسان زوجة أبيه كما كانت العرب تفعله في الجاهلية.
      وقال تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ))[الأحزاب:53]، فالعلة هنا الطهارة؛ فمن أجل طهارة القلب؛ اسألوهن من وراء حجاب.
      فيأتي التعليل -كما رأينا- بالجمل الاسمية، وهو كثير جداً.
      ويأتي التعليل أيضاً بالجمل الفعلية؛ كقوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185]، وقوله: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا))[النساء:27-28]، فعلل الله سبحانه وتعالى ما ذكره من أحكام بأنه يريد بنا اليسر ويريد أن يتوب علينا، وأن يخفف عنا.
      وهكذا جاءت كثير من الأحكام في القرآن معللة.
      إذاً: التعليل في الشرع وارد بالجملة الاسمية وبالجملة الفعلية وباللام كما ذكرنا.
      ومن أساليب التعليل أيضاً: التعليل بأسلوب القصر، ومثاله قول الله تبارك وتعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56]، فهذا تعليل بأسلوب القصر، وهو نفي أعقبه استثناء، وهذا من أقوى الأدلة على التعليل؛ فأكد الله سبحانه وتعالى أن هناك علة من خلقهم، فالحكمة التي من أجلها خلق الثقلان هي العبادة، فالعبادة إذاً علة مرادة يريدها الله سبحانه وتعالى.
    4. نفي المبتدعة ورود لام التعليل في القرآن

      يقول نفاة الحكمة والتعليل كل لام تعليل في القرآن فهي لام عاقبة. فلم يثبتوا لام التعليل في القرآن.
      وهذا الكلام لا يختص بالمتقدمين منهم فقط؛ بل حتى المعاصرون منهم قالوا ذلك أيضاً.
      وقد وردت لام العاقبة في القرآن -لكن في مواضع قليلة- كما في قوله تبارك وتعالى: ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا))[القصص:8] وإذا ما نظرنا إلى الفرق بينهما فهمنا هذه الآية، وفهمنا قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56]؛ والفرق واضح؛ فالله تعالى خلقنا بالذات حقاً وفعلاً لكي نعبده، أما آل فرعون فلم يلتقطوه حقاً وفعلاً ليكون عدواً، إنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، لكن الذي حصل أن العاقبة كانت بخلاف ذلك، هذا هو الفرق بين لام العاقبة وبين لام التعليل.
      أما هم فيقولون في قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56]: معنى (ليعبدون): لتكون العاقبة أن يعبدوني؛ أي: لم يرد الله ذلك، ولم يكن له غرض في ذلك ولا حكمة.
      فنقول:
      أولاً: هذا ينافي الشرع، وينافي أصل الدين؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين ذلك، وقال الرسل أنهم ما بعثوا مبشرين ومنذرين إلا ليعبد الله وحده، وفهمت أممهم ذلك منهم، قال تعالى: (( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا))[الأعراف:70]، فالرسل قالوا ذلك، وأممهم فهمت ذلك منهم.
      ثانياً: هذا مخالف للعقل، فإن الذي يتأمل المعنى على اعتبار أن اللام للعاقبة -كما يقولون- يجد أن مقتضاه أن الجن والإنس كلهم يعبدون الله، والواقع خلاف ذلك، فمنهم من يعبده، ومنهم من يشرك به ويستكبر عن عبادته، فلو أنها لام عاقبة، أي: لتكون العاقبة هي العبادة؛ لكانت العبادة هي العاقبة، لكنها لم تكن كذلك، وهذا بخلافها في قوله تعالى: ((لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا))[القصص:8]؛ فقد كان عدواً وحزناً فعلاً، فليس الأمر إذاً كما يقول نفاة التعليل؛ لا من جهة الأدلة ولا من جهة العقل أيضاً.
    5. علاقة نفاة التعليل بالجبرية

      ومسألة التعليل مرتبطة بمسألة القدر، وقد وردت في آخر مبحث القدر فهي مرتبطة به؛ لأن الذين ينفون الحكمة عن أفعال الله سبحانه وتعالى -كـالجهمية والأشعرية- مذهبهم في القدر هو الجبر، على تفاوت بينهم، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفعل والعباد ليس لهم شأن، ويظنون أنهم يثبتون فعل الله، لكنهم في الحقيقة ينفون إرادة الإنسان ومسئوليته، وكذلك ينفون الحكمة والتعليل في أفعال الله سبحانه وتعالى. ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى، يفعل بمحض الإرادة والمشيئة لا لحكمة ولا لعلة.
      مثال ذلك:
      قالوا: لو أن الله سبحانه وتعالى شاء -ويمكن أن يشاء- أن يدخل أعظم الناس إيماناً النار، وأن يدخل إبليس -ومن مثله في الكفر- الجنة، لجاز ذلك؛ لأن مشيئته نافذة.
      فنقول لهم: لا يمكن هذا، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء أسباباً وحكماً، وحكمة الله تنافي ذلك، فيجيبون بقولهم: نحن لا نعلل؛ فإن المسألة مجرد مشيئة!
      فبهذا المثال يعرف الفرق الكبير بين مذهب أهل السنة وبين مذهب هؤلاء الجهمية والأشعرية؛ فـالجهمية والأشعرية يرون أن الله يفعل لمجرد المشيئة فحسب، فلو شاء لعذب المؤمنين ونعَّم الكافرين، ولو شاء لفعل العكس، لكن المؤمنين -الذين هم على مذهب أهل السنة والجماعة، ويعلمون صفات الله سبحانه وتعالى كما أمر- يقولون: لا يمكن ذلك، ولا يفعل الله ذلك؛ لأنه أخبرنا بخلافه، وحكمته سبحانه وتعالى ظاهرة فيما دون ذلك من الأمور والأفعال والأحكام، فلو قال قائل: يجوز أن يعذب الله المؤمنين وينعم الكافرين، لقلنا له: لا يجوز ذلك، ومن قال ذلك فقد افترى على الله سبحانه وتعالى، فإن قال: إنه يقول: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] قلنا: حقاً، إنه تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولكن أيضاً له حكمة، وقد قال: ((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:84].. ((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))[الأنعام:18].. ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[إبراهيم:4].. ((أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ))[هود:45]، وآيات كثيرة جداً فيها إثبات أنه سبحانه وتعالى حكيم، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، فهو يتصرف بما لا يخالف مقتضى حكمته، ويفعل مقتضى الحق والصواب في ذلك، فلو أن أحد البشر أساء إلى محسن وأحسن إلى مسيء -ولو كان الإحسان إلى المسيء باباً آخر- لكانت الإساءة إلى المحسن لا تليق، فإذا كان ذلك لا يليق بحكمة البشر، فكيف بحكمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؟!
      ومن ذلك نعرف أن أفعال الله سبحانه وتعالى معللة، وأحكامه الشرعية أيضاً معللة، ولعل في هذا القدر كفاية، يتبين بها الفرق بين المذهبين.
  2. الفرق بين الحكمة والعلة

     المرفق    
    في أصول الفقه يفرق العلماء بين الحكمة والعلة، فالذي يستخدمه الأصوليون في باب القياس هو العلة؛ لأن العلة هي مناط الحكم، فالعلة: هي الوصف الذي علق الشارع الحكم عليه، أو: هي الوصف المقتضي للحكم، أو الموجب للحكم، أما الحكمة فإنها أشمل من ذلك وأعم، فهي الغرض أو الهدف الذي من أجله شرع الحكم -وهذا بتبسيط شديد- ومثال ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر، والعلة من تحريم الخمر هي الإسكار، ولهذا فإن الأصوليين ينظرون إلى أي مادة، فإذا وجدوها مسكرة قالوا: هي حرام؛ لأن العلة التي يدور معها الحكم حيث دارت، والمناط الذي يتحقق به الحكم، والوصف الذي علق الشارع الحكم على وجوده، هو الإسكار، فأي شيء يحدث الإسكار فإنه يكون حراماً، وعلى القول الصحيح: يكون خمراً؛ فليس التحريم قياساً على الخمر؛ بل لأنه هو خمر، لأن {كل مسكر خمر}، فهذه هي العلة.
    لكن الحكمة من تحريم الخمر هي ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ))[المائدة:91].
    إذاً: الحكمة غير العلة، فالحكمة من تحريم الخمر أن الخمر أم الخبائث، وأنها توقع العداوة والبغضاء والفواحش والمنكرات وكل خبيثة ترتكب.
    فعندما نقول: نحن لا نسأل على جهة الاعتراض في أفعال الله: لم؟! فإننا نقصد الحكمة.
    أما العلة من جهة المعنى الفقهي والمعنى الأصولي فإننا نسأل عنها حتى نعرف لماذا حرم هذا الأمر؛ ليتعدى حكم هذا الأمر إلى كل أمر يشابهه ويماثله؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين بحكمة، فلم يأت قط في ديننا -ولله الحمد- ما يفرق بين المتماثلات وما يجمع بين المتناقضات، إلا أن يظن الإنسان جهلاً منه أنها متماثلة أو متناقضة؛ كما قال الجاهليون: إنما البيع مثل الربا، فالمتماثلات في الدين حكمها واحد، والمتناقضات لا تجتمع، فمن أجل ذلك لا بد أن نعرف العلة بالمعنى الفقهي الأصولي، لنعرف أحكام الله سبحانه وتعالى في ذلك.
    أما بالمعنى الأعم، فهل نسأل: لم حرم الله سبحانه وتعالى هذا أو ذاك؟
    الجواب: إن كان هذا السؤال هو للبحث عن العلة التي إن وجدت في أي شيء فهو يحرم، فهو صحيح ولا بأس به، وإن أردنا الحكمة من تحريم الخمر، فهذا له مجال آخر فيه تفصيل أيضاً.
    فإن كان المقصود بالسؤال معرفة الحكمة، وتلمسها، والوصول إليها، والاستفهام والبحث عنها؛ حتى يزداد الإنسان إيماناً، ويزداد بعداً عما حرم الله، فهذا لا بأس به، وأما إن كان السؤال على جهة الاعتراض -وهو الذي نص عليه صاحب المتن الإمام الطحاوي رحمه الله- فهذا هو الذي فيه رد لحكم الكتاب، وهذا الذي سنتحدث عنه، ونذكر ما هي أنواع الرد، وما هي أنواع الاعتراض على الكتاب، ومتى يكفر المعترض؟ ومتى لا يكفر؟
  3. حكم من اعترض على فعل الله أو شرعه أو حكمه أو قدره

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله: "كما قال تعالى في كتابه: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين". وهذا هو الذي يقوله الظالمون الملحدون الذين رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))[الحجر:85]، هؤلاء هم الذين يعترضون على أفعال الله سبحانه وتعالى، وقد يعترضون على أحكام الله وقدره.. فأبواب الاعتراض كثيرة.
    فالاعتراض إذا كان على فعل الله أو حكمه أو قدره على جهة الرد للحكم وعلى جهة الاستكبار، وبيان أنه لا حكمة من فعل الله؛ فهذا يكون رداً للكتاب، ويكون كفراً مخرجاً لصاحبه من الدين؛ لأنه منافٍ للعبودية التي شرعها الله تبارك وتعالى للعالمين.
    ومن أوضح الأمثلة على ذلك: اعتراض إبليس اللعين -أعاذنا الله منه ومن شره- فإن الله سبحانه وتعالى أمره أن يسجد، فاعترض وأبى وأخذ يسأل ويقول: ((أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا))[الإسراء:61] وبين إبليس علة عصيانه لربه وكأنه يصحح خطأً وقع فيه ربه عز وجل: ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12]، وفي هذا رد لأمر الله سبحانه وتعالى، ونفي لحكمة الله، وهذا يتنافى مع مقام العبودية، وفاعل ذلك يكون كافراً كما كفر إبليس اللعين.. وسيأتي إيضاح هذا -إن شاء الله- فيما بعد.
    وقد أردنا هنا أن نلم بأطراف الموضوع حتى نعرف لماذا قال المصنف: "ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بين له الصواب ليرجع إليه"، فمن رد حكم الكتاب لا على سبيل الاعتراض، ولكن على سبيل التأويل، كمن كانت لديه شبهة يتأول بها الكتاب، أي يتأول بها الدليل، فإن هذا لا يكفر إلا بعد أن تكشف له شبهته ويبين له الدليل، وتقام عليه الحجة.
  4. مبنى العبودية على التسليم والانقياد لله تعالى

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله: [اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع]. إذا كان العبد كلما جاءه أمر من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما الحكمة في تحريم هذا الشيء؟! ولماذا كان ذلك الشيء حلالاً؟! وربما قال بعضهم: أريد أن أقتنع..! فإن هذا منافٍ للعبودية؛ لأن العبد عليه أن يؤمن ويسلم ويذعن لله سبحانه وتعالى؛ فإذا آمنا وسلمنا وأذعنا لله، ثم بعد ذلك سألنا أهل العلم واستفهمنا عن هذا الشيء على سبيل زيادة الإيمان وتقويته، وزيادة الاتباع والطاعة، والزيادة في العلم بحكم الدين وأسرار الشريعة.. فإذا كان القصد كذلك فلا بأس، لكن أن يكون السؤال عنها لكي يقتنع الإنسان ويسلم ويذعن؛ فهذا هو الذي لا يتفق مع مقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى.
    1. العقلانيون والتسليم لأوامر الله

      يقول المصنف رحمه الله: "ولهذا لم يحك الله سبحانه وتعالى عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به"، ولو أن أي أمة من الأمم سألت نبيها عن الحكمة -سؤالاً اعتراضياً- لما كانت مؤمنة، فلو أن قائلاً قال: أريد أن أفهم لماذا كانت صلاة الفجر ركعتين والظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟
      ولنفترض أننا أخبرناه بأن هناك حكمة، ثم سأل: لماذا نصوم رمضان؟ فأخبرناه بوجود علة... وهكذا على كل شيء يريد علة، فأين عبوديته لله؟! ليس هناك عبودية؛ لأن العبودية أن يستسلم الإنسان وينقاد ويذعن لأمر الله.
      ولو سأل سائل يؤمن بذلك ويقر ويذعن، وقال: اذكروا لي بعض ما يخفى علي من حِكَم صلاة الجماعة، فقلنا له: صلاة الجماعة فيها من الخير: اجتماع المسلمين، وتفقد أحوالهم، وتكثير سوادهم، والتعاون على البر والتقوى، وذكرنا له هذه الأمور، فإن هذا شيء حسن؛ لأنه يريد الاستعلام والإيضاح فأوضحنا له، أما الذي يسأل على سبيل الشك أو على سبيل الاعتراض فسؤاله هو الذي يتنافى مع مقام العبودية.
      يقول المصنف رحمه الله: "فلو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها"، وهذا -كما ذكرنا- موجود في من يقولون: نعرض ديننا على العقل، فإن قبله آمنا به! ولو أن الأعراب الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الدين؛ قالوا له: نرجع إلى قومنا، فنعرض الأمر عليهم، فإن آمنوا آمنا، وإن لم يؤمنوا لم نؤمن، فلن يكون هؤلاء مؤمنين ولا مسلمين؛ فكذلك لو قال الإنسان: أنا مسلم، ولكن لا أومن بشيء حتى أعرضه على عقلي، فلو آمن به بعد ذلك، فإنما ذلك لأنه عرضه على عقله ووافقه، أما إذا لم يوافق عليه عقله فلن يؤمن..! فأين إيمانه إذن؟! هذا ليس بإيمان؛ بل هو مثل قول أولئك الأعراب الذين قالوا: نعرض الأمر على شيخ قبيلتنا، فإذا وافق قبلناه وإلا رددناه.
      وهذا داء عظيم تسرب إلى الأمة الإسلامية؛ ففي باب العقائد يقول من جاءته الأدلة على إثبات صفات الله: نعرضها على العقل وعلى القواعد والبراهين المنطقية والجدلية، وفي باب الأحكام كذلك يقول من أتاه الدليل الصحيح: أنتظر حتى أراجع المذهب وشيوخ المذهب؛ مع أنه قد جاءه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن بالحديث، ولن يؤمن به إلا إذا وجد أنه معمول به في المذهب، وإن لم يجده قال: هذا إما ضعيف أو منسوخ؛ لأنه لا يمكن أن يخفى على علماء المذهب أو على إمام المذهب! فهذا شبيه بذاك -نسأل الله العفو والعافية- لأن أمرهما مبني على عدم التسليم والانقياد والإذعان، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] أي: تسليماً كاملاً، أما من قال: حتى أراجع أو أنظر، فهذا لم يسلم.. لكن يحق له المراجعة في حالة واحدة؛ وهي إذا أراد أن يتأكد من صحة الحديث، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فإذا تبين أنه حكم الله أو حكم رسوله فلا اعتراض وهذا مقام الإيمان؛ فالتأكد حق وهو من الدين، ولا بد أن يعرف المسلم عمن يأخذ دينه.
      إن المصيبة أن الأمر أكبر من ذلك، وأكبر مما يظن؛ فالله تبارك وتعالى قد حرم الخمر والزنا واختلاط الرجال بالنساء، وإذا بقائل يقول: لا نقر تحريم الخمر أو الزنا أو الاختلاط حتى نعرض الأمر على مجلس البرلمان أو الأمة أو غيره... فهل هذا انقياد لحكم الله؟! وهل هذا مقتضى العبودية لله؟! يأمر الله وهم يقولون: لا نفعله حتى نراجع البرلمان والدساتير!
      ففي هذه الحالة تكون العبودية لهذه الأسماء وليست لله.. تعطي لها صفة الألوهية التي هي خالصة لله تعالى، وهذا هو عين ما فعلته الأمم قبلنا؛ من الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ولهذا يقال: (مبنى العبودية على الاستسلام والانقياد والإذعان لأمر الله سبحانه وتعالى)، فلا تعترض عليه ولا تقول: لم؟! وكيف؟! على سبيل الرد.
    2. تمثل صفة الانقياد والتسليم في سلف الأمة

      يقول المصنف رحمه الله: [بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفت، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته]، فإذا عرفنا شيئاً من حكمة الله، فالحمد لله، ونزداد إيماناً، وما لم نعرفه وخفي علينا، فلا نتوقف في العمل به حتى نعرف الحكمة، بل نعمل، وكذلك في أفعال الله سبحانه وتعالى، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، فلا نعترض بأي حال من الأحوال، فإن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
      يقول: [ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك؛ كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟]، وهذا من أخبار بني إسرائيل، وليس هو للاستشهاد أو الاعتماد، وإنما هو على سبيل الاستئناس، والأخبار المروية عن بني إسرائيل -مما هو حق في ديننا- تذكر وتنقل، لا للاعتماد والاحتجاج، لكن للاستئناس، كما يذكر المثل من كلام العرب، أو الحكمة من حكم الحكماء، أو القول من أقوال البلغاء.
      ثم قال المصنف: [ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً، لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟]
      فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يقولوا: لم حرم الله الخمر؟ بل عندما نادى المنادي: إن الله حرم الخمر، جرت بها الأزقة في المدينة .. فقد كانوا محققين لعبودية الله سبحانه وتعالى، وليس الحال كحال ضعاف الإيمان في آخر الزمان؛ إذا قيل له: حرم الله سبحانه وتعالى الاختلاط بين الرجال والنساء، قال: الواقع قد تبدل وتغير، ونحن نريد أن نوفق بين العصر وبين مطالب ديننا، ونوفق بين شريعتنا وبين التحضر.
      سبحان الله! هذا هو الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به عن المنافقين أنهم: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا))[النساء:62]، فإنهم قالوا: نريد أن نوفق بين حكم محمد صلى الله عليه وسلم وبين حكم كعب، أو حكم قاضي جهينة على الرواية الأخرى في سبب نزول قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:60].
      فدعوى التوفيق والإحسان مهما كانت فهي من دعاوى المنافقين ولهذا لم يسأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.
      يقول الشعبي رضي الله عنه ورحمه: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء -يعني الناس في عصره- لكان عامته: (ويسألونك)]]، مع العلم أن الشعبي من التابعين، أي: لو كان هؤلاء الناس في عصر التنزيل لكان عامة ما في القرآن من الآيات (ويسألونك)؛ لكثرة أسئلتهم.
      وإن الناظر في كتاب الله عز وجل يجد بضعة من المواضع جاء فيها (يسألونك)، وبعضها للصحابة، وبعضها للكفار، فعلينا أن ننظر كيف كان أدب الصحابة وأدب المؤمنين مع ربهم ومع نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يعترضون.. بل لا يناقشون ولا يبحثون؛ إنما يذعنون ويسلمون تسليماً مطلقاً، من غير ممانعة ولا معارضة ولا مدافعة ولا منازعة.
      وقد قال المصنف رحمه الله: "ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً"، فالجملة الاعتراضية هنا "التي هي أكمل الأمم..." لها حكمة، وذلك أن الذين يردون الدين يجنحون للتعلل بالعقل وبالعلم وبالمعرفة وبالفكر وبالتأمل، ولم يوجد -ولن يوجد- في أي جيل من الأجيال أكمل من الصحابة عقولاً ومعارف وعلوماً، ومع ذلك كان موقفهم الاستسلام والانقياد والإذعان، ولم يقولوا: لم أمر الله بكذا؟ ولماذا نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟.. يقول المصنف: "لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم"، فمن كلمة (الإسلام) نعرف معنى الدين وما حقيقته، فكلمة (الإسلام) تعنى: الاستسلام والانقياد والخضوع لله سبحانه وتعالى من غير اعتراض؛ فمن أبى واعترض، فهذا غير مسلم، وإن زعم ذلك.
  5. مراتب تعظيم الأمر

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [فأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح مع الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً].. هذه المراتب تدل على حال المؤمن وعلى درجات الإيمان.
    فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يشمل القول والفعل الظاهر والباطن، فأول مراتب الإيمان هي: فعل القلب الذي هو التصديق بأن هذا حق، وأن الله سبحانه وتعالى أمر به أو شرعه، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر فأول شيء يجب علينا هو: أن نصدقه صلى الله عليه وسلم أن هذا من عند الله.
    ومثال ذلك: الصلاة؛ فإن أول ما يجب علينا فيها: أن نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء من الأمر بها في الكتاب أو السنة أنه من عند الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما بلغنا عن ربنا تبارك وتعالى.
    "ثم العزم الجازم على امتثاله" فبعد قول القلب واعتقاده وتصديقه وإقراره يكون عمل القلب، وهو: العزم والنية واليقين والإخلاص، وهذه كلها من أعمال القلب، والشيخ هنا يريد أن يتكلم عن مسألة التطبيق والامتثال فقط، ولذلك يقول: العزم الجازم على امتثاله.
    إذاً: يعقد النية والعزم، فمثلاً: يقول: الله أمر بالصلاة، وحرم الزنا والاختلاط، فأنا سأمتثل ما أمر الله به، وسأنتهي عما نهى الله عنه.
    [ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع]، والقواطع والموانع كثيرة، وكم قد قطعت من عزائم الرجال! فلابد أن تتصل العزائم وتنفذ الأعمال، وإلا فكم من إنسان عزم وهم وجزم ففترت الهمة! وقد سئل بعض السلف: بم عرفت ربك؟ فقال: بضعف الهمم وانقطاع العزائم.
    ولهذا فاق السلف من الصحابة رضي الله عنهم كل من جاء بعدهم؛ لأنهم يعزمون ويهمون، فلا تضعف الهمة ولا تنقطع العزيمة.
    أما حالنا -نحن الشباب- اليوم، فإلى الله المشتكى!
    فلا يكفي الإنسان التصديق والعزيمة؛ بل يحذر من القواطع والموانع التي تصرفه عن عبادة الله والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وطلب العلم.
    [ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه]، ومن هنا نعرف أهمية العلم، وأن ذلك من الجهاد، وبذل الجهد لمعرفة الحق، لكي تؤدى العبادة كما أمر الله، أياً كانت هذه العبادة.
    [ثم فعله لكونه مأموراً به]، وبعد ذلك فعله لأن الله أمر به، وأثناء الفعل يستحضر الإخلاص، فإذا قيل له: لم تفعل هذا ؟ قال: لأنني عبد تعبدني ربي وأمرني أن أفعل.
    يقول المصنف رحمه الله: [بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله، وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال].
    إذاً: في أي حال من هذه الأحوال ابتداءً بالتصديق وانتهاءً بتنفيذه وفعله خالصاً لوجه الله، لا يخطر على بال المؤمن أبداً أنه يتوقف عن الإتيان به حتى تظهر له الحكمة التي من أجلها شرع هذا الأمر أو نهي عنه، هذا مع ما أسلفنا من إيماننا بأنه سبحانه وتعالى لم يتعبدنا بشيء إلا وفيه حكمة، لا شك في ذلك ولا ريب، فهو سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة في كل أمر وفي كل فعل، وهذا مقتضى اسمه الحكيم، فله الحكمة في خلق السماوات والأرض، وله الحكمة في إرسال الرسل وإنزال الكتب، وله الحكمة في تحريم ما حرم، وفي إيجاب ما أوجب سبحانه وتعالى، فما من فعل من أفعاله، ولا أمر من أوامره، ولا نهي من نواهيه، إلا وله في ذلك حكمة، لكن قد نعلمها وقد لا نعلمها؛ فلا يتوقف إيماننا بالله أو عملنا بأمره ونهيه الذي فيه حكمة على معرفة الحكمة والتفاصيل.
  6. محاولة بعض الدعاة إظهار أن الأحكام الشرعية موافقة لما عند الغرب من علم وحضارة

     المرفق    
    نحن في زمان قد ابتلينا فيه بما يسمى العلم أو العقل أو الحضارة، فنرى بعض الدعاة يدعون إلى الله بنفسية المنهزم الضعيف، فلا يمكن أن يشرح للناس أمراً من أمور الدين إلا ويقول: هذا الشيء فيه خير، ولا يتنافى مع الحضارة والعلم والتقدم، وكأنه يبرر ويدافع عن أحكام الله سبحانه وتعالى، وبعضهم يقول: هذا الحكم الشرعي مما يراه علماء الاجتماع والنفس والقانون والاقتصاد وغيرهم، ولو فرضنا أنهم لم يروه ولم يتوافق مع أقوالهم، فماذا نفعل؟! كثير من علماء الاقتصاد في الغرب يقولون: إن الربا ضار بالاقتصاد، فلو فرضنا أننا وافقنا وقلنا: الربا حرام، وتركنا الربا؛ لأن الغربيين يرون أنه ضار بالاقتصاد ويوافقوننا على تحريمه، فماذا سنفعل في المسائل التي لن يوافقونا عليها؟! فإن هناك مسائل لن يوافقونا عليها أبداً؛ مثل مسألة الاختلاط، ولو اقتنع الغربي بكل شيء، فإنه لن يقتنع بأن الاختلاط حرام، إلا إذا أسلم، أما قبل أن يسلم فإنه لن يقتنع؛ لأنه لا يتصور أمة نساؤها في البيوت ورجالها هم من يقومون بالأعمال فقط، وكذلك تحريم الزنا، فإنهم لا يتصورونه، وهاهم يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات من أجل مكافحة الإيدز، ولن يخطر ببالهم أن يعقدوا مؤتمراً من أجل ترك الفاحشة. أما نحن فإننا نعتقد حرمة الزنا، ونعلم حكمة الله في هذا التحريم، وأنه يجب علينا أن ننقاد لديننا حتى ولو لم يكن هناك مرض ولا إيدز. لكن الشاهد: أنا لو جعلنا ديننا عرضة لموافقة هؤلاء لضعنا وخسرنا، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، وعارضوا دين الله به، ولم يقبلوا ما جاء به الرسل بناءً على عقولهم، فلا يمكن لإنسان غربي -على سبيل المثال- اليوم أن يقبل أحكام الإسلام، ويعتقد أن هناك حكماً أفضل من الديمقراطية أبداً؛ لذلك فهو يظن أن الديمقراطية هي أعظم ما يمكن أن يصل إليها الإنسان. والإنسان الغربي ما وصل إلى الديمقراطية إلا بعد قرون من الكفاح، فهل من المعقول أن تأتي أنت وتقول له: حكم الإسلام أفضل؟! لا يمكن أن يقبل منك ذلك أبداً، ولو جعلنا ديننا عرضة لآرائهم، لاضطررنا أن نقول -كما يقول البعض-: الإسلام دين ديمقراطي؛ حتى يقبلوه ويعرفوا أن فيه حكمة، ونقول: الديمقراطية الإسلامية، والشورى ما هي إلا الديمقراطية. ولو عرضنا ديننا كذلك فإننا أولاً: نكون غير مؤمنين به، وثانياً: بهذا لن نجعل الغربي يدخل في دين الإسلام؛ بل غاية ما ينتج عن ذلك أن يقر بأن الإسلام لا يخالف ما هو عليه من حضارة، فلا يترتب على هذا أن يؤمن به، لكن إذا بينت له أنه يعيش في شقاء وضنك وجاهلية، وأن الإسلام يرتفع به إلى النور والعلم والمعرفة والحضارة؛ لربما آمن وأسلم. وكثيراً ما نسمع من يقول: إن الإسلام يتلاءم مع الحضارة ويواكبها ولا يتعارض معها، وإن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان! فهل المسألة مسألة صلاحية وعدم صلاحية؟! إن هذا دين وعبودية يجب أن نعبد الله بها، فمن الذي قال: إنه بعد عشرة قرون ينتهي حكم الله، ويؤخذ الحكم من الطواغيت، وتنتهي العبودية لله؟! هذا ناتج عن أن القلوب غير منقادة ولا مذعنة ولا مستسلمة لأمر الله؛ فيكبر عليها ويصعب أن تترك ما ألفته أو اعتادته من كلام أولئك الأقوام الذين تفضلهم وتعجب بهم.. لكي تطيع ربها، وتتبع سنة نبيها صلى الله عليه وسلم. إن الغربيين يرون أن المسلم حتى في مظهره وسمته وأدبه لا يجب أن يكون كذلك، وهو الشيء الذي يختص به لذاته، هذا مع إيمانهم بحرية الفرد كما يقولون، فأين الحرية الشخصية التي يزعمون؟! ولو فعل ذلك أحد على غير سبيل التدين لما أنكر عليه، فلو أن يهودياً أو أجنبياً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، أعفى لحيته، فلن ينكر عليه أحد؛ بل لا ينكرون عليه عندما يخرج إلى الشارع وعورته ظاهرة، ولو أن مسلماً رفع إزاره أو ثوبه إلى نصف ساقه، فسوف ينكرون عليه. إن هذا ناتج عن عدم الانقياد والإذعان لحكم الله وأمره، وسواء كان هذا في أصول الدين، أو في الأحكام، أو في الآداب، أو في المظاهر، فهو من الرضا بأقوال شياطين الإنس والجن، والناس يظنون أنهم بذلك يوافقون الحضارة، ويتواءمون مع العقل، ويسايرون الحرية! وهم في الحقيقة يسايرون الأوامر الإبليسية، والانحطاط والرذيلة، ويترفعون ويستكبرون عن شرع الله سبحانه وتعالى. ويجب أن نعلم أن الذي ينقاد لأمر الله ويسلم له، لا يخسر كخسارة من لا ينقاد لأمر الله ولا يسلم له، والضريبة التي يدفعها من يعرض عن أمر الله أضعاف أضعاف ما يقدمه المسلم من تضحية نتيجة تمسكه بأمر الله، وهذا من رحمة الله لأوليائه المنقادين لأوامره وشرعه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسلمين المؤمنين المنقادين لأوامره المذعنين له سبحانه وتعالى، المحكمين له ولدينه ولشرعه ظاهراً وباطناً؛ إنه سميع مجيب.